18/12/2016 - 13:03

دروس من مصير حلب المأساوي

لقد رأى العالم ما الذي يحدث عندما لا تتمكن القيم من كبح فوضى وأناركيّة الواقع الجيوسياسي. في حلب المتروكة في مأساتها، كان القتال بلا رحمة. وفي حلب، كان أكثر من عانى هم الفقراء والأبرياء.

دروس من مصير حلب المأساوي

حلب، أمس (أ ف ب)

عندما تنتصر المصالح على القيم، ستحدث الفظائع


أصبحت بعض الأمكنة شاهدة على التاريخ بدمارها: غروزني، ودرسدن، وغرنيكا. ويبدو أنّ حلب، إحدى أكبر المدن السوريّة في طريقها للانضمام إلى هذه القائمة. فتراثها الإسلامي الذي يمتدّ إلى أكثر من ألف سنة قد تحوّل إلى لا شيء؛ فقد استهدفت الطائرات الروسيّة المشافي والمدارس، وحاصرت مواطنيها بالقذائف والجوع والغاز السام؛ ولا أحد يعرف كم عدد من سيموت من بين عشرات الآلاف المحتجزين في آخر الأحياء السنية التي يحتمي هؤلاء الآلاف تحت أنقاضها. ولكن، حتى لو تحقق الاتفاق وسُمح لهؤلاء بالخروج الآمن، فإنّ محنتهم القاسية طيلة السنوات الأربعة الماضية قد حطّمت كلّ المبادئ القائلة بأنّ البشر الأبرياء يجب أن يكونوا بمنأى عن ويلات الحروب. ما حدث كان واقعاً مُرّاً ووحشيّاً يهددنا بعالم أكثر خطراً وأقلّ استقراراً.

لفهم عمق المأساة في حلب، علينا أن نتذكّر أوائل المحتجّين ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد. ففي 2011، كان السنّة يسيرون في المسيرات والاحتجاجات برفقة الشيعة والمسيحيين والأكراد. ولكنّ الأسد منذ البداية، وبدعم واسع من إيران، أراد تدمير فكرة المعارضة السلميّة عبر استعمال العنف لدفع المعارضين إلى التطرّف. في وقت مبكّر، كان إدّعاؤه بأنّ الثوار 'إرهابيون' ادّعاء ناشزاً عن الواقع تماماً، أما الآن، فإنّ بعضهم كذلك بالفعل. لقد كانت هناك نقاط تحوّل عديدة، كان يمكن للغرب أن يتدخّل فيها لإقامة منطقة حظر جوي على سبيل المثال؛ أو إقامة ملاذات آمنة للمدنيين؛ فضلاً عن العمل على برنامج كامل لتسليح الثوار. ولكنّ الغرب، وبسبب تجربته السابقة في العراق وأفغانستان بقي متردداً ومحجماً. وعندما استعرت الحرب، أصبحت الحاجة للتدخّل كبيرة، ولكنّ  مخاطر التدخّل أصبحت أكبر وأكبر. وعندما أوشك الأسد على السقوط، تدخّلت روسيا واقتحمت اللعبة، وساهم دورها في مزيد من الدمار. إنّ سقوط حلب هو دليل على حظوة الأسد وعلى التأثير الإيراني. إلا أنّ النصر الحقيقيّ هو للروس، الذين أصبحوا فاعلين في الشرق الأوسط.

لم تكن الهزيمة ضربة موجعة لمعارضي الأسد وحسب، بل صدمة للقناعة الغربيّة بأنّ القيم مهمّة بقدر أهميّة المصالح في السياسة الخارجيّة. فبعد عمليات الإبادة الجماعيّة في رواندا في 1994، عندما كان التوتسي يُذبحون تحت أنظار العالم، أقرّت دول العالم بأنّ عليها واجبا يتمثّل في ضبط القوة الوحشيّة. وعندما قرر أعضاء الأمم المتحدة تحمّل مسؤولية حماية ضحايا جرائم الحرب أينما كانوا، تضمّن ذلك اتفاقاً على رفض استعمال الأسلحة الكيميائيّة وعلى القتل العمومي للمدنيين. كان يفترض بأنّ ذلك سيدعم نشر الحرية والديمقراطيّة .

غبار ورماد

لقد عانت فكرة التدخّل من أجل الليبراليّة من نتائج قاسية. فالحملات التي قادتها أميركا في أفغانستان والعراق أثبتت بأنّ فرض الديمقراطيّة من خلال القوّة وحدها غير ممكن، حتى من قبل أقوى دولة في التاريخ. ربما تكون مأساة حلب أقلّ وضوحاً في هذا الصدد، ولكنّها تمتلك الأهمّية ذاتها. ففي مواجهة فظائع الأسد، لم يقم الغرب بأكثر من الخطب والعبارات الدبلوماسية. وقد أظهر الغرب، بفشله في الدفاع عما يُفترض بأنّه يؤمن به، أنّ قيمه لا تعدو أن تكون مجرّد كلمات، وأنّ القتلة يمكن أن يفلتوا من العقاب.

