13/01/2016 - 14:05

ضد الحلول: الدولة والدولتين أيضا.../ نمر سلطاني*

ما نحتاجه هو ليس النقاش حول حلول مجردة، بل نحتاج إلى تحليل أشد عمقا لعلاقات القوة وديناميكيتها لكي نستطيع بناء حركة معارضة لمواجهة مباني القوة الظالمة

ضد الحلول: الدولة والدولتين أيضا.../ نمر سلطاني*

أحسن الصديق رامي منصور صنعا عندما فتح باب النقاش حول حل الدولة الواحدة. حيث يدهشني كل مرة من جديد استناد النقاش إلى مصطلحات مبهمة وعالية التجريد واحتدام الوطيس كأن النقاش ذو معنى. وأنا لا أقصد هنا التركيز على واقعية هذا الطرح أو ذاك، بل أريد إثارة السؤال حول جدوى النقاش من وجهة نظر انشغال الحركة الوطنية به ربما على حساب أمور أخرى.

وأقصد بشكل خاص فراغ المفاهيم الأساسية التي يستند إليها النقاش المتكرر من المعنى، بحيث لا يصبح واضحًا إذا ما كان هناك فرق عملي بين الدولة الواحدة والدولتين، فهناك عدد لا متناه من المباني الدستورية المتخيلة وليس من الممكن الحكم على الدولة الواحدة أو الدولتين كحل مستقبلي إلا إذا عرفنا هذه التفاصيل وقدّرنا النتائج المحتملة لهذه المباني الدستورية. وانعدام مثل هذه التفاصيل والدقة بطبيعة الحال قد يجعل النقاش برمتّه غير ذي جدوى وبلا طائل.

أولا، يجب الإشارة إلى أن المطالبة بالإعتراف بالهوية وحتى الغبن التاريخي يبقى قاصرًا إذا كان مقتصرًا على الجانب الثقافي أو الرمزي بدون تغيير السياق المؤسسيّ، لأن ذلك سيفضي إلى تكريس التمييز. وبالسياق المؤسسي لا أعني مؤسسات الدولة، بل 'المؤسسات' الاجتماعية وهي الأدوار والتقسيمات والتراتبيات التي يتم تبريرها وتكرارها، وهي التي تعطي للهوية سياقها وقيمتها وتربطها بالسوق والعائلة.

ثانيا، النقاش في مجمله يستند إلى فصل السياسي عن الاقتصادي، وفصل الدستوري عن التنظيم الحقوقي للحيز الخاص، وفصل الهيمنة في الحيز السياسي العام عن الهيمنة الثقافية في المجتمع المدني. لا يمكن التفكير بمبنى دستوري مستقبلي خال من السيطرة والهيمنة بمعزل عن تفكيك ومواجهة الهيمنة في المجتمع المدني (بمعنى كل ما هو ليس 'دولة'). التركيز على مبنى الدولة (واحدة أو اثنتين أو الخ) لا يؤدي إلا إلى تجريد علاقات الهيمنة من سياقها. وقد يؤدي إلى استمرار الهيمنة والسيطرة، سيّان إن قمنا بتسمية ذلك دولة واحدة أم دولتين. إذا كان الوضع الحالي استعمارا مباشرا فإنه سيتحول بعد 'الاستقلال' إلى علاقة نيو-استعمارية. الطرف المهيمن اقتصاديا وثقافيا سيبقى مهيمنا في كلتي الحالتين. أي أن العدالة قد تتحقق لفلسطين ولكن العدالة لن تتحقق للفلسطينيين.

ومرد ذلك أن علينا الانتباه إلى إمكانية قلب المصطلحات المجرّدة مثل 'السيادة' من خلال القانون الخاص المعني بالعلاقات الاقتصادية والعائلية. الإعلان عن السيادة أو السيادتين قد يكون خاليا من المضمون أو معاكسا لما يجري في المجتمع المدني. فمثلا رغم ان إسرائيل لم تعلن عن ضم الضفة (ما عدا القدس) بشكل قانوني عام (وذلك مخالف للقانون الدولي) إلا أن المحاكم قد قامت منذ عقود بتوحيد أنظمة الضرائب وقوانين العمل. وهذا يعني الاقتراب من نموذج الدولة الواحدة من الناحية القانونية (وهذا مختلف عن الادعاء عن حتمية الدولة الواحدة بسبب الحقائق التي فرضتها إسرائيل على أرض الواقع).

