26/10/2016 - 09:33

مجزرة غير عشوائية

بحسب ما تناقلت تلك الوثائق، لم تكن لدى قائد اللواء العسكري المسؤول عن المنطقة التي تقع فيها كفر قاسم أي مشكلة، ولدى سؤاله "ما الذي سنفعله بهؤلاء؟"، أجاب: "الله يرحمهم"!.

مجزرة غير عشوائية

بعد عدة أيام، تحل الذكرى الـستون لمجزرة كفر قاسم التي سقط فيها 49 شهيدة وشهيدًا من أبناء هذه القرية في المثلث في مناطق 1948 برصاص جنود دولة الاحتلال. ومن شأن استعادة جانب يسير من الوقائع المرتبطة بهذه المجزرة، وفق ما جرى تناولها في عدة روايات إسرائيلية متطابقة، أن تكشف عما انطوت عليه من معانٍ لا يمحوها تعاقب الزمن. ففي مساء اليوم الذي ارتكبت فيه تلك المجزرة، 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، هاجمت إسرائيل مصر. ونُسّق هذا الهجوم مسبقًا مع بريطانيا وفرنسا، وكان هدفه إطاحة نظام جمال عبد الناصر، واسترجاع قناة السويس التي قام بتأميمها، فيما كان من المفروض أن تكون منطقة شبه جزيرة سيناء 'غنيمة' إسرائيل من هذه الحرب. 

كان فلسطينيو 48 في ذلك الوقت خاضعين لوطأة حُكم عسكري صارم (استمر حتى 1966)، وبُغية التأكّد من عدم حدوث أي 'مشكلاتٍ' من جانبهم في أثناء الهجوم العدوانيّ، تقرر تشديد فرض حظر التجوال على جميع بلداتهم وقراهم التي كانت خاضعةً أصلًا لحظر تجوال ليلي من الساعة التاسعة مساء، لكن هذه المرة نصّ القرار على تبكير حظر التجوال، ليبدأ من الخامسة مساء. وأوجد ذلك معضلة تتعلّق بما ينبغي فعله مع سكان القرى العائدين من العمل الذين لم يعلموا، أو يبلغوا، بتقديم موعد حظر التجوال. 

وبحسب ما تناقلت تلك الوثائق، لم تكن لدى قائد اللواء العسكري المسؤول عن المنطقة التي تقع فيها كفر قاسم أي مشكلة، ولدى سؤاله 'ما الذي سنفعله بهؤلاء؟'، أجاب: 'الله يرحمهم'!. 

ونقل قائد الكتيبة العسكرية المسؤولة عن تطبيق حظر التجوال في كفر قاسم هذه الأوامر حرفيًا إلى جنوده. وعندما سأل أحد كبار ضباط الكتيبة عما يمكن عمله مع النساء والأطفال الذين يخرقون حظر التجوال، اقتبس هذا القائد عبارة قائد اللواء 'الله يرحمهم'. وحين ألحّ الضابط بالسؤال 'وماذا نفعل مع العائدين من العمل؟'، قال: 'بدون عواطف'. 

في أثناء المحاكمة (صورية) التي أجرتها دولة الاحتلال لبعض العسكريين، بعد انكشاف أمر المجزرة، قال قائد الوحدة العسكرية التي ارتكبت عمليات القتل 'تصرفنا مثل النازيين'. وأحال هذا القول، لكن بعد أعوام طويلة، إلى أن هذه المجزرة لم تكن عشوائيـةً، وإنما جاءت لتحقيق 'غـايةٍ ما' تم التخطيط لها بدقة وقسوة. 

وفي سياق إحالاتٍ أخرى، أشير إلى أن مشروع الترانسفير الذي نفذتـه الحركة الصهيونية، ولم يُستكمل عام 1948، كان إبّان ارتكاب المجزرة ما يزال مطروحًا على أجندة دولة الاحتلال. 

وعلى صلةٍ بهذا، أكد أحد المُدوّنين الإسرائيليين في مناسبة الذكرى الـخمسين للمجزرة (2006) أن قائد الكتيبة المُشار إليه سالفًا (اسمه شموئيل ملينكـي) كان مطلعًا آنذاك على خطةٍ عسكريةٍ إسرائيلية، تقضي بتنفيذ عملية طرد ثانيةٍ ونهائية للباقين من الفلسطينيين في مناطق 48 في حال نشوب حربٍ مع الأردن. 

وأعاد المُدوّن إلى الأذهان أنه جرى تسريع وتيرة عمليات الطرد الكبرى عام 1948 من طريق ارتكاب مذابح جماعية، كما جرى في دير ياسين ويافا واللد وغيرها. وبالتالي، من المحتمل أن يكون هذا القائد اعتقد أن ارتكاب 'مجزرةٍ صغيرة'، على غرار تلك في كفر قاسم، يمكن أن يساهم في الدفع بهذه الأجندة الرسمية. 

وفيما يخص المحاكمة نفسها، حدّد القاضي أوامر القتل بأنها 'غير قانونية قطعًا'، وأكد أن ذلك يلغي واجب انصياع الجندي لها، ويلقي عليه كامل المسؤولية الجنائية عما فعل، غير أنه، في الوقت عينه، امتنع عن إصدار حكم مشدّد بحقّ ثلاثة ضباط دينوا بتهمة القتل العمد لأكثر من 40 شخصًا، واكتفى بإصدار أحكام مُخفضة وقصيرة بالسجن، ثم جرى سرًّا إطلاق سراحهم جميعًا بعد مكوثهم أقل من عام في السجن. كذلك ساعدت حكومة بن غوريون بصمت، ومن وراء الكواليس، هؤلاء الضباط في الحصول على عمل ووظائف بعد خروجهم من السجن.

(العربي الجديد)

 

التعليقات