01/12/2016 - 16:37

حزب العمل وقريش، الفلسطينيون والرسول (ص)

تتيح لنا الأحداث أن نقف، أيضًا، مع التاريخ الممتد في العمق. أحيانًا، نجد من التشابه بين الأحداث ما يجعلنا توائم بين متشابهين، دون أن نقف عند الزمان والمكان والحيثيات، فيأتي النص مبتورا من السياق، النص التاريخي، وكذا يحصل في سياقات مختلفة.

حزب العمل وقريش، الفلسطينيون والرسول (ص)

تتيح لنا الأحداث أن نقف، أيضًا، مع التاريخ الممتد في العمق. أحيانًا، نجد من التشابه بين الأحداث ما يجعلنا توائم بين متشابهين، دون أن نقف عند الزمان والمكان والحيثيات، فيأتي النص مبتورا من السياق، النص التاريخي، وكذا يحصل في سياقات مختلفة، للنص الديني، المقدس والتاريخي، فيصبح تباعًا من السهل للغاية تأويل النص المقدس والحادثة التاريخية دون أن تكون هناك حاجة للوقوف عند التفاصيل، من يهتم بالتفاصيل تحت طائلة التفاصيل المملة، كما يتم اختصار الواقعة بالعموم.

من وجهة نظر مستثمري "النص المقدس" و"الحادثة التاريخية"، فإن المسألة لا تحتاج أكثر من البحث عن "وجه الشبه" عند التأويل لتتحول الحادثة التاريخية والنص المقدس إلى "دليل" على صحة الحالة والموقف، وتصل الحالة أحيانا إلى حالة متطرفة من المقارنات و"أوجه الشبه" لدرجة الوقوع في مغالطات جدية، لكنها خطيرة.

الهباش وبيرس وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم

لا يقصد السيد محمود الهباش حين يقول :"لو كان الرسول بيننا لشارك في جنازة بيرس"، أكثر من تفسير سبب مشاركته في الجنازة، أو كرد على من لم يشارك، فهو في قرارة نفسه يعرف مثلما يعرف غيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم "لن يشارك في جنازة بيرس"، وعلى الأرجح أن لا يشارك بجنازة الهباش (افتراضًا)، لكن استحضار النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، هي أسهل للإقناع، ذلك أنها تسقط كل المبررات القائمة على أساس سياسي مثلًا، وتصبح: "مشاركة النبي" هي القول الفصل، دون الخوض في التفاصيل والأسباب والمسوّغات.

هنا بالعموم تحدث عملية "استراق"، يتم معها ذكر حديث أو موقف أو سلوك للنبي عليه الصلاة والسلام، دون السماح بمناقشة حيثياته، فيصبح بعدها رفض السلوكية والموقف العيني رفضًا لـ"سنة النبي"، وفي حالات أكثر تطرفا رفضا لـ"النصوص القرآنية".

استعملت النصوص الدينية، القرآن والسنة، لفهم الواقع، لتفسيره، وبناء مواقف وسلوكيات على أساسه، واستعمل بعضها مبتورًا من السياق، كان في ظاهره مقنع، بعد إلباسه ثوبا "شرعيا"، ولما كانت الأمور تقال بالعموم، فقد اكتفت الغالبية بـ"التفسير الشرعي" المدعم بآية من النص المقدس أو حادثة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه تضيف هالة على تفسير الأسباب، وتمنحها شرعية .

المفتي  محمد أنور السادات

لم تكن اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها نظام أنور السادات مع إسرائيل إلا نموذجًا لاستعمالات النص القرآني في تبرير ودعم الحدث، بهدف الإقناع، بعد ان اعتبرت الاتفاقية خيانة لدى غالبية العرب، وكانت نتائجها دمارًا على مصر والعرب والفلسطينيين بشكل خاص.

اختار السادات أن يفسر خطوته بنص ديني يبدو مقنعًا إلى أبعد الحدود، واختار السادات الآية الكريمة :"وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم".

لم يذهب السادات إلى كامب ديفيد بدوافع دينية، لكن خطوته هذه كانت تتطلب تفسيرا "دينيًا" من وجهة نظره، أو نصًا يدعم خطوته ويضفي عليها "تقوى وبركة"، بغض النظر عن سياق الآية ونصها وما قبلها ، فقد سبق هذه الآية تحديدًا الآية الكريمة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..." إلى آخر الآية، وكلا الآيتين لا تنفصلان عن بعضهما، من يذهب إلى السلام والسلم يجب أن يكون قويا، فمثلما لا يجوز العدوان على أحد بدون وجه حق، فإنه لا يجوز الذهاب للسلم دون أن تكون قويا، لكن ماذا يهم إذا كانت الحالة ومعها السادات لا تحتاج إلى أكثر من آية مبتورة من السياق.

كانت اتفاقيات أوسلو واتفاقية "غزة أريحا أولًا" هي نموذجا آخرَ للي عنق "الحادثة التاريخية" وتطويعها لصالح الإقناع بصحة أوسلو.

