04/01/2017 - 10:00

خارج الحقائق ودلالاتها

ولا بأس من تكرار ما سبق أن جرى التأكيد عليه، في الكتاب المرجعيّ "العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل" لعزمي بشارة، وهو أنّ "قضية" هؤلاء العرب نشأت تاريخيًا كجزء من القضيّة الفلسطينيّة. أمّا الممارسات الإسرائيليّة تجاههم فليست مجرّد مركّباتٍ

خارج الحقائق ودلالاتها

فجّر الكاتب الإسرائيلي المعروف، أ. ب. يهوشوع، أخيراً، جدلاً، لا يزال مُستعرًا، على خلفية وصفه الاحتلال الإسرائيلي مناطق فلسطينية منذ عام 1967 بأنه "ورم خبيث"، ودعوته إلى منح الفلسطينيين المُقيمين في مناطق "جـ" من الضفة الغربية "حق الإقامة"، على غرار سكان القدس العرب، أو حتى منحهم "المواطنة الإسرائيلية"، بُغية تحسين مكانتهم وأوضاعهم، بالمقارنة مع أوضاع المستوطنين من حولهم، ما من شأنه، كما يقول، "التخفيف من حدّة الجزء الأكثر خطورةً من الاحتلال، والذي يسمم الحياة داخل إسرائيل أيضًا"!

وأكّد يهوشوع من ضمن أمور أخرى، أن "حل الدولتين" للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لم يعد قائماً أو قابلًا للتطبيق، وأنه إذا واصل "اليسار الصهيوني" الدفع به سيصبح مسيانيًا (حلميًا مثالياً)، وشرح أنه لم يعد هناك إمكان لإخلاء مستوطنين يهود من الضفة. وبالتأكيد، بات إمكان تقسيم القدس مستحيلًا، من دون أن يخفي انتقاده الشديد للفلسطينيين.

سارعت أوساط من اليمين إلى اعتبار هذه الأقوال بمثابة "صحوة يسارية"، لكون يهوشوع أحد الناطقين المُفوهين بلسان هذا "اليسار"، يمكنها أن تردم قليلاً "الشرخ عديم الجدوى بين اليمين واليسار" في دولة الاحتلال. فيما خفّت محافل من "اليسار" إلى اتهامه أنه، بهذه الأقوال، يرفع "الراية البيضاء" أمام اليمين والمستوطنين.

كان هناك استثناء وحيد في ردات الفعل على ما قاله يهوشوع، تمثّل في موقف الصحافية اليسارية التي تغطي الشؤون الفلسطينية في مناطق 1967، عميرة هيس، التي اتهمته بتشويش حقائق كثيرة، كي يزيّن لنفسه وللآخرين سبيل العيش خارجها، وفي منأىً عن دلالاتها.

مهما تكن تلك الحقائق التي توردها هيس، فإن لحقيقة واحدة منها دلالة أعمق وأشد وقعًا. ومما كتبته بخصوصها أن هذا التشويش سهّل على صاحبه إيجاد انفصال عاطفي وثقافي عن دلالة حقائق كثيرة غير قابلة للتأويل. وهو، في قراءتها، "انفصالٌ مفهوم" نظرًا إلى أنه من الصعوبة بمكان الإقرار بأن الأيديولوجيا الصهيونية، وصنيعتها إسرائيل، أوجدتا مسخًا عنصريًا متبجحًا يسرق المياه والأرض والتاريخ في فلسطين التاريخية كافتها، بينما يداه ملطختان بالدماء بذرائع أمنية، ويخطّط، عن سبق إصرار وترصد، منذ عشرات السنوات "واقع البانتوستانات المُعقد" المُعاش الآن على ما يُعرف باسم "جانبي الخط الأخضر".

وتجزم هيس أن كل ما يفعله يهوشوع هو السير في الحلم، واقتراح تعريف ثانوي آخر لجوهر الصراع ممهورًا بشرعنة أحد كبار رموز معسكر السلام الإسرائيلي، يساعد العدوانية الإسرائيلية على شرذمة الشعب الفلسطيني، وفصله عن حيزه وأرضه.

هذا المسخ العنصري هو نفسه الذي يُكشّر الآن عن أنيابه إزاء الفلسطينيين داخل مناطق 1948 بذرائع أمنية، كما تبدّى مما تعرف بـ"قضية النائب باسل غطاس" من التجمع الوطني الديمقراطي. وبالتالي، سيؤدي أي تشوّش، في سياق الموقف حياله، إلى الانفصال عن دلالة مزيد من الحقائق الجوهرية.

أول هذه الحقائق أن دولة الاحتلال تتعامل مع معظم فلسطينيي 48 كـ"مشكلة أمنيّة من الدرجة الأولى"، وتحاول تسويق الزعم أنّ سبب هذه "المشكلة" يعود إلى "تطرُّف" الجزء الأكبر من المجتمع الفلسطيني لا إلى إسرائيل. ثانيها أنّ دولة الاحتلال فشلت في القضاء على الهُويّة الوطنيّة المشتركة بين السكّان في حيّزات الوجود الفلسطينيّ داخل إسرائيل وخارجها. ويثبت، مرّة تلو أخرى، أنّه على الرغم من "التطوّرات المستقلّة" لمجالات هذا الوجود، ظلّ ارتباط الفلسطينيّين قويًّا بماضيهم التاريخيّ وبهُويّتهم الفلسطينيّة، التي تولّد معًا شعورًا أكثر من مجرّد التضامن، يوضع موضع اختبار، كلّما نشأ وضع يُلحق أذىً بالغًا بحياة الفلسطينيّين، أو برموز وطنيّة ودينيّة.

ولا بأس من تكرار ما سبق أن جرى التأكيد عليه، في الكتاب المرجعيّ "العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل" لعزمي بشارة، وهو أنّ "قضية" هؤلاء العرب نشأت تاريخيًا كجزء من القضيّة الفلسطينيّة. أمّا الممارسات الإسرائيليّة تجاههم فليست مجرّد مركّباتٍ في سياسة تمييز عنصريّ، بل جزءٌ من سياسةٍ تشكّل استمرارًا تاريخيًّا لقضيّة فلسطين، وتضع لنفسها أيضًا أهدافًا تاريخيّة.

("العربي الجديد")

التعليقات