31/12/2016 - 15:54

عن حال وذات العرب: تأملات ومقارنات على هامش "العام الجديد"

إغراق الدول العربية في الوقت الحالي بمليشيات طائفية تابعة لدولة أجنبية مضر للعرب والقضية العربية ببساطة، ومضر بالتالي لكل ما يمكن أن أتخيله

عن حال وذات العرب: تأملات ومقارنات على هامش "العام الجديد"

شهدت السنوات الماضية سفورا فيما أسميها بالمساعي الإيرانية لتعميم نموذج نظام المحاصصة اللبناني (والعراقي مؤخرا) على عدد من الدول العربية خصوصا تلك التي شهدت ثورات في دول المشرق العربي، وهي المنطقة المتميزة بتنوع الطوائف والمذاهب فيها من جنوبي الحجاز واليمن مرورا بشرق جزيرة العرب وصولا إلى العراق والشام.

 وقد جهدت بعض الأقلام في بيروت على التنظير للمرحلة الإيرانية القادمة مبشرة بأنه عصر تفريخ أمثال المليشيات العراقية في كل مكان. وبينما يظهر المنخرطون في الحشود الطائفية المذكورة كمن لا يجدون متسعًا لقراءة مثل تلك 'النظريات' فإن أصحابها وحدهم على ما يبدو يحملونها على محمل الجد، وقد تقرأ بعض المقالات المثقلة بما يشبه تنظيرا دون نظرية، ولا تفهم فعلا ما الغاية من كل ذلك الجهد، ولماذا يزج بأسماء 'كلاوزفيتش' و'سوسيولوجيا ماكس فيبر' وتعميمات نسبية ثقافيا (بصاع نخالة) عن عدم ملاءمة عقلية العرب لـ 'المؤسسات العسكرية الفيبرية' الحديثة ('المنفصلة عن المجتمع') للترويج لظاهرة رثة كالحشد الطائفي؟ ولدس السم في الدسم فإن البعض يذهب إلى أن 'الحل' لمعضلة 'كسب الحروب' (من يقاتل من؟) يكمن في العودة لاستنهاض البنى قبل - الوطنية من قبائل وطوائف وما شابه أو بتسميتها المعقمة 'بنى اجتماعية أهلية'، ويحاول أصحاب مثل تلك النظريات التدليل على مزاعمهم بتجارب الحرس الجمهوري العراقي السابق (الذي لا بأس من استرجاع ذكراه طالما لا يخطط أحد منهم لعودته) بل والحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي وحزب الله (الذي يختصر أمينه العام عليهم الطريق بدعوته لتشكيل ميليشيات على نسق الحشد العراقي في لبنان، مستثنيا تنظيمه من تلك الصفة) بالإضافة لحماس التي لا تستحضر إلا لتخفيف حدة الانطباع 'عن المراد الأصلي'.

 لا طائل هنا من ملاحقة كل المغالطات التي يمكن أن تحتويها مقالة برقية بحجم تلك التي أكتب هذه المقدمة بوحيها وبوحي أخريات غيرها، إذ يكفينا طرح السؤال التالي:

 هل ينظّر هؤلاء أيضا لقوات موالية للعراق في إيران؟ ولتعتبر عندها حشودا 'متحررة من سطوة الحداثة الفيبرية' (لو جازت إعادة الصياغة الساخرة، يا لمجانية اللغة) وليزعموا بأنها 'تسترجع الاتصال الصحي بين 'ساحة الوغى - الحديثة' و'الثقافة والمجتمع' وليشغلوا كل آلات غسيل الكلام عندها؟ أما إن كانت الإجابة بالنفي، فيفضل التوقف، وعدم خوض النقاش أكثر فهو ضرب من التضليل.

نحن وإيران والطائفية والتخلف

غصت الصحافة العربية قبيل حرب فلسطين 1948 بما لا عد له من مقالات وكاريكاتيرات تنضح تحريضا عنصريا ضد اليهود باعتبارهم يهودا في دول كان بعضها، على الأقل، لا زال يحتوي على طوائف يهودية كبيرة نسبيا، وذلك في صراع ضد مشروع استعماري كما يفترض.