يقع اللوم على جهات عديدة. فبعد أن أغرق بشار الأسد شعبه بغاز الأعصاب، متعدياً بذلك الخطوط الأحمراء الأميركية، صوّت البرلمان البريطاني ضد اتخاذ أي إجراء عسكري، حتى وإن كان محدوداً. وفي الوقت الذي فرّ فيه ملايين الأشخاص إلى الدول المجاورة لسورية، بما فيها لبنان والأردن، اتخذت غالبية الدول الأوروبية موقفاً آخر، ووضعت حدوداً لإبقاء اللاجئين خارجاً.

على أنّ جزءاً كبيراً من اللوم يقع على عاتق باراك أوباما. فقد تعامل رئيس الولايات المتحدة مع سورية على أنها فخّ يجب تجنّبه. كما إنّ توقّعه بأنّ روسيا ستغرق في وحل المستنقع السوري كان إساءة حكم كبرى. فخلال مدّة رئاسته، كان أوباما يسعى لنقل العالم من نظام تتصرّف أميركا وحدها فيه أحياناً لحماية قيمها، مع بعض الدول كبريطانيا، إلى نظام يقع عبء حماية الأعراف الدوليّة فيه على جميع الدول، لأنّها تستفيد جميعاً من هذه القواعد. ولكنّ حلب كانت اختباراً أظهر مدى فشل هذه السياسة. فحين أحجمت أميركا عن التدخّل، لم يتمّ ملء الفراغ من قبل دول مسؤولة تسعى لدعم الوضع القائم، وإنما من قبل دول من أمثال روسيا وإيران، ترى في نشر القيم الغربيّة مؤامرة لتغيير النظام في موسكو وطهران.

مرحباً بكم في البازار

نظرياً، سيحاول الرئيس الأميركي الجديد أن يعكس النهج المتبّع. فدونالد ترامب هو تجسيد لفكرة أنّ التدخّل الليبرالي هو نهج الحمقى. فمرشحه لوزارة الخارجيّة، ريكس تيلرسون، رئيس مجلس إدارة شركة إكسون موبيل، يدعم رسالته الانتخابيّة: ترامب يريد أن يعقد الصفقات، لا أن يدعم القيم.

لا شكّ بأنّ إبرام الصفقات جزء أساسيّ من الدبلوماسيّة، خصوصاً مع خصوم مثل روسيا وإيران ومنافسين مثل الصين. ولكنّ السياسة الخارجيّة التي تنتقل من صفقة إلى أخرى دون أن تمتلك إستراتيجيّة كبرى، ودون أن تثبّت أقدامها في مجموعة من القيم الرئيسيّة ستواجه خطراً قاتلاً. أحد هذه الأخطار هو أن يصبح حلفاء الولايات المتحدة أوراق مساومة. فقد بدأ ترامب بالتخلي عن دعمه لتايوان، والتي تعتبرها الصين إقليماً منشقّاً عنها، بهدف خفض العجز التجاري مع الصين. كما أنّ الصفقة التي تدور بين السيد تيلرسون وأصدقائه في روسيا، والتي قد تكون على سبيل المثال، سحب القوات الأميركية من الدول التي تشكّل الخطّ الأمامي لحلف الناتو في مقابل العمل الدبلوماسي ضدّ إيران والصين قد تترك دول البلطيق عرضة للعدوان الروسيّ. إنّ قوّة الولايات المتحدة الكبرى هي شبكة حلفائها؛ وعلى ترامب أن يعتني بحلفائه لا أن يتخلّى عنهم.

كما إنّ نظاماً يعتمد على إستراتيجيّة الصفقات يحمل مخاطر عدم الاستقرار وعدم إمكانيّة توقّع القادم. فإذا فشل ترامب في الوصول إلى صفقة أو مساومة ما مع روسيا، فإنّ هذا سينعكس بشكل سلبي وسريع على البلدين، وحينها سيفتقد الأميركيون برودة أعصاب أوباما. عندما تصبح القوّة هي الحقّ، فإنّ الدول الصغيرة ستعاني وستجبر على القبول بشروط قاسية في حين تتمتّع القوى العظمى بالرفاه. ودون وجود إطار عمل يجمع الجميع، فإنّ الصفقات ستتكرر وستتطلّب إعادة التفاوض باستمرار حولها، دون وجود نتائج مؤكّدة. وفي هكذا نظام، سيكون من الصعب حلّ المشاكل العابرة للحدود، كالتغير المناخي.

لقد رأى العالم ما الذي يحدث عندما لا تتمكن القيم من كبح فوضى وأناركيّة الواقع الجيوسياسي. في حلب المتروكة في مأساتها، كان القتال بلا رحمة. وفي حلب، كان أكثر من عانى هم الفقراء والأبرياء.

التعليقات