28/09/2016 - 19:06

مجزرة كفر قاسم: الدرس الذي لم تتعلمه إسرائيل

حددت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن غوريون ثلاثة أهداف لمجزرة كفر قاسم، الهدف الأول، خلق أجواء مضللة كما لو أن حربا توشك أن تقع مع الأردن وليس مع مصر. الهدف الثاني، خلق أجواء مناسبة من الخوف والرعب في المناطق المحاذية للحدود مع الأردن.

مجزرة كفر قاسم: الدرس الذي لم تتعلمه إسرائيل

(1)

ترفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والمنظمات اليهودية حول العالم، باستمرار، وبشكل منهجي، عقد أية مقارنة بين ما ارتكبه النازيون من جرائم ضد اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية (من المفيد أن نذكر هنا أن نحو40 مليونًا من شعوب الأرض في قارات العالم القديم وقعت، هي، أيضًا، ضحيّة للوحش النازي)، وبين ما ارتكبته إسرائيل، وما تزال، من جرائم ضد الشعب الفلسطيني قبل وأثناء وبعد قيامها في العام 1948 وحتى الآن. اعتقد أنه آن الأوان أن نعلن نحن، أيضًا، رفضا لهذا الرفض الإسرائيلي - اليهودي، مؤكدين على أن جرائم إسرائيل ضد شعبنا الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، أعظم من أن نبقيها أقل شأنا وأثرا وخطرا من جرائم أنظمة مجرمة ضد اليهود في الماضي.

يكتسب رفضنا هذا مشروعية أكبر ونحن نرى إسرائيل الأقوى عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا على مستوى الشرق الأوسط والعالم، ترتكب من الجرائم ما لا يمكن وصفه إلا أنه جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب ضد الفلسطينيين، كاملة الأركان حسب القانون الدولي ومواثيقه ذات الصلة.

الأدهى من ذلك والأمَرّ، أن إسرائيل رغم ما تملكه من قوة كما ذكرت، فإنها ما زالت تمارس عنفها وإرهابها ضد فلسطين وطنا وشعبا ومقدسات، مدعية 'حقها' المزيف في (الدفاع عن النفس!!!)، في مواجهة شعب أعزل لا يملك في مواجهتها إلا إصرار على التحرر، وإرادة لم ولن تنجح الآلة العسكرية الإسرائيلية في كسرها أوتركيعها، تتهمه دونما دليل يقنع الأطفال قبل الكبار، بأنه يسعى (لإبادتها وإنهاء وجودها!!!).

(2)

المشهد الإسرائيلي – الصهيوني منذ نهاية القرن التاسع عشر (مؤتمر بازل) وبداية القرن العشرين (وعد بلفور واتفاق سايكس – بيكو، والانتداب البريطاني واتفاقات ومعاهدات سيفر، وسان ريمو، ومؤتمر فرساي، لوزان)، يشمل في تكوينه البنيوي تبني اليهود نظريات جديدة في استعمار الأراضي الفلسطينية، تقوم على فكرة استبدال محاولات السيطرة المدنية أو السلمية بالسيطرة المسلحة، حيث كان من أكبر المتبنين لهذه النظرية الحركة الصهيونية العالمية التي قالت: 'إن اليوم الذي نبني فيه كتيبة يهودية واحدة هو اليوم الذي ستقوم فيه دولتنا'.

من أجل تحقيق أهدافها سعت الحركة الصهيونية إلى الترويج لثقافة 'البكائية'، 'عقدة المؤامرة'، 'عقدة الاضطهاد' و'عقدة الشعب الضحية'، والتي صاغت كلها العقلية الإسرائيلية التي صنعت الوجود الإسرائيلي والدولة العبرية بالتعاون مع دول الاستعمار والاستكبار العالمي قديمًا (بريطانيا وفرنسا) وحديثا (أميركا ودول أوروبا الغربية)، كما صنعت في ذات الوقت المأساة (الهولوكوست/النكبة) الفلسطينية المتدحرجة منذ بداية القرن العشرين المنصرم وحتى الآن. هذا هو التناقض الذي لا يمكن فهمه! كيف يمكن لليهود الذين عانوا الاضطهاد بكل أشكاله وأنواعه على يد أمم الغرب، أن يكونوا سببًا في مأساة الشعب الفلسطيني ونكبته التي ما زالت تنزف منذ قرن من الزمن وحتى الآن، وهو الشعب الذي لم يسئ لا هو ولا الأمة التي ينتمي إليها لليهود عبر تاريخها الطويل، بل على العكس تمامًا وباعتراف اليهود المنصفين أنفسهم؟

