27/06/2016 - 20:23

تركيا: تصفير مشاكل أم سذاجة سياسية؟

استخراج الغاز وتسويقه لأوروبا هو هوس نتنياهو وبلا الأتراك يبدو الأمر صعبًا. فاليونان وقبرص ليستا بجحم تركيا جغرافيًا واقتصاديًا وأسواقها ليست بديلة للسوق التركية.

تركيا: تصفير مشاكل أم سذاجة سياسية؟

في يوم واحد، انتقلت تركيا إردوغان إلى مرحلة جديدة في علاقاتها الإقليمية والدولية. اتفاق تطبيع علاقات مع إسرائيل و'اعتذار' غير مباشر لروسيا.

سياسة واقتصاد

ليس الأمر نصرًا تركيًا ولا هزيمة ولا انتهازية سياسية، وللقارئ حرية تسميته بـ'التنازل عن غزة' و'التخلي عن قضية فلسطين' أو 'تحقيق ما لم يحققه العرب لغزة' أو أن 'تفك مصر الحصار أولا'، لكن يمكن تسميته بـ'نضوج تركي' لكن بالاتجاه الخاطئ بعد فترة من السذاجة الدبلوماسية في الخمس السنوات الأخيرة، التي دفعت فيها تركيا ثمنًا مكلفًا على عدة أصعدة، أمنيًا وسياسيًا والأهم اقتصاديًا وتحديدًا على الصعيد الداخلي. فلم تحقق سياسات تركيا في المنطقة إنجازات كبرى بحجم تدخلها فيما يتعرض اقتصادها لهزات قوية نتيجة الإرهاب والتدهور الأمني في الداخل.

وكذلك الحال مع إسرائيل نتنياهو، يبدو أنها هي الأخرى وصلت إلى مرحلة أدركت فيها أن لا أفق لتطوير مشاريع الغاز دون الأتراك، فاستخراج الغاز وتسويقه لأوروبا هو هوس نتنياهو وبلا الأتراك يبدو الأمر صعبًا. فاليونان وقبرص ليستا بجحم تركيا جغرافيًا واقتصاديًا وأسواقها ليست بديلة للسوق التركية.

وهنا يجوز استعارة القول إن 'السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد'، إذ لا يمكن لإردوغان الاستمرار بطموحاته السياسية في المنطقة واقتصاده في خطر التراجع. وهكذا الحال أيضًا لدى نتنياهو، فاكتشاف الغاز في المتوسط لم يحقق نموًا ولا رفاهية 'دولة نفطية'، بل ظلت الوعود بالرفاهية حبرًا على ورق. وهو يدرك جيدًا أن تركيا تستهلك سنويًا نحو 45 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي وتحتل المرتبة التاسعة، وخلال أقل من عقد ستضاعف حاجتها للغاز، الذي يتوفر لها اليوم بالأساس من العدوين اللدودين روسيا وإيران، وتفيد تقديرات إسرائيلية أن شركات تركية معنية بربط بلادها بأنبوب لنقل الغاز من الحقول الإسرائيلية بكلفة ملياري دولار، وهو ما تراه إسرائيل فرصة هامة للوصول إلى الأسواق الأوروبية ودول البلقان.

تركيا والعرب

لم يوفر العرب على ما يبدو لتركيا التعويض اللازم اقتصاديًا نتيجة انقطاع علاقاتها مع إسرائيل التي تعتبر شريكة اقتصادية وسياحية وعسكرية قوية لها حتى سنوات قليلة مضت. وحتى 'خيبة الأمل' التركية من العرب زادتها خيبة تدهور العلاقات مع روسيا، وهي أيضًا مصدر للطاقة والسياحة  لتركيا. والحديث عن تعويض اقتصادي لا يعني فقط فتح الأسواق العربية والتبادل التجاري والزراعي، وإنما بتزويد تركيا بالطاقة اللازمة والتقنية المتطورة. إذ وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول العربية في العام 2014 إلى 53 مليار دولار ومتوقع أن يصل إلى 70 مليار مع نهاية العام المقبل، وهي أرقام كبيرة لكنها أقل من المتوقع. والعام الحالي فقط وصل حجم التبادل التجاري مع إسرائيل نحو 6 مليار دولار، وذلك رغم التدهور في العلاقات، ولأي محلل مبتدئ في الاقتصاد القدرة على إدراك أهمية التبادل التجاري مع إسرائيل لأن قطاعات كاملة مثل السياحة كانت قائمة على السياحة الإسرائيلية والروسية وبنيت من أجل ذلك قرى سياحية ضخمة. كما أن حجم التجارة البينية بين تركيا والشرق الأوسط وأفريقيا (أي العرب وإسرائيل) لا يتعدى 8 في المئة من حجم التجارة التركية مع الخارج، في مقابل تبادل تجاري بيني مع أوروبا يتجاوز 62 في المئة من حجم التجارة الخارجية. أي أن تحسين العلاقات مع العرب أقل من 10 في المئة من حجم التجارة الخارجية، رغم أن التبادل التجاري، بحسب وزير الاقتصاد التركي، بين بلاده والدول العربية ارتفع بنسبة 300 في المئة خلال 10 سنوات الماضية، وأن الصادرات التركية للدول العربية تمثل 25% تقريباً من إجمالي صادراتها للعالم البالغ قيمتها 171.5 مليار دولار في 2014.

