20/01/2017 - 11:31

"طنطور"... المدينة الفندق

متواضعون، لا نطالب بمدينة ساحليّة، ولا بتل أبيب جديدة. لكن نريد "المدينة" ويحق لنا أن نأخذها.

تحولت قرانا العربية إلى ما يشبه العشوائيات، فهي لم تتطور نحو نمط المدينة العصرية وفقدت نمط القرية الوادعة الهادئة. لقد تحولت إلى شيء ضائع بين "الكراسي" ومخيف.

"التمدد السكاني للعرب يجب أن يتحول من أفقي إلى عاموديّ"، هذا ما توصلت إليه قناعة المخطط الإسرائيلي للحد من التمدد العربي، وهذا ما سنقنع عنوة نحن العرب به، بسبب شحّ الأراضي الخاصة، وانحسار مناطق النفوذ البلدية.  نعم، هدف المخطط الإسرائيلي واضح لنا من هذه المقولة، مثلما هو واضح  لنا مدى أزمتنا السكانية.

المدينة هي رافعة مهمة لتطور المجتمعات، وهي عنصر مهم لتطوير مفهوم الحيز العام المفقود في القرية. في القرية يكفيك جدار حول بيتك لتحافظ على خصوصيتك، والحيز العام مفقود بعد امتداد مساحة القرية، فالخاص والعام اختلط وشوّهَ، حيث تحول رصيف الشارع في قرانا إلى حيز خاص ليصبح اسطبلا للخيل و"علفه"، ودوّار الشارع صار بسطة خضار وبطيخ، وأصبح الموقف المعدّ لخمسة سيارات، لا يكفي بقدرة قادر لسيارة واحدة أو لشاحنة معطلة بدون عمل، والأمثلة كثيرة.

وفي العمارة التي تسكنها عشرات العائلات المهمة أصعب، والحيز أضيق، المصعد مشترك، الدرج مشترك وموقف السيارة والحديقة وغيرها، والحفاظ على حيزك الخاص يجبرك "التعلم" كما كل شيء، الحفاظ على حيز جارك.

لم يأت مطلب المدينة العربية من فراغ، ولم يتحول عبثاً إلى عنصر مهم في أجندات الأحزاب العربية. نحن بحاجة إلى حيز الحرية الذي توفره المدينة، فشارع " بن غوريون" في حيفا لم يعد كافيا، وبالطبع لسنا من رواد "شنكين" في تل أبيب.

مشروع المدينة العربية طوره حزب التجمع الوطني الديمقراطي منذ تأسيسهِ إدراكا منه لأهمية المدينة التي فقدناها ما بعد النكبة. موروثنا الفلسطيني لم يخل من المدينة، بل اندثرت بفعل النكبة، وما يافا وتاريخها إلّا شاهد حيّ.

هل تشكل المدينة المقترحة على أراضي أهل جديدة والمكر المصادرة والمعروفة باسم "طنطور"، والتي يزمع إضافة 4 آلاف دونم لها من مصادرات جديدة، تشكل حقًا نواة لِمدينة عربية، تفي بالحد الأدنى المطلوب للمدينة العصريّة؟

للوهلة الأولى يفترض بنا لأن نهلل لإنشاء أول مدينة عربية بعد النكبة؛ في المقابل مخاوفنا ليست أقل من أمنياتنا، ويجب وضع مخاوفنا وطموحاتنا في ميزان الربح والخسارة.

 نعم، نخاف أن تتحول هذه المدينة إلى بؤرة جديدة للعنف، ومحاولة لتهجير ما تبقى من أهالي عكا العرب، وأن يكون تمددها العمراني محدود لعدة سنوات فقط، وأن تتحول إلى ضائقة سكانيّة من نوع جديد وأخطر مما هو قائم. لسنا في عالم منفصل كي لا نتعلم من تجارب حصلت في هذا العالم. في فنزويلا، وبالتحديد في المراحل الأولى لحكم تشافيز، وفي محاولة سريعة لحل مشاكل السكن في أحياء العشوائيات، ومن دون تخطيط سليم، جرى السماح للعائلات السكن بالمباني ذات الطبقات المتعددة وغير المجهزة للسكن بعد، الأمر الذي أدى إلى نشوء بؤر جديدة للفقر والجريمة.

وحتى في أميركا "العظيمة"، عند افتقار المدينة لمكوناتها تخرب. وللدلالة، هناك عشرات المدن المهجورة في أميركا. أوليسَ هذا ما يحصل في البلدات اليهودية في الجنوب، ولولا الدعم الحكومي لأصبحت مدن أشباح.

المسكن وحده ليس كفيلا بحل جميع المشاكل، فهناك البطالة والتسرب من المدارس وافتقار الخدمات الصحية، والمسرح والجامعة والمكتبة.

المدينة هي حيز كبير من المباني والشوارع المريحة والمدارس وأماكن العلاج والسينما ومراكز الاستجمام والعمل والترفيه والمساحات الخضراء، وأيضًا وهو الأهم، مساحات للتطور السكاني لعشرات السنين.

 بعد أن تمتلئ المباني السكانيّة المتاحة، ماذا بعد؟ أين سيذهب الطفل الذي كبر ويبحث عن تأسيس عائلة له؟ أليست مدينته أصبحت ذاكرته؟ هل سيبحث عن ذاكرة جديدة له ولأطفاله القادمين؟!

هذه المدينة إذا لم تحل مشاكل السكن للأحفاد أيضا، ستكون مدينة مشوهة للذاكرة الفردية وحتى الجمعيّة، ولا نبالغ إذا ما سميناها بـ"مدينة الفندق".

متواضعون، لا نطالب بمدينة ساحليّة، ولا بتل أبيب جديدة. لكن نريد "المدينة" ويحق لنا أن نأخذها.

فقدنا المدينة، لكن هذا لا يعني بالطبع أننا لن نتعلم السكن بالمدينة، وليس سرا أن الهجرة من الضواحي إلى المدينة هو حلم كل شاب وشابة، ليس فقط في إسرائيل، بل في كل أرجاء المعمورة، خصوصًا وأنه كما أسلفنا، فإن حيّز المدينة أوسع من حيز القرية أو البلدة الصغيرة، وصدرها أكثر رحابة ويتسع للتعددية والحرية. وكم نحن بحاجة لهذه الحرية.

هناك من يختصر النقاش بالقول إننا نحن العرب - في الداخل -  لا نعرف السكن بالمدن، وبأننا "سنخربها" كما يقولون، وكأن سكان بيروت والإسكندريّة وتونس ويافا وصفد (قبل النكبة) ليسوا عربًا.

إذًا، السؤال الأهم وه ماذا سنحصل في المدينة المقترحة وماذا ستوفر لنا؟               

أملنا كبير أن تخرج فكرة المدينة إلى النور، ولكن بعد أن تستوفي كافة شروط المدينة العصرية وتعويض المتضررين، وأن لا تأتي لتنفيذ سياسة التهجير أو المصادرة والحد من إمكانية تطوّر الجديدة – المكر، وعلى حساب مناطق نفوذ سلطتها المحلية.

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ونحن لا نريد أن نكرر تجربة حيّ "الشيكونات" في المكر. لا نريد مدينة "فندق".          

التعليقات