(3)

لجأتُ إلى علماء النفس أبحث عن جواب لهذه المعضلة، فوجدت تفسيرًا قد يكون شافيا إلى حد ما، يقرر علم النفس الحديث أن الشعور بالاضطهاد يدفع صاحبه إلى اعتماد سلوك عدواني يؤدي إلى كراهية الآخر. إسقاط هذه الحقيقية على اليهود/الإسرائيليين/إسرائيل، يكشف إشكالية أخرى تستحق التوقف والتأمل... لو وَجَّهَ اليهود حقدهم وعدوانيتهم ضد من ظلمهم وهم الألمان في هذه الحالة، لقلنا: هذا شيء طبيعي... أمّا أن يتحالف اليهود مع الألمان منذ التوقيع على اتفاقية لوكسمبورغ أو اتفاقية دفع التعويضات، وهي الاتفاقية التي وقعتها دولة إسرائيل مع جمهورية ألمانيا الاتحادية في أيلول/سبتمبر 1952 وحتى الآن، ثم يوجهون عداءهم بدلا منهم إلى أمّة احتضنتهم وآوتهم عندما شردتهم أوروبا وروسيا وغيرها من دول العالم، فهو المرض النفسي الذي لا أعتقد أن علماء النفس سينجحون يوما ما في تفسيره... الظاهرة الأخرى المثيرة ذات العلاقة بهذا التفسير النفسي، أن إسرائيل/اليهود/الصهاينة، بعد أن حددوا عدوهم (فلسطين: وطنا وشعبا ومقدسات) لأسباب ذاتية فكرية ودينية، وأخرى مصلحية تتعلق بمصالح الدول الاستعمارية في حينه بريطانيا وفرنسا في التخلص من اليهود من جهة، وزراعة (دولة غريبة) في قلب الشرق العربي والإسلامي لضمان حماية امتيازاتها ومصالحها في المنطقة من جهة أخرى، سعت إسرائيل منذ ذلك الوقت إلى تبرير جرائمها ضد فلسطين والفلسطينيين تحت غطاء كثيف من المساحيق سعيا لتحقيق هدفين اثنين. الأول، تحويل الضحية الفلسطيني الذي ذبحته الآلة الإسرائيلية بدعم دولي، وفقد وطنه وتحول إلى لاجئ، تحويله إلى 'إرهابي !!' (يهدد الوجود الإسرائيلي الشرعي!!). والثاني، حِرْصُ إسرائيل والصهيونية العالمية على إخفاء نواياها الاستعمارية وسياساتها الاستئصالية، بأقنعة توهم المتابع أنها حريصة على ضحيتها أكثر من حرّض الضحية على نفسها، وحديثها عن السلام والتسوية وهي أبعد ما تكون عنه ممارسة!

(4)

هل ابتلع المجتمع الدولي هذا الطعم الإسرائيلي – الصهيوني، حتى ما عاد يرى معاناة الضحية (الشعب الفلسطيني) الذي تطحنه الآلة العسكرية الإسرائيلية، كما تفتك السياسية الإسرائيلية بحلمه في الاستقلال والحرية؟! لا اعتقد أن المجتمع الدولي ومؤسساته الشرعية (الأمم المتحدة) وغيرها، بالسذاجة بمكان حتى يبتلعوا هذا الطعم وهم يرون انتهاك إسرائيل للقانون الدولي في كل ما يتعلق بالفلسطينيين وغيرهم. إذا، ما هو التفسير المعقول لوقوف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي أمام هذه الانتهاكات الإسرائيلية، إلى حد دعم هذه الممارسات وحمايتها بالفيتو ودعهما بالدولار وتغذيتها بالسلاح، وإن سمعنا اعتراضا فلا يعدو أن يكون بيان استنكار أو تعبيرًا عن قلق؟ التفسير الوحيد الممكن لهذه الظاهرة هو أن المجتمع الدولي لا يحتكم في سياساته تجاه الصراعات في الشرق الأوسط والعالم إلى مبادئ وأخلاق، وإنما إلى مصالح وحسابات أبعد ما تكون عن الأخلاق... يتخذ هذا الانحياز الغربي للإسرائيلي القوي مهما كان ظالما، بُعدا واضحا في غياب القوة العربية والإسلامية المساندة للحق الفلسطيني، والمؤثرة على متخذي القرار في عواصم الدول الكبرى ذات التأثير على المشهد...