 والواقع هو أن جملة من العوامل التاريخية جعلت من القدرة على التعاطف مع إسرائيل والمشروع الصهيوني أمرا ممكنا لفئات لم تقع بالضبط داخل صلب 'النخبة المؤسساتية' الإمبريالية أو الاستعمارية، سواء كان ذلك في أوروبا أو في أميركا أيضا. و لم يكن من النادر بتاتا خلال الخمسينيات والستينيات أن تتعثر بلبراليين نزلوا إلى الشوارع وتعرضوا لملاحقات وتنكيل دعما لحركة الحقوق المدنية من جهة، وافتتنوا بإسرائيل 'الوليدة واليافعة' من جهة ثانية، بل لم يكن مستحيلا العثور على يساريين أيديولوجيين كانوا مستعدين للتضحية بمستقبلهم المهني للتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي ولأسباب مثالية وعقائدية وجمعوا بين ذلك وبين التعاطف مع 'قضية إسرائيل'.

 كان أمثال هؤلاء يجرون فصلا حاسما بين الصهيونية وأشكال الاستعمار الأخرى، بل كانت لبعضهم مواقف سلبية من إمبريالية حكومات بلادهم بينما استمروا بالإعجاب بإسرائيل.

لا شك بأن مسارات تطور 'المسألة اليهودية' في أوروبا والمحرقة النازية أخيرا كان لها دورها المحوري في تعاطف تلك القطاعات مع 'دولة اليهود'، لكن السبب الثاني تعلق أيضا (برأيي) بقدرة إسرائيل على طرح نفسها دولة حديثة 'متقدمة' (سياسيا وعلميا) و 'ديموقراطية' رغم 'شح الموارد' مقارنة ببحر من 'التخلف' و'الجهل' و 'العنف، ومقارنة بضحاياها المفتقرين إلى قيادة حديثة موحدة والمحكومين بتلقي العون من أنظمة متخلفة ورجعية.

 وانطبق هذا على حرب 48 ولم يتغير جذريا في الستينيات. و كان بوسع 'أبا إيبان' بعد 1967 أن يستعرض في كل فرصة ما غصت به الصحف القومية المصرية من تحريض على القتل أو فظاظة التحريض الشعبوي في أهم إذاعة مصرية موجهة للعالم العربي، صوت العرب، التي توعد أشهر مذيعيها الإسرائيليين (شيبا وأطفالا) بأن يصبحوا لقمة لسمك البحر فضلا عن دعوات بدائية أخرى عن 'سبي النساء' وغيرها. أما في الجهة المقابلة فإن التحريض العنصري البدائي في مباشرته وفظاظته قلما كان يمكن التعثر به على مستوى المؤسسة التي هيمنت عليها حركة العمل الصهيونية برتابتها وبحرصها في الحفاظ على قشرة 'خطاب تنويري مثابر' يخفي تحت سطحه استعمارا وعنفا استعماريا.

 لم يكن الفارق متعلقا في جوهره بتفاوت 'قيمي' جوهري أو تمايز 'الخير' ('قيم الخير') عن 'الشر، بطبيعة الحال، بل كان مرآة لحال الفارق بين العرب وإسرائيل على مستوى تطور المؤسسات ودرجة التنظيم (بما فيها أهلية 'ضبط الخطاب' إلى حد بعيد) والثقة بالنفس. بل إن حرص عبد الناصر نفسه على الفصل بين اليهودية والصهيونية في خطابه أو حرصه على عدم إطلاق تصريحات شعبوية همجية، كتصريحات أحمد سعيد، لم يجد صدى كافيا في المؤسسة المصرية المتخلّفة، ذلك فضلا عن الأنظمة التي لم تكن تقيم وزنا لتلك الاعتبارات من أصله بدءا بحكامها.

تعثرت في بداية حملة 'عاصفة الحزم' بفيديو في الفيسبوك مصدره التلفزيون الرسمي السعودي أسمعت فيه قصيدة 'نبطية' حربية، تخللت بيتا يحتوي على تحريض طائفي يقول صدره:
والرافضة جند المجوس' (وهو إن فهمنا القصد يعني بأن الشيعة أو الزيدية العرب هم طابور في خدمة إيران التي تختزل باعتبارها مجوسية).

ولم يكن واحد مثلي، يرفض التحريض الطائفي مبدئيا، يفهم بأي عقل يفكر من أتاح عرض مثل ذلك الشريط في بلد فيه 'زيود' وإثناعشرية وغيرهم، وهل كان يرغب فعلا بدفع الزيدية' في اليمن للتمترس على أسس طائفية ليس على كل مساحة اليمن (وهو ما لم يحدث حتى في أيام دول الإمامة) بل على أسس طائفية 'معولمة' لم تكن يوما؟ لا زلت أذكر تلك الصور لعلي صالح بمعية صدام، ودخان الحرب العراقية الإيرانية لم ينقشع بعد، فضلا عن الجماهير وهي تهتف للعراق وصدام. وقد ظهر في ما يمكن تسميته بـ 'امتحان التاريخ' كيف أن كل ما كان يمكن قوله عن نشاط السعودية الدعوي داخل اليمن ودعم الجمعيات الدينية بالكاد أدى إلى استفار مضاد في منطقة محدودة من أقصى شمالي اليمن في صعدة. وظلت القاعدة الاجتماعية القبلية التي قاتلت مع صالح وجلها من تركيبات قبلية زيدية (قد تكون أكبر من قاعدة الحوثيين) وفية له حتى اللحظة الأخيرة رغم قتاله ضد جماعة دعوة مذهبية الطابع. كما أن الثورة اليمنية نجحت بالتماسك والحفاظ على سلميتها فضلا عن وحدة الشعارات بين ميادين صنعاء وتعز ('الشافعية، 'السنية'). وكان يعلم من يدفع ويرعى تفاهم علي عبد الله صالح (المرعي سعوديا لسنوات) مع الحوثيين بأن الديناميكية التي ستنتج عنه ستدفع القطاعات المناوئة لكليهما للتمترس خلف هوياتهم المناطقية، وربما أيضا الطائفية، في ديناميكية ستعيد إنتاج نفسها بمجرد تحريكها ولا يسيل لعاب أحد لها غير من يطمع بحصة نفوذ في بلاد العرب على أسس هوياتية وطائفية. وكان من رعى التفاهم الحوثي مع صالح ودعمه يعرف أنه بذلك يضع كل من يعترض على ذلك أمام خيارات أحلاها مر، عامدا متعمدا في قمة إدراكه.

وجدت نفسي قبل مدة متفقا مع كاتب لبناني يكتب في صحيفة الأخبار وهو يستعير عبارة 'الهوية المتوهمة' في وصف كل تفكير بهوية 'سنية' عابرة للحدود، ليس بمعنى الهوية 'المتخيلة' فحسب (وفعلا، كل الهويات متخيلة) بل الهوية التي لا أفق لها في الواقع وأي مستقبل منظور على مستوى العالم العربي، فضلا عن كل العالم الإسلامي، وبأن من يمني نفسه (نخب خليجية على حد تعبيره) أن بوسعه تأجيج هوية 'سنية' عابرة للحدود من جاوة وحتى نهر السنغال يتعلق بحبل أوهام لا يقبل التحقق. والحقيقة أن هذا كان رأيي قبل قراءة مثل تلك المقالة بوقت طويل جدا، بل أكاد أجزم بأن من بنوا خطوط تجنيد ونقل المقاتلين الطائفيين عبر الحدود لحماية 'المراقد' كانوا يدركون ذلك. وقد لاحظ من تابع إعلام حزب الله في لبنان خلال العقد الماضي حرصه ألا يقطع الحد الأدنى من الصلة مع القوى العراقية الشيعية المتدينة التي تعاملت وقاتلت في صفوف المحتلين الأمريكان. وكان نصر الله في أقصى حد يكتفي بالتعبير عن 'تباين في وجهات النظر' أو 'المواقف' في وصف الخلاف مع من قاتل في صفوف الأمريكان (أم أنهم كلهم 'عصائب'؟.).

وقد حاول البعض سابقا أن يشرح ذلك في نسق 'ثقافوي' إثنوغرافي' (ليس مهما برأيي) من حيث 'خصائص الشيعة' وعدم جواز 'التطاول' على مقامات مثل 'المراجع' كالسيستاني وغيره، لكن ذلك لم يكن ليفسر في أي حال العلاقة مع حزبي متدين مثل المالكي أو غيره (ليس مرجعا ولا معمما). أما أنا شخصيا فكان رأيي هو أن في خلفية المنطق مسألة الحفاظ على تماسك الطائفة التي تجهز لتكون عابرة للحدود كذخر لا يجب التفريط به، إلا كاستثناء، وكانت الرسالة الضمنية هنا منهجية برأيي، 'ليس المالكي وأمثاله هم نمط أهل المنزل الذين يعزلون وينبذون'، ولو كنت دراميا في وصفي لقلت 'لا يمكن اتهام أمثال المالكي بالتفريط بكرامة الطائفة' فقد 'أثخن الطوائف الأخرى'، لكن الأهم هو بث رسالة للناس العاديين والمريدين بأن من يتحالف أو يوالي السعودية في الطريق إلى الأمريكان أو دون بلوغهم يخرج عن حدود الجماعة، التي لا تحدد حدودها بالندية مع دول عظمى. ولا حاجة لأن يكون الشخص مصابا بمخاوف طائفية أو انعزاليا في نمط تفكيره كي يعمل على رص صفوف طائفة أو قبيلة، ذلك من نافلة القول، لكنه قد يقدم على ذلك مدفوعا بانتهازية 'مجردة' أو حتى خدمة لقضية نبيلة موجودة في مخيلته. مثلما قد يكون نصر الله مقتنعا فعلا أن 'حقد البدو' أو عقليتهم' و'فقههم الصحراوي' هو ما دفع الطيران السعودي لقصف مرقد إمام في اليمن أو تكون تلك انتهازية لضخ الكراهية والعزف على أوتار 'سياسات الهوية' بالحد الأدنى من 'الصخب'.

من لم يدرك بعد كل تلك السنين أن الخطاب الطائفي في بلاد العرب ليس إلا تعبيدا للطريق أمام كل طامح وطامع، قد لا يفهمه شيء، وإن كان بشار الرئيس المبتدئ أخرق بما يكفي كي يحرض البابا ضد إسرائيل المعاصرة من قناة التحريض العنصري على اليهود (في كل زمان ومكان، باتهامهم بالعداوة للمسيح) غير مدرك بأن التيار الرئيس في الكنيسة الكاثوليكية قد تخطى تلك المرحلة، وأنه لا يكسب بذلك شيئا من القوى المناهضة للعنصرية ولا يربح جانب اليمين الفاشي والعنصري (والحق يقال أنه عاد فنال رضاه مؤخرا بعدما أبدع بذبح شعبه) فإن احتمالات أن يحقق الخطاب الطائفي ( سواء كان مصدره إعلاما عربيا أو خليجيا أو حتى قادة لا عد لهم في المعارضة السورية مثلا) استنفارا طائفيا ينافس النشاط الإيراني المنهجي في هذا المضمار تكاد لا تذكر في الأفق المنظور فضلا عن أضرارها بالمجتمعات العربية نفسها.

شيء عنا وعن 'موقف إسرائيل'

تغير العالم خلال السنوات الماضية، ويستطيع من هو مثلي من عرب الداخل النظر، على سبيل المثال لا الحصر، إلى إحدى الصحف الأعمق ارتباطا بالمؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية ليتقصى شيئا مما يحدث عمومًا. تخيلوا فقط أن صحيفة عربية من الداخل، غامرت بخرق قانون إسرائيلي تلتزم به الصحف الإسرائيلية بشكل حديدي في فترة الانتخابات وهو الامتناع عن بث أي شكل من أشكال الدعاية الانتخابية بعد موعد معلوم، و قامت قبل سنوات بنشر مقابلة موجهة للناخبين العرب، عشية فتح الصنايق، لصالح مرشح حزب العمل خارقة القانون، وهو ما كانت ستمتنع عن القيام به طبعا أي صحيفة عبرية تحت طائلة الغرامة والمساءلة وغيرها. لكن تلك الصحيفة بعلاقاتها الواسعة داخل المؤسسة لم تكترث للأمر، خصوصا وأن بقية الأحزاب الإسرائيلية التي كانت ستقعد الدنيا وتقيمها (وعلى رأسها الليكود) لو أن مثل تلك المقابلة نشرت على صفحات 'هآرتس' أو 'يديعوت أحرونوت'، كانت تدرك أن حجم أصواتها المتاحة بين الناخبين العرب صغير بالمقارنة بحزب العمل، ولا يخضع لمثل تلك العوامل (كالإعلان مثلا)، أما بقية اليسار الصهيوني فلم يكن يزعجه تغلب حزب العمل في الانتخابات بطبيعة الحال، بل على العكس تماما، فليس للأحزاب الصغيرة غالبا إلا انتظار فرصتها للدخول إلى ائتلاف حكومي يلائم أجندتها، ويتقدمه الحزب الكبير في 'معسكرها' في العادة. كان نشر مقابلة مرشح العمل ضمن منافسة الأحزاب الصهيونية مع الأحزاب الوطنية بكل بساطة، ولإظهارها بمظهر الفاقدة للشرعية الشعبية في مقابل شرعية الأوائل.

لن أسهب بشرح أمثلة قد تكون أخطر بدرجات من هذه الأخيرة، لكن 'المفارقة' أن تلك الصحيفة التي لا تتورع عن نشر مناقصات لصالح المخابرات العسكرية الإسرائيلية وأجهزة الأمن، بما فيها فرص عمل في جمع المعلومات عن الناشطين لمن يتقن العربية، قد احترفت في السنوات الأخيرة استضافة عتاة 'الفاشيين الممانعين' من لبنان وسورية ليتحدثوا بكل أريحية عن 'النصر' و'البطولة' و'الفداء' و'المقاومة'، وهو ما كان أمرا شبه مستحيل قبل عشر سنوات فحسب، ولدس السم ولخلط الغث مع السمين ولتخوين الوطنيين طبعا.

تجري تلك الصحيفة المقابلات مع شخصيات وطنية لا غبار عليها وناشطين في مجالات شتى في العادة، خصوصا وأن الحديث يجري عن 'مواطنين' بطبيعة الحال. لكن الأمر يختلف تمام الاختلاف عندما يتعلق الأمر بإعلاميين من 'دول معادية' فضلا عن أولئك المقربين من حزب الله أو النظام السوري أو غيره. هنا قد يبدأ 'الأسهل' بالتوجيه بعدم منح أولئك 'المحرضين' منبرا، وقد تصل إلى تهم كالتخابر مع عميل أجنبي وادعاءات ما أنزل الله بها من سلطان. ويكاد يكفيني بشكل شخصي سلوك مثل تلك الأجهزة والمؤسسات حتى أدرك طبيعة 'الإزعاج' الذي بات (أو لم يعد) يسببه النظام السوري في 2016 للمؤسسة الأمنية أو السياسية الإسرائيلية. كم بالحري والوقت لا يتسع لإيراد الأمثلة تتلوها الأمثلة.

 فماذا يفعل من مثلي ويظن أنه حُبي الحد الأدنى من العقل الذي يستطيع من خلاله، ولو سعيا على الأقل، تقرير الخطأ من الصواب والموقف السليم من غير السليم بقواه الذاتية، دون الرجوع دوما إلى ما يزعم بأنه 'يزعج إسرائيل' أو ما 'لا يزعجها' أو 'يفرح قلبها الصغير'.

انتبهت مع بداية القصف الروسي على معارضي الأسد أن أحد الكتاب الإسرائيليين وأصحاب الرأي في الشؤون الأمنية، واسمه 'يعقوب كدمي'، ولا أذكره هنا إلا عرضا وكغيض من فيض (حتى لا أغرق القارئ بتفاصيل لا طائل منها). كان يكتب بحماسة منقطعة النظير للدور الروسي الجديد، ويستخدم عبارات 'التحرير' و'التطهير' في وصفه لعمليات قوات الأسد في إحدى المجلات العسكرية الأكثر انتشارا، قبل أن يبدي قدرا من ضبط النفس في مقالاته اللاحقة. والمذكور هو ناشط صهيوني ولد في روسيا ونشط في معارضة النظام السوفييتي قبل أن يسمح له بالمغادرة، وبمعزل عن عشاق القصص البوليسية الاستثنائية والجاسوسية، والعملاء المزدوجين الذين يمكن للكي جي بي السابق أن يزرعهم في كل مكان، فإن أغلب المؤسسة الإسرائيلية بدورها لا تبدي معالم الرهاب على وقع 'الانتصارات' التي يصفها حلفاء الأسد على المسرح السوري، لكن ذلك طبعا لا ينفي ولو 'نظريا' إمكانية أنهم يخطئون التقدير غير عالمين أي فخ 'يعده لهم بوتين مع إيران مع حكام العراق مع نظام بشار'، (ولا أظن الأمر كذلك طبعا) وهو كلام لا ينبغي توجيهه لمن هو مثلي بقدر ما يجب أن يوجه لمن يدعي بأنه ينصب إسرائيل (التي يفصلها على مقاسه) ومواقف منسوبة لها في سياق تاريخي (بعضها انتقائي بشكل صارخ وبعضها محض مزعوم أحيانا) كما لو كانت بوصلته الوحيدة (المقلوبة).

ولا بأس من التذكير مثلا بأن موشيه ديان هو ومجموعة من الجنرالات قد قدروا في نهاية أيلول 1973 أن احتمال اندلاع حرب مع العرب ضئيل جدا، وأن إسرائيل في حال اندلعت الحرب ستكون قادرة على استيعاب الضربة الأولى بسهولة، وأخذ زمام المبادرة بسرعة، ثم سمعه من سمعه بعد أيام قليلة على بدء المعارك متشائما كما لم يسمع يوما، ليتضح لاحقا بأنه كان مخطئا في تقديراته قبل الحرب مثلما أخطأ بتقديراته بعد اندلاعها! (ولعله لم 'يخطئ') أما أنا، كاتب هذه السطور، فإنني وطني فلسطيني، ولست صهيونيا، ولا أعرف ولا يهمني أن أعرف ما هو العمل المفيد لمستقبل الصهيونية، ويمكن في أقصى حد أن نعرف أو نخمن ما الذي يرغب به هذا القائد الصهيوني أو ذاك أو هذه الفئة أو تلك في لحظة معطاة. أما أنا فأفترض بأن السؤال الأهم للعرب هو 'ماذا يريد العرب' و'ماذا ينفعهم وينفع القضية العربية التي أتخيلها، وأفترض وجودها' (ظهور كيانية سيادية عربية ما مثلا) و'ماذا يلحق بها الضرر'؟

 يزعم كاتب هذي الكلمات أن إغراق الدول العربية في الوقت الحالي بمليشيات طائفية تابعة لدولة أجنبية مضر للعرب والقضية العربية ببساطة، ومضر بالتالي لكل ما يمكن أن أتخيله، 'القضية الفلسطينية'، وأن محاولة عرض تلك المليشيات بطائفييها وانعزالييها كما لو كانت 'يدا ممدودة' للتعاون بين العرب وإيران 'ضد الاستعمار' ليس أكثر من ذر للرماد في العيون وتمويه لشكل جديد من الهيمنة الاستعمارية الفاقعة بمعزل عن ألوان البشرة ولغات الخطاب.

ويأمل البعض وبحذر شديد، أن يؤدي دخول روسيا بقوة إلى المنطقة العربية ورجحان كفتها في موازين القوى وتفاهمها مع إسرائيل إلى دفع صنّاع السياسات الإيرانيين لكبح جموحهم في المنطقة العربية. أما أنا فلا أعلم إن كان من شأن ذلك أن يحدث فرقا خصوصا مع بقاء النخبة الظاهرة حاليا في الحرس الثوري ومحيط المرشد مهيمنة في هذا المضمار في المستقبل القريب، مع أنني لا أزعم بقدرتي على التنبؤ ماذا سيحصل غدا صباحا.

التعليقات