27/04/2016 - 17:06

جدلية الحياة والموت وجدلية الإنسان والبيئة

كل المجتمعات تعاني من ظاهرة العنف وإن اختلفت نسبتها وامتداداتها من مجتمع لآخر إلا أن فهم جذور العنف ومصادر نموه وطرق معالجته هو العمل الأساسي في أي مجتمع كان

جدلية الحياة والموت وجدلية الإنسان والبيئة

العنف من المؤكد أنه مرفوض مهما تعددت أشكاله وطرق ممارسته، وإن كان ذلك من العنف الأخلاقي والكلامي، مرورا بالعنف الجسدي والجنسي، وصولا إلى العنف بقتل الآخر معنويا و/أو جسديا.

وتعاني كل المجتمعات في العالم من ظاهرة العنف هذه، وإن اختلفت نسبتها وامتداداتها من مجتمع لآخر إلا أن فهم 'جذور العنف' ومصادر نموه وطرق معالجته هو العمل الأساسي في أي مجتمع كان.

هل تكمن' غريزة العنف' في الإنسان، في كل إنسان كما كتب فرويد في نظرياته في علم النفس؟ ينمو الإنسان ويتطور جسديا ونفسيا من خلال العلاقات والتفاعلات المستمرة بين طبيعته وغرائزه (nature) وبين البيئة والحضارة (culture) في كل أشكال طيفها من ثقافة وفنون ونشاطات اجتماعية التي يعيش فيها منذ الولادة، والتي يتم من خلالها وبواسطتها صقل تلك الغرائز الطبيعية وتحديد مسارها الاجتماعي والإنساني وتحديد سلوك الشخص تجاه نفسه وتجاه الآخر.

وإننا نستطيع القول، كما هو معروف في الطب النفسي اليوم، إن البيئة التي يعيش فيها الإنسان تبدأ في بيت الرحم، وتستمر في خلال فترة الحمل حيث يعيش الجنين كل ما تعيشه أمه من تغيرات عاطفية وبيولوجية. ولذلك فإن وضع الأم الحامل الجسدي والنفسي هو بعلاقة مباشرة بما يكون لاحقا الحالة والصحة الجسدية والنفسية للمولود الجديد. وهنا تكمن أيضا أهمية البيئة العائلية العاطفية وليس فقط المادية التي تعيش فيها المرأة الحامل والتي يترعرع فيها فيما بعد الرضيع والطفل والشاب والإنسان بشكل عام.

وكما كتب فرويد فإن طبيعة الإنسان تتمركز حول قوتين متناقضتين في الاتجاه، وفي النتيجة وهذا ما سماه 'غريزة أو دافع الموت' (la pulsion de mort) 'وغريزة أو دافع الحياة'(la pulsion de vie).  أما 'غريزة الحياة' فتأخذ أشكالا مختلفة في ترجمتها العملية والسلوكية والتي تظهر في كافة العلاقات الإنسانية مثل الحب، السلام، مساعدة الغير، قبول الآخر مهما اختلفت آراؤه أو جنسه أو لونه أو جيله أو وضعه الصحي والجسدي ووووووو.

وكذالك فإن 'غريزة أو قوة الموت' تأخذ أشكالا مختلفة وتترجم سلوكيا بتصرفات تجاه الذات أو تجاه الآخر مثل العنف، الانتحار، القتل، الحرب، التخريب بكل أنواعه، رفض الآخر، تحطيم الآخر بواسطة السلطة الدكتاتورية والقمع ووووووو... أما البيئة التي يعيش فيها الإنسان فقد تختلف المجتمعات والحضارات في طرقها المتنوعة في خلق الأُطر والعادات والطقوس والعبادات والديانات من أجل 'ترويض' الإنسان وتحويل 'غريزة الموت أو الشر' فيه إلى علاقات إيجابية في معاملة الآخر وبالاشتراك معه من أجل بناء مجتمع يسوده الاحترام المتبادل وتعلوه الطرق السلمية والعقلانية في الحوار والنقاش، ووجود الحلول المقبولة إنسانيا من أجل التغلب على الخلافات والمشاكل الحياتية اليومية والمستقبلية.

وتشكل العلاقات العاطفية الإيجابية تجاه الآخر الأرضيّة الأساسية في خلق حب الذات وحب الآخر وحب الحياة، كما بين ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية ومن خلال معالجاته للأطفال في مراكز حماية الأطفال في إنجلترا طبيب النفس الإنجليزي René Spitz حَيْث كان أغلب الأطفال يعانون من مشاكل نفسية من الاكتئاب Dépression.

 وأكد Spitz أنه مع أن كل الظروف المادية كانت متوفرة بشكل جيد للعناية بالأطفال إلا أن المشكلة كانت تمكث في عدم توفير العلاقات العاطفية بين العاملين على رعاية الأطفال والأطفال، والتي هي أساسية من أجل نمو الطفل ومن أجل نمو الحياة ومحبة الذات والآخر عند الطفل، وقد سمى هذه الظاهرة بhospitalism  وهي حالة شديدة من الاكتئاب والتي تودي الى موت الطفل.