يمكننا أن نفهم - وقد تفهمنا فعلا - الذات اليهودية التي عاشت الاضطهاد وتعرضت لجرائم الإبادة في كل أرجاء العالم الغربي الذي ترى فيه إسرائيل اليوم حليفها الإستراتيجي، وذلك عبر حقب التاريخ المتعاقبة وحتى الحرب العالمية الثانية، لكننا لا يمكن أن نفهم تناقضات هذه الذات وممارساتها الشنيعة والوحشية ضد شعبنا الفلسطيني خصوصا وأمتنا العربية والإسلامية عمومًا، الذين كانوا الملاذ الآمن لليهود عبر التاريخ والحماة لهم من جور (حلفائهم!!!) في الغرب، حتى اعترف منصفوهم بأن اليهود إنما عاشوا عصرهم الذهبي في ظل الكيانات الإسلامية على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان.

لا يمكننا أن نقبل باستئثار إسرائيل ويهود العالم بـ'السامية'، ونجاحهم في جر العالم الغربي المنافق لتبني نظريتهم حول 'اللاسامية' إلى درجة أنها لم تَعُدْ تعني إلا مَنْ يقوم ضد اليهود، عندها تقوم الدنيا ولا تقعد، اما أن يُضطهد المسلمون في العالم، وأن تتعرض رموزهم المقدسة للمهانة والهجوم الأرعن من أوساط سياسية وإعلامية، وأن يُستهدفوا جسديًا ومعنويًا، فهذا لا يعني أحدًا، ولا يحرك شعرة لا في أوساط اليهود (إلا نادرًا) ولا في أوساط الدول التي تدعي الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان.

هذا من جهة، أمّا من الجهة الأخرى، فإننا لا يمكن أن نقبل بالتمييز بين ألَمٍ وألَمٍ، وبين وجع ووجع، وبين مأساة ومأساة؛ فالألم الإنساني واحد، والوجع الإنساني واحد، والمأساة الإنسانية واحدة، لا يتجزؤون؛ لذا، فليس من المقبول أن يكون 'الألم والوجع والمأساة' اليهودية في التاريخ القديم والحديث (الهولوكوست)، مميزًا عن 'ألم ووجع ومأساة' الملايين من شعوب الأرض، الذين عانوا بشكل أشنع في كثير من الأحيان مما عانى منه اليهود.

'اللاسامية' و'الألم والوجع والمأساة' يجب أن تتحرر معانيها من سطوة البعض، لتكون ملكًا لكل مضطهد بعض النظر عن مِلَّتِهِ أو نِحْلَتِه أو عِرْقِهِ أو جنسه أو دينه أو لونه.

استمرارُ هذا الاحتكار اليهودي لهذه 'الأيقونات' الإنسانية، جَرَّأ إسرائيل –مع الأسف– ومن ورائها أوساط يهودية كبرى حول العالم، إلى النظر إلى الدول والشعوب من عَلٍ، وإلى احتقار مآسي الآخرين، خصوصًا، ضحايا جرائمهم من الفلسطينيين وغيرهم، وإلى تبرير وحشيتهم في التعامل مع شعبنا الفلسطيني بالرغم من أن القانون الدولي والشرعية الدولية والقرارات الأممية تقف كلها إلى جانب حق هذا الشعب في الحرية والاستقلال، وتقف كلها ضد ممارسات إسرائيل ضد هذا الشعب وعلى جميع المستويات: القتل، الإرهاب، الدمار، الحصار، مصادرة الأرض، انتهاك المقدسات، تهويد القدس والأقصى، توسيع الاستيطان، الاعتقالات، وبالجملة قتل ممنهج للحلم الفلسطيني بالاستقلال والحرية، ما يعرض الأمن والاستقرار الدوليين للخطر الحقيقي.