وكان الزميل ميخائيل كريني قد أوضح في بعض كتاباته الأكاديمية أن نزاعات العمل تؤدي إلى وضع معاكس للسياسي. فشركات المستوطنين طالبت المحاكم الإسرائيلية بتطبيق القانون الأردني على نزاعاتها في العمل مع العمال الفلسطينيين. وهذا يعني قانونيا رفض سيادة القانون الإسرائيلي بعكس موقف المستوطنين السياسي المعلن. ذلك أن القانون الأردني يميل إلى صالح أصحاب العمل. وبعكس ذلك طالب العمال الفلسطينيون بتطبيق القانون الإسرائيلي على نزاعات العمل بالضفة لأنه أفضل من الأردني بالنسبة لحقوق العمال. وهذا معاكس للموقف السياسي الفلسطيني المطالب بعدم إحلال السيادة الإسرائيلية في الضفة.

ثالثا، تجريد الاعتراف بالهوية والغبن من السياق المؤسسي، وتجريد الشكل الدستوري من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، مرتبطان بتشييء الحقوق. ومرد ذلك ليس فقط الخطأ في استعمال مصطلح الحق (إذ يتم استعماله كأنه يعني مجرد وجود مصلحة في أمر ما أو الحرية لفعل شيء ما دون مسؤولية قانونية). فالحق، أي المصلحة التي تُحمى قانونيا وبذلك تلقي على الدولة مسؤولية توفير وحماية المصلحة، في نهاية الأمر هو علاقة اجتماعية بين الناس (مثلا حق الملكية هو ليس علاقة بيني وبين بيتي. بل هو علاقة بيني وبين الآخرين بما يتعلق باستخدام ودخول وبيع البيت). تشييء الحقوق هو في أن نراها كعلاقة طبيعة لا علاقة اجتماعية.

ومعنى الحقوق المجردة (المساواة الخ) هو ليس ناتج دستور يتم تطبيقه بشكل ميكانيكي وواضح. فهذه الحقوق تخضع للتفسير والتطبيق من المحاكم والقضاة. وكونها عالية التجريد يعطي المجال لتفسيرات مختلفة بل ومتناقضة (حتى عند الخوض في قيم أساسية مثل المساواة). ومهمة التفسير هذه ليست بمعزل عن علاقات القوة وعن السياسة. وخلاصة ذلك أن على من يفكر بهندسة المبنى الدستوري ونظام الحقوق الذي يحتويه أن يفكر بسياق علاقات القوة الذي سيتم تطبيق فيه هذا النظام وعن إمكانية استخدام هذه الحقوق بشكل رجعي أو محافظ مما يعيد إنتاج الظلم السابق للمبنى الدستوري الجديد، خاصة أن الدستور يعني عزل العديد من الأمور من النظام الديمقراطي الانتخابي وتسليم القرار النهائي بشأنها للقضاة المحميين من تأثيرات النظام السياسي إلى حد كبير، لأن إستقلاليتهم هي جزء من 'دولة القانون'.

رابعا، يتبع منطقيا من النقاط الثلاث السابقة خطر صنمية (أو تأليه) الحقوق، أي تحميل الحقوق فوق طاقتها. أي أن ننسب إليها، وهي مجرد أمر اخترعناه نحن البشر، القدرة على تعويضنا عما ينقصنا في الواقع. فمثلما تحدث فيورباخ عن إسقاطنا على نموذج الإله رغبتنا بالخير (رغم وجود الشر)، ومثلما تحدث ماركس عن إسقاطنا على نموذج الدولة رغبتنا بالمساواة والمجتمع المتضامن والأخوي (في حين ينعدم ذلك في المجتمع المدني)، فكذلك نجد بعض المشاركين في النقاش حول الدولة/ الدولتين يُسقطون على نظام الحقوق والدساتير الرغبة بالاعتراف المتبادل والمتساوي والتصالح التاريخي. كأن مجرد تسمية الفنتازيا سيحوّلها إلى واقع. وهذا طبعا يُخفي من الواقع أكثر مما يُبين، ويحبط من العمل السياسي الجديّ أكثر مما يُنتج.

خامسا، التركيز على الدولة والحقوق التي ستحميها يُخاطر بتجزيء الواقع واختبائه خلف التقسيمات القانونية للقضية وللشعب الفلسطيني. ومن ضمن نتائج ذلك وجود توتر بين خطاب الحقوق المعتمد على القانون الدولي وبين المطالبة بدولة واحدة أيا كان شكلها، ذلك أن النظام القانوني الدولي منذ فترة ما بين الحربين العالميتين قد استقر على الفصل كحل للنزاعات، ولن ينفع توحيد الدولة عن طريق الضم لأن ذلك غير قانوني حسب النظام الدولي.

وأخيرًا، يبدو لي أن ما نحتاجه هو ليس النقاش حول حلول مجردة، بل نحتاج إلى تحليل أشد عمقا لعلاقات القوة وديناميكيتها لكي نستطيع بناء حركة معارضة لمواجهة مباني القوة الظالمة.

------

* الكاتب محاضر في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن

* النقاط الواردة في هذا المقال هي ملخص لمحاضرة ألقاها الكاتب في مؤتمر في جامعة 'بيركبيك' في لندن في آذار/ مارس 2015

التعليقات