وهذا يعني أن تحسين العلاقات السياسية مع العديد من الدول العربية كان بمقدوره أن يحقق ارتفاعا خارقا في حجم التبادل التجاري في تركيا، لكنه خيب الآمال نوعًا ما بعد تدهور العلاقات مع سورية ومصر والعراق والاحترابات الأهلية في المنطقة، إذ كانت تخطط تركيا لإقامة مناطق صناعية في عدة بلدان عربية كان من شأنه تحقيق قفزة كبيرة اقتصاديًا للبلدين.

خيبة العرب

لا يجوز لنا، نحن العرب، المزايدة على أي صديق أدار لنا ظهره ولو جزئيًا في مرحلة ما، طالما لم نكن أهلاً للصداقة بين الدول، إذ سبق التحول التركي الأخير تحولات قريبة في قبرص واليونان وتهافتها لتحسين العلاقات مع إسرائيل وفتح الأجواء للطيران الحربي الإسرائيلي لإجراء مناوراته.

ويعجز النظام العربي عن الحفاظ على هذه الصداقات وترسيخها لعاملين أساسيين، الأول أنه غير واثق بنفسه ولا شعوب حقيقية تدعمه، لذا يفقد الطرف الآخر الثقة فيه، ثانيًا لأنه ليس لديه ما يقدم لهذه الدول من إضافات سواء كانت تقنية متطورة أو علمية أو عسكرية. فالنفط العربي لا يكفي طالما لم يكن مستثمرا بالعلوم والتقنية العالية. فهذه الدول مثل تركيا واليونان وقبرص، وروسيا من قبلها، بحاجة ليس فقط لتسويق بضاعتها الغذائية أو الاستهلاكية اليومية، بل هي أيضًا بحاجة إلى شراكات متقدمة لتطوير منتجات في مجالي الأمن والطاقة، والنظام العربي ليس لديه ما يقدم. كما أنه يتعامل مع 'الشعوب الصديقة' على أنها حاشية ورعايا ولا يحاول مخاطبتها، لذا يحق لنا العرب إلا أن نعتب على أنفسنا.

 تفاصيل الاتفاق

على أهميتها، بنود وتفاصيل الاتفاق ليست الشيء الأهم في ما يجري، فهي كانت مطروحة كمقترحات منذ اليوم التالي للاعتداء على أسطول الحرية، وقبلت إسرائيل جزءًا منها ورفضت تركيا الجزء الآخر، وهو ما يعني أن التفاصيل ليست الأمر الجوهري، وإنما الحاجة لإحداث تغيير إستراتيجي في العلاقات الإقليمية للبلدين.

تركيا تدفع ثمنًا باهظًا لما يمكن تسميته بالسذاجة السياسية والدبلوماسية، ومهما بدا من الخارج وكأن للعدالة والتنمية مشاريع إقليمية ضخمة من إطلاق وسائل إعلام فضائية وإلكترونية ومشاريع خيرية عابرة للدول، لكنها في المحصلة لا تصلح لقوى إقليمية مثل تركيا، إذ طغت انفعالية إردوغان على الحسابات العقلانية في العلاقات الدولية، وبين عشية وضحاها استبدلت إستراتيجية 'تصفير المشاكل' التي وضعها مستشاره السابق ورئيس الحكومة لاحقًا، أحمد داوود أغلو، إلى انعدام الإستراتيجية وطغيان شخصية إردوغان على السياسية الخارجية،  وتحويلها أحيانًا إلى منازلة بين شخصين (القيصر بوتين والسلطان إردوغان مثلا)، وكذلك الحال في الملف السوري إذ طغت العشوائية على السياسية التركية، وفي العراق أيضًا.

وبالنسبة لنتنياهو أيضًا، الأمر الجوهري ليس بنود الاتفاق وإنما المصالحة مع تركيا، وهي كانت طيلة عقود شريكا أمنيًا هامًا وذراعا في تحالف الناتو. هذا فيما خرجت إلى العلن الأحاديث عن تسوية إقليمية تقودها السعودية، ولا بد أن يكون لتركيا دورًا في ذلك، في موازاة التحولات الحاصلة على الجبهة المقابلة، إذ توصلت إيران إلى اتفاق مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، فيما سلمت الأخيرة على ما يبدو مفاتيح المبادرة لروسيا صديقة إسرائيل، وهو ما ولد حاجة لدى النظام العربي وفي مقدمته السعودية لخلق كتلة موازية حتى بالتنسيق مع إسرائيل.

لا أشكك بالنوايا التركية تجاه غزة أو فلسطين، ولا أظن أن العلاقات بين إسرائيل وتركيا ستعود إلى سابق عهدها خلال الفترة القريبة، ولا تهمني تفاصيل الاتفاق ولا إن كان الرهان على إردوغان رابحا أم خاسرًا، فهو ليس قوميًا عربيًا ولا ثائرًا جزائريًا أو فلسطينيا، ويتصرف في نهاية المطاف وفق مصالح بلاده.

لكن، ما افتقده هو مصالح العرب في المنطقة، وفيما يبدو أننا على أبواب مرحلة عربية جديدة شديدة الانفجار، في البحرين والعراق وليبيا وغيرها، ليس لنا إلا ندعو أن تنجو قضيتنا من الاصطفافات الإقليمية الحاصلة، لأنه يتبيّن لنا يومًا بعد يوم أن كل نظام تاجر بقضيتنا يبحث عن اتفاقيات مصالحة تخدم أوطانه أولا، سواءً في طهران أو أنقرة أو غيرها، إلا العرب.

اقرأ/ي أيضًا لـ رامي منصور

التعليقات