لا يمكن القبول، من الآن فصاعدًا، باحتماء إسرائيل بدرع 'اللاسامية' لتبرر جرائمها ضد الإنسانية، في الوقت الذي تُجَسِّدُ بنفسها النموذج الأسوأ لما يمكننا أن نطلق عليه 'لا سامية الأنا'... على شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية وعلى شعوب العالم وحكوماته أن يرفضوا هذه الثنائية البغيضة التي فتحت وما تزال أبواب جهنم على مصاريعها لتلتهم كل أمل في العيش الكريم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم.

(5)

قد يبدو كلامي غريبا أو جريئا، ولا أستبعد أن يتهمني البعض بتجاوز الخطوط الحمراء، وربما بـ'اللاسامية، لكني أُطَمْئِنُ الجميع، يبدو أنني لست الوحيد الذي وصل لهذه القناعة، فهنالك الكثير من اليهود قد وصلوا لذات القناعة، لا حبا في العرب والفلسطينيين، ولكن خوفا من أن يؤدي استمرار هذا السلوك 'البارانوي' الإسرائيلي – اليهودي إلى كوارث جديدة، تكون الكوارث القديمة معها ليس أكثر من (لعبة أطفال).

عند إحياء إسرائيل لذكرى 'الكارثة والبطولة'، العام الماضي (2015)، نشرت الصحف الإسرائيلية الكثير من المقالات والتحليلات لنخب يهودية عَدَّتْ إحياءها لذكرى اليهود الذين قُتلوا على أيدي النازيين عشية وخلال الحرب العالمية الثانية 'نفاقًا'، تفضحه جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.

 في مقالها الذي نشرته صحيفة 'يديعوت أحرنوت'، في عددها الصادر الجمعة 17.4.2015، قالت الكاتبة شارون كيدون 'إن الخوف من تكرار 'الكارثة' جعل الإسرائيليين لا يبدون أدنى اهتمام بآلام الآخرين، ومشاكلهم' ، وأضافت أنه بدلًا من أن تدفع أفعال النازيين الإسرائيليين 'ليكونوا أكثر كرمًا تجاه الآخر وأن يكونوا أكثر نقدًا لأنماط سلوكهم تجاه أولئك الذين يتفوقون عليهم من حيث القوة، فإن ما حدث كان العكس '. ودعت كيدون شعبها اليهودي إلى التخلص من الشعور بدور الضحية بفعل 'الكارثة'، والإصرار على تصوير اليهود في جميع أرجاء العالم وفي الكيان الصهيوني على أنهم 'لاجئون بتأثير الفعل النازي'.

من ناحيته لفت المفكر كوبي نيف في مقال نشرته صحيفة 'هآرتس' في نفس الفترة، الأنظار إلى حقيقة أن ما اصطلح على تسميته بـ'الكارثة' أو 'المحرقة' كانت نتاج 'الحضارة الغربية التي يمجدها الكيان الصهيوني' ويفاخر بالانتماء إليها، وتباهى بأنه امتدادها في بقعة تسودها أنظمة ديكتاتورية متخلفة'. مؤكدًا على أن 'الكارثة' لم تكن مجرد خلل في الحضارة الغربية، بل كانت تعبيرًا عن أبرز سمات هذه الحضارة، التي قامت على قتل الشعوب واستئصالها والاستيلاء على خيراتها.

