22/01/2017 - 20:03

أم الحيران: الاستعمار الاستيطاني عاريا

على الأرض، تعيد الجرافة ضبط العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر من جديد لتأكيد هويتها الإثنية، تجرف أم الحيران وتمحوها عن الوجود لتنشأ مكانها مستعمرة حيران، فسكانها ليسوا إلا "عقبة" بمجرد كونهم غير يهود يجب إزالتهم وإبعادهم

أم الحيران: الاستعمار الاستيطاني عاريا

قد تكون أكثر الأمور إثارة للاستغراب هي حالة الصدمة التي تصيب الإسرائيلي حين يتم وصف المشروع الصهيوني بأنه مشروع استيطاني استعماري. أذكر قبل عدة سنوات حين دعيت لإلقاء محاضرة لمجموعة مختارة من طلاب الدكتوراة في الجامعة العبرية، الغضب الشديد الذي أصاب بعض الطلاب حين قلت إن إسرائيل هي دولة استعمارية، صرخت حينها في وجهي إحدى الطالبات 'إذا كنا دولة استعمار فهل يعني أنك تريدين طردنا من هنا كما طرد الفرنسيون من الجزائر؟!'.

بالطبع لا يشكل نموذج الجزائر نموذجي المثالي الذي أريد الاقتداء به، لأنه وإن كان لا بد من نموذج تحرري فلنتمنى أن تكون جنوب أفريقيا مثالنا، لكن ما يبدو ظاهرا أن إسرائيل تضع أستراليا وأميركا أمام أعينها معتقدة أنها قادرة على نزع هويتنا الجمعية وتحويلنا إلى مجموعات مذررة بلا حول ولا قوة.

هنيدة غانم

من يتابع المشروع الصهيوني منذ بداياته سيجد أن إسرائيل بنيت على ثنائية المحو والإنشاء، حيث انجدل فعل تحقيق المشروع الصهيوني أولا وبناء الدولة لاحقا بشكل بنيوي بفعل عنيف لمحو المشهد الفلسطيني وإلغاء معالمه، وإحلال مشهد جديد يهودي صهيوني مكانه. في هذا الإطار، لا يمكن فهم النكبة بوصفها حدثا عابرا انتهى بانتهاء الحرب عام 1948، بل سيرورة مستمرة من إلغاء ومحو الوجود الفلسطيني الجمعي واستبداله بمشهد إسرائيلي يهودي شكلت النكبة ذروته.

فمقابل 520 بلدة فلسطينية دمرت وطرد سكانها، أعلنت الحكومة الإسرائيلية الأولى خطتها للتطوير في 11.3.49 عن البدء بإقامة 500 بلدة يهودية جديدة، ومقابل 700-800 ألف فلسطيني هجروا من بيوتهم وتحولوا إلى لاجئين ممنوعين من العودة إلى بلادهم، دخل إسرائيل 750 ألف مهاجر، أسكن جزء منهم في بيوت العرب وناموا في أسرتهم!

لا يعني هذا أن إسرائيل تسعى نحو تطهير الشعب الفلسطيني عرقيًا (Genocide)، بل إلى محوه من المكان أو على الأقل 'لتذليله' لتتمكن من الحلول مكانه، في ممارستها الاحتلالية هذه لا تختلف إسرائيل عن أنظمة استعمارية استيطانية أخرى أقيمت على أنقاض الأصلانيين كما حدث في أميركا ونيوزلندا وأستراليا، وقد كتب عن ذلك بتوسع باتريك وولف، عالم الإنسان النقدي الذي توفي مؤخرا. 

ورغم التشابه، لا بد من التشديد على أنه وبعكس المشاريع المذكورة آنفًا، بدا المشروع الاستعماري الصهيوني كأنه نجح عام 1948 في تحقيق ذاته بإقامة الدولة اليهودية مع أقلية محلية صغيرة وضعيفة لا تتعدى 10% من أهل البلاد، عاد وتحول مجددا إلى مشروع استعماري استيطاني في طور العمل بعد 1967 واحتلال باقي أراضي فلسطين، في هذا الواقع تداخلت الدولة والمشروع الصهيوني وأنتجت المستعمرة من جديد كبارديجما للحكