25/07/2016 - 16:27

عبد الناصر المحبوب بلا منازع

كان كل أهل قريتنا يجتمعون في مقهى أبو أحمد شفيق سرحان لمشاهدة وسماع خطاب جمال عبد الناصر في عيد الثورة أو في عيد العمال في الأول من أيار.

عبد الناصر المحبوب بلا منازع

كان كل أهل قريتنا يجتمعون في مقهى أبو أحمد شفيق سرحان لمشاهدة وسماع خطاب جمال عبد الناصر في عيد الثورة أو في عيد العمال في الأول من أيار.

كان المقهى يكتظ  بالناس وكان يحضره الرجال والنساء على حد سواء، ولم تكن محطات تلفزيون سوى مصر، لم تكن إسرائيل( بدأت البث التلفزي 1968 ولا الأردن - بدأ 1969) بعد، أما قناة لبنان (بدأت عام 1959) لم تلتقط في قريتنا، والعراق أول تلفزيون عربي الذي بدأ البث في العام 1958 لم يصل بلادنا.

كنا أطفالا ننتظر قدوم قريب كي ندخل المقهى بمعيته لأن الدخول كان مشروطا باقتناء شيء ما مثل زجاجة مرطبات أو حبة مثلجات.

كان الجميع ينتظر خطاب جمال عبد الناصر بتشوق ولهفة، ولكن على شاشة التلفزيون لم يكن يظهر سوى النمش، وصوت البث غير الواضح، أحيانا تظهر صورة جمال للحظات ثم تختفي، فتثور عاصفة من التصفيق، وكان الجريء هو من يهتف أي هتاف، يُفهم منه محبة عبد الناصر وتأييده، وعادة ما كان يدعى للتحقيق بعض الشبان ممن حضروا خطاب جمال.

كانت الآمال كبيرة على عبد الناصر بتحرير  فلسطين، كانت الجماهير العربية على قناعة تامة بقدراته، وخصوصًا بعد خروجه منتصرًا عام 1956 من معركة تأميم القناة بعد العدوان الثلاثي على مصر، وسعيه للوحدة بين الأقطار العربية التي بدأها بالوحدة مع سورية عام 1958 والتي انتهت بانقلاب في سورية عام 1961 بعد بدء مسيرة التأميم في سورية على نسق التأميم في مصر.

لهذا كانت هزيمة عام 1967 صاعقة وصادمة للأمة العربية من المحيط إلى الخليج وخصوصًا للفلسطينيين، الذين كانوا على ثقة كبيرة باقتراب عودتهم إلى بيوتهم وقراهم ومدنهم التي هجروا منها بالقوة عام النكبة.

هزم عبد الناصر عسكريًا لأسباب وعوامل كثيرة أهمها أن الغرب كله ودول عربية وإيران وتركيا كانت داعمة لإسرائيل، ورغم هزيمته فالجماهير كانت تدرك أن مشروع جمال عبد الناصر نظيف، يسعى للتخلص من الاستعمار والاحتلال الأجنبي، كان مشروعًا وحدويًا للعرب ومشروع قيامة أمة بعد سبات طويل، أدركت الجماهير أن ناصر مشروع عدالة اجتماعية عندما وزع أراضي الإقطاع في مصر للفلاحين المعدمين وفتح باب التعليم المجاني لكل أبناء مصر وبنى السد العالي ليمنح الكهرباء والماء لكل بقعة في مصر.

كذلك فقد أسهم بتأسيس دول عدم الانحياز مع تيتو اليوغسلافي ونهرو الهندي عام 1955، ما منحه مكانة ووزنًا عالميًا، وكان داعمًا لحركات التحرر الوطني العربية في الجزائر وفلسطين حتى يومه الأخير.

تميز عبد الناصر بتواضعه وزهده في حياته اليومية فلم يستغل موقعه لادخار الأموال، لا له ولا لأبنائه كما فعل فيما بعد حسني مبارك والأسد  والقذافي  وعلي عبد الله الصالح وبن علي وغيرهم من حكام عرب الذين تقدر أموالهم بمئات المليارات من تعب وعرق وثروات شعوبهم.

كانت هزيمة 1967 كارثة على العرب، من ناحية الخسائر البشرية والمادية واحتلال الأرض فاستقال عبد الناصر، الأمر الذي حرك الملايين لتخرج بشكل تلقائي إلى الشوارع مطالبة بعودته وهم يهتفون "حنحارب حنحارب" . وبالفعل لم يمض شهران على الهزيمة حتى بدأت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، وهي عمليات فدائية وراء خطوط العدو، وقد استشهد خلالها رئيس أركان القوات المسلحة الفريق عبد المنعم رياض في التاسع من آذار/ مارس عام 1969 ، خلال معركة أدارها بنفسه، لم يكن بعيدًا فيها عن قوات ضفة السويس سوى 250 مترًا، فقلب صورة الضابط العربي الذي كانوا يزعمون أنه جبان يختبئ في مكان آمن بعيدًا عن جنوده.

 استمرت حرب الاستنزاف حتى وقف إطلاق النار في الثامن من آب/ أغسطس 1970 تكبدت إسرائيل خلالها خسائر كبيرة بالأرواح ( حوالي 1200 قتيل)، وهو تقريبا ضعف خسائرها في حرب 1967، ووقع إسرائيليون أسرى بيد المصريين، وأسقطت طائرات إسرائيلية ودمرت قطع بحرية مثل المدمرة إيلات، الأمر الذي رفع معنويات العرب من جديد وبفترة وجيزة جدًا، الأمر الذي يعني أن الإرادة بقيت قوية ولم تهزم وعادت ثقة الجيش العربي بنفسه.

إلا ان ناصر المحبوب بلا منازع رحل وهو في أوج الاستعداد للمعركة عام 1970، رحل وهو في قمة عنفوانه، مات مقهورًا على أثر الحرب الأهلية في الأردن التي ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين والأردنيين وبعد عقد اتفاق لوقف إطلاق النار وقرار انسحاب المقاومة من الأردن بعد مؤتمر القمة العربي في القاهرة عام 1970 في الثامن والعشرين من شهر أيلول/ يوليو الأسود رحل عبد الناصر فبكته الملايين في واحدة من أكبر الجنازات التي عرفت في التاريخ، وكان مأتمه في معظم بيوت العرب من المحيط إلى الخليج!

طبعًا، لم يكن كل شيء ورديًا  في حقبة عبد الناصر، فقد كانت هناك ملاحقات سياسية ضد المعارضين والمشكوك بولائهم، كذلك لم تكن هناك حرية تعبير وديمقراطية في المقاييس الغربية، وتغلغل الفساد في جهاز الحكم خصوصًا من قبل المقربين في الحكم الذين استغلوا شعبية ناصر واسمه ونظافة يده لأهوائهم، كذلك عرف عنه عداءه وإشكالية علاقته بالإخوان المسلمين، تحالف معهم في الثورة عام 1952 ثم قام بإعدام أحد أعمدتهم سيد قطب عام 1966 بعد توجيه تهمة التخريب له ولرفاقه بهدف الإطاحة بالحكم، وهناك الكثير من الدراسات والمقالات التي تضيء على هذه العلاقة وتاريخها وتشعباتها بين ناصر والإسلام السياسي، كذلك عن الملاحقات السياسية في فترة ناصر، إلا أنه يبقى بنظر المصريين والعرب أهم شخصية عربية في العصر الحديث وأحبها على قلوبهم بلا منازع.       

التعليقات