في الوقت ذاته، هاجم المفكر اليهودي البارز ديمتري شومسكي، في مقال نشره موقع صحيفة 'هآرتس' الغرب بسبب تساهله إزاء الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، معتبرًا أن الحكومات الغربية جعلت ما قام به النازيون ضد اليهود قبيل وأبان الحرب العالمية الثانية مسوغًا للتعامل مع الكيان الصهيوني ككيان يحق له ما لا يحق لغيره من الدول. وأكد شومسكي أن الكيان الصهيوني 'ينافس أقذر الديكتاتوريات في جرائمها المنظمة ضد الفلسطينيين'، منوهًا إلى أن 'نادي الدول الديموقراطية الغربية بزعامة الولايات المتحدة تتحرك للدفاع عن إسرائيل لتواصل عدوانها'. منوها إلى أن الغرب يسمح للكيان الصهيوني أن يرد على المقاومة المشروعة للفلسطينيين بقتل المئات من الأطفال والنساء كما حدث في الصيف الماضي. وشدد الكاتب على أن أوروبا 'المسيحية' تحاول التكفير عن أخطائها تجاه اليهود عبر السماح لإسرائيل بممارسة الإرهاب المنظم ضد الفلسطينيين وغيرهم.

من ناحيته، عبر الكاتب الصهيوني آرييه شافيت، في مقال نشرته صحيفة 'هآرتس'، عن أن فرص قدرة إسرائيل على البقاء قد تراجعت بسبب العمى الذي أصاب القيادة الصهيونية والجمود الفكري الذي يتسم به أداء هذه القيادة. مشيرًا إلى أن المحافل الأكاديمية في العالم باتت تعتبر الكيان الصهيوني مصدر الشرور في العالم، ومشددًا على أن طلابًا يهودًا هم الذين يقودون حركة المقاطعة العالمية ضد الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة، ما يدلل على تآكل القناعة الشعبية اليهودية بعدالة المواقف الصهيونية.

وسخر شافيت من الاحتفاء بذكرى 'الكارثة' في الوقت الذي يختار معظم الإسرائيليين، الذين يغادرون إسرائيل أن يتوجهوا للإقامة في ألمانيا.

(6)

من الواضح أنه كما حملت جرائم النازية ضد اليهود قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، أجندة سياسية كان في صلبها التخلص من اليهود (تطهير عرقي)، فقد حملت المجازر الإسرائيلية – الصهيونية ضد الفلسطينيين وطرد نحو مليون منهم من وطنهم، وتدمير أكثر من 500 قرية وتجمع حضري فلسطيني، قبل وأثناء وبعد حرب العام 1948 أجندة سياسية، هي، أيضًا، كان في صلبها - كما أشار إلى ذلك الدكتور إيلان بابهْ في كتابه المميز 'التطهير العرقي في فلسطين' - إفراغ البلاد من سكانها الأصليين الفلسطينيين) وإحلال سكان آخرين مكانهم (اليهود).

واحدةٌ من وسائل 'النازيين' لتحقيق أهدافهم في 'تطهير' البلاد من الوجود اليهودي، كان التصفية الجسدية للضحايا المدنيين من اليهود المسالمين، فكانت المجازر المروعة التي وقعت لليهود في الأراضي الألمانية والأراضي التي وقعت تحت احتلالهم أثناء الحرب، مثل ذلك وقع في فلسطين، حيث كانت التصفية الجسدية من خلال المجازر المروعة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في عشرات المواقع والقرى والمدن الفلسطينية، قبل قيام الدولة وأثناء قيامها وبعده وحتى الآن، هي السياسة التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

لم يَغِبْ حلم 'التطهير العرقي' لمن بقي من الفلسطينيين في وطنهم بعد العام 1948، عن خيال القيادة الإسرائيلية ولا عن خططها، كما ظلت الوسائل ذاتها التي تبنتها العصابات الصهيونية سابقًا (المجازر)، هي ذاتها التي تبنتها حكومة إسرائيل في العام 1956، أي بعد ثماني سنوات فقد قيام الدولة.

سنحت الفرصة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بن غوريون، ووزير دفاعها، أن ينفذ خططه في التخلص من البقية الباقية من الفلسطينيين داخل حدود الدولة الوليدة، حيث كان العدوان الثلاثي على مصر مساء 29.10.1956 الفرصة الذهبية لتحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية في هذا الشأن، سمي هذا المخطط باسم (س59) أو 'مخطط خلد' وكان أساسه إخلاء عام لفلسطينيي 'المثلث العربي' في حالة حرب مع الأردن. مخطط 'خلد' لم يبق مجرد مخطط، بل أعدت العدة لتنفيذه في سياق الاستعدادات للحرب، حيث كان منع التجول على قرى المثلث، والذي وافق عليه قائد المنطقة الوسطى تسفي تسور، حسب طلب قائد اللواء يسخار شدمي، جزءًا لا يتجزأ منه.