وفي نفس الفترة أيضا كان قد بيّن الطبيب الإنجليزي D.W. Winnicott في كتابه' Deprivation and Delinquency '  أهمية العلاقة العاطفية في مراحل النمو الأولى في حياة الطفل، والتي إن لم تتوفر قد تؤدي إلى سلوك العنف والجنوح الاجتماعي. وهذا ما يؤكده أيضا الطبيب الفرنسي Boris Cyrulnik في كتابه 'la nourriture affective ' حيث يُبين أهمية ما يسميه 'بالغذاء العاطفي' من أجل نمو الطفل السليم، وحاجته الأساسية من أجل خلق العلاقات الاجتماعية والإنسانية الإيجابية والتي تترجم بحب الذات وحب الآخر وحب المجتمع والبيئة.

أما البيئة التي يعيش ويترعرع فيها الطفل فتبدأ في البيت، وتكتمل في المدرسة والعمل والشارع والمجتمع بشكل عام. فالعنف الزوجي والعنف تجاه الأطفال وعدم احترام المرأة وعدم احترام الطفل وإن كان ذلك تحت غطاء تربوي أو ديني أو حضاري تؤدي جميعها إلى نمو 'غريزة الموت أو الشر' كما ذكر أعلاه، والتي تصبح الطريقة الأساسية التي يستعملها الطفل والشخص عامة في علاقاته مع ذاته ومع ال’خر ومع البيئة عامة، وتكون الطريق الوحيد الذي يلجأ إليه الشخص من أجل حل اي خلاف كان مع الآخر ومع المجتمع الذي يعيش فيه.

أما أهمية وجود واحترام القواعد الأخلاقية والتربوية العائلية والاجتماعية ودور الأب والأم والمعلم والموظف وكل إنسان في ممارستها واحترامها وتطبيقها هي أهمية قصوى وتشكل المرجعية الأساسية والنموذج الذي يقتدي به الطفل والشاب في سلوكه في كل مجالات الحياة.

ولعله من المهم أيضا التذكير بالعواقب الوخيمة التي تؤدي بها المعاملة العنيفة والسيئة للطفل في بيئته اليومية في البيت وفي المدرسة وفي المجتمع عامة. وقد بينت عالمة النفس Alice Miller في كتابها 'for your own Good'  بأن العنف تجاه الأطفال يتقنع في أغلب المجتمعات خلف قناع التربية وتحت مقولة 'هذا من أجل مصلحتك' الأمر الذي يؤدي إلى زرع العنف والشر عند الطفل والذي يحدد الكثير من علاقاته لاحقا مع الآخر والمجتمع عامة.

وقد بينت خلال كتاباتها أبعد ما قد يصل إليه الإنسان من عنف وقتل وكراهية للآخر شرحا واسعا لقضية الطفل Adolphe Hitler وأهمية العنف البيتي والمعاملة السيئة التي كان قد تربى عليها والتي كانت أحد أسباب، ربما أهمها، في بناء شخصية المجرم النازي وكراهيته الإبادية للآخر.

من المهم أيضا، في أم الفحم كما هو الحال في كل المجتمع الفلسطيني، اعتبار أن عوامل العنف والقتل والهدم والدمار لا يمكن تلخيصها فقط بأسباب سياسية كما اعتدناه دوما، وإنما لعله من الواجب أن نذهب معا وبنفس طويل المدى أبعد من ذلك من أجل خوض تحليل اجتماعي واقتصادي وسياسي ونفسي وإنساني من أجل فهم 'جذور العنف' ومحاولة التغلب على ظواهر العنف في أشكالها المختلفة.

خطوات عملية أولى في مشروع ضد العنف:

- انعقاد الموتمر القطري الأول تحت رعاية بلدية أم الفحم حول 'العنف: نظرة شاملة لفهم أسبابه وطرق علاجه'؛

خلق موسسات أو تفعيلها:

- جمعية حماية الطفل: وقد يكون من الممكن طلب ميزانيات خاصة من أجل خلق فرق مختصة في كل مدرسة مكونة من عاملة اجتماعي وأخصائي في علم النفس، والتي تكون باتصال مباشر مع الطلاب، وأن تكون عنوان وإطار يرجع إليه كل طالب في حالة تعرضه للعنف في إطار البيت او المدرسة، وبحالة وجود أي شك حول تعرض الطفل الأي نوع من العنف التوجه للجمعية المتخصصة في حماية الطفل والتي يمكن تشكيلها من طواقم مركبة أيضا من أخصائي في القانون وعامل اجتماعي وأخصائي نفس وطبيب نفس أو حتى طبيب عام؛

-  جمعية حماية المرأة: الخروج من الصمت والإعلان عن أي حالة عنف تتعرض لها امرأة في البيت أو العمل أو الشارع ودراستها بشكل قانوني، وإعطاء المساعدات الاجتماعية للمرأة أو العائلة وإجبار الشخص المعتدي، إن كان الزوج أو الأب أو الأخ أو الزميل في العمل على الذهاب إلى العلاج النفسي بقرار من القضاء؛

-  بداية خلق ورشات عمل تثقيفية من أجل شرح وكشف جميع أشكال العنف للناس عامة، وبشكل بسيط، تحت عنوان: 'لن نسكت بعد اليوم'.

 

* أختصاصي في الطب النفسي

التعليقات