وجاءت قصة أوسلو مدججة بواقعة "صلح الحديبية" التي ذكرت في وجه الرافضين من الإسلاميين بشكل خاص لإقناعهم بالعدول عن رفضهم، الآن بعد 23 عامًا، لا أحد من أصحاب تلك الرواية ينبس ببنت شفة، ولا يهم حجم الكارثة والدمار الذي كانت نتيجة أوسلو، شبيه "صلح الحديبية". هنا لا بد من الإشارة إلى أنه من السهل ، بل من السهل جدًا وللغاية استحضار أي نص أو حادثة وقذفها في وجه "الواقع" وقد تبدو مقنعة للغاية، لكن من المهم الانتباه إلى أن للنص سياقًا، وللحادثة ظروفًا ومعطيات، ولا يمكن استحضار نصوص وحوادث هكذا، وخلق بلبلة "شرعية"، دون الإحاطة بالتفاصيل كلها، لفهم المختلف والمتشابه، وإن كنت لا أميل بالعموم لإجراء مثل هذه المقارنات والتشريعات، بالذات في ما يخص النبي صلى الله عليه وسلم، لسبب في غاية البساطة، فعدا الصعوبة في الإلمام في التفاصيل والحيثيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف ويتخذ مواقفه على أساس أنه موحى إليه من السماء، وهي مسألة حاسمة تجعل من المقارنة والتشبيه غير موفق. استعمال النصوص على هوانها.

تتم عملية استعمال النصوص والحوادث التاريخية على نقيضين، فكما يستشهد محمود الهباش بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بشأن "المشاركة بجنازة شمعون بيرس"، فإن داعش تستعمل ذات الأسلوب لتبرير مواقفها وأفعالها من خلال "الاستشهاد" بحوادث وأحاديث ونصوص مبتورة من السياق.

استعمال النص والحادثة التاريخية لتبرير أو تفسير السلوكية تأتي من نقيضين، في رأينا لتبرير أفعال ومواقف تحتاج إلى اقناع، لأنها غير مقنعة لذاتها، لديها إشكالات، وعليه فهي تختار الهروب إلى استحضار النصوص والحوادث.

أصل الفعل، جوهره أن يكون قائمًا لذاته، وفيه كافة مركباته المقنعة، إذا كان هناك ما يتم مقارنته فليتم على أصوله، لا أن يتم قذفه كحقيقة، بكلام عام مبهم وغير مفهوم.

أن تقول لطلاب ثانوية إن قريشًا كانت أكثر قسوة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم من إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ومع ذلك كان رد الرسول عليه الصلاة والسلام على قريش بـ"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، في مثل هذا الكلام هناك مغالطات، قد تكون وقعت في لحظة "انفعال"، لإثبات حسن النوايا تجاه التعايش والتفاهم مع الإسرائيليين، فأي أمر يمكن أن يكون مقنعًا، مثل سلوكية النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش؟

طبعًا، لا حاجة هنا للتأكيد أن قريشًا ليست حزب العمل، وعلى وجه التأكيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس الفلسطينيين، التشبيه غير موفق البتة، هذا أولًا.

لا حاجة، أصلًا، إجراء مثل هذه المقارنة، ليس فيها أي تشابه، إلا إذا اعتبرنا أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم شبيهة بالنكبة، الحقيقة أنه لا وجه شبه بين الاثنين، والأهم أنه لا حاجة لإجراء مقارنة بين الحالتين، ولا أدري لماذا إجراء مثل هذه المقارنة؟

وعدا عدم التوفيق لإجراء مثل هذه المقارنة، فإن الوقائع تشير إلى أن حجم الأذى المادي والمحسوس الملموس والموثق الذي الحقت إسرائيل بالفلسطينيين يفوق ما ألحقته قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، يفوق بما لا يسمح بالمقارنة بين الاثنين، رغم ادعائي الأولي أن المقارنة هنا غير موفقة معنويًا، لكن ما زلنا نقارن فلا بأس من ذكر التفاصيل.

إن قذف حقيقة مثل هذه في وجه طلاب ثانوية، مليئة بالمغالطات ،لتبييض صفحة إسرائيل في ممارساتها مع الفلسطينيين، النكبة والطرد والدمار والتشريد والمجازر والاحتلال والتي ما زالت مستمرة إلى هذه اللحظة، هي خطيرة للغاية بالذات حين تجري مقارنتها مع "ممارسات قريش"، خاصة وأنها تقال لتبرير التعايش والحوار والتسامح، أمور رائعة للغاية ومهمة جدًا، لكن مرة أخرى مهم للغاية كيف ولماذا ومتى؟

ليس المقصود هنا كما أكدت المقارنة، شخصيًا أرفضها، لكن المقارنات على عواهنها هي الخطيرة، خاصة عندما تقال أمام طلاب غالبيتهم، في تقديري، لا يملكون الأدوات المعرفية لفهم ما قيل، بكل أسف، لكنهم يستوعبون المقولة الكبيرة التي قيلت، وقادرون على ترديدها، ونقلها، وترديدها.

من يبحث عن الحوار والتفاهم والتسامح فعليه أن يفعل ذلك بالشكل الصحيح، دون مغالطات، وإذا وجد ذلك فليخبرنا أولًا، وأخيرا الرغبة الجامحة في الحوار والتسامح والتفاهم وفهم الآخر لا يجب أن تتحول إلى "عقدة" تطاردنا، وتبتزنا أحيانًا، والله من وراء القصد.

التعليقات