كانت مجزرة كفر قاسم هي طريق بن غوريون لتحقيق حلمه، قتلَتْ إسرائيل 49 من سكان كفر قاسم من الرجال والنساء والشباب والشيوخ والأطفال المسالمين العائدين من الحقول والمزارع والمصانع، في مساء اليوم الذي بدأ فيه العدوان الثلاثي على مصر، والذي شاركت فيه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، وجرحَتْ 13. من بين الشهداء 12 امرأة وشابة كانت واحدة منهم حاملا في شهرها الثامن، و10 من الأولاد تتراوح أجيالهم بين 14 سنة و17 سنة، وسبعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات و13 سنة، قتلتهم إسرائيل بدم بارد وبطريقة وحشية تذكرنا بما جرى لليهود في ألمانيا النازية، وقد ظهرت هذه المقارنة واضحة في محاضر المحكمة العسكرية التي حاكمت القتلة الأحد عشر من جنود حرس الحدود الذي ارتكبوا مجزرة كفر قاسم.

حددت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بن غوريون ثلاثة أهداف لمجزرة كفر قاسم، الهدف الأول، خلق أجواء مضللة كما لو أن حربا توشك أن تقع مع الأردن وليس مع مصر. الهدف الثاني، خلق أجواء مناسبة من الخوف والرعب في المناطق المحاذية للحدود مع الأردن (الضفة الغربية) بهدف دفع سكان القرى الحدودية إلى ترك قراهم والهروب إلى خارج حدود إسرائيل خوفا على أنفسهم، على نحو ما وقع لمليون فلسطيني من داخل الخط الأخضر. والهدف الثالث، ردع السكان العرب وتخويفهم تعزيزًا لسياسة الهيمنة والسيطرة.

من خلال محاضر المحكمة العسكرية، يتجلى بوضوح أن (ملينكي - القائد المكلف بفرض منع التجول على القرى الحدودية)، قال لجنوده: الآن هو الوقت المناسب. 'سنقود كتيبتنا مع المدرعتين اللتين معها حتى نابلس، وسندفع العرب إلى الهرب والركض أمامنا'.

(7)

لهذه الأسباب كلها وغيرها الكثير، لن نرضى بأقل من أن تعترف إسرائيل بمسؤوليتها القانونية والسياسية والأخلاقية الكاملة عن مجزرة كفر قاسم، بما يحمله هذا الاعتراف من استحقاقات مادية ومعنوية لن تعوض كلها قطرة دم واحدة من دماء الشهداء، لكنه أقل المطلوب تجاه هذه الجريمة المنكرة، استجابة إسرائيل لمطلبنا المشروع هذا لا تنازل عنه، تماما كما جاءت استجابة ألمانيا لمطلب يهود العالم وإسرائيل باعترافها بالمسؤولية الكاملة تجاه جرائمها ضد اليهود.

مع الأسف، ترفض إسرائيل رغم مرور 60 عامًا على المجزرة الاعتراف بمسؤوليتها. على إسرائيل أن تعي الدرس الذي لم تتعلمه ولا تريد أن تتعلمه؛ ألمها ووجعها ليسا أشرف من وجعنا وألمنا، حقنا محفوظ أبد الدهر وسنبقى نطالب به حتى آخر يوم في أعمارنا، وعلى إسرائيل أن تعترف به عاجلا أو آجلا، لا حق لأحد في الوجود ما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقه في الوجود، وأن القوة المسلحة الغاشمة لن تعود على أصحابها إلا بالويل ولو بعد حين.

فهل ستعي إسرائيل كل هذا، وتستجيب إلى أصوات العقلاء من اليهود في الداخل والخارج قبل فوات الأوان؟


* رئيس اللجنة الشعبية لإحياء الذكرى الستين لمجزرة كفر قاسم

 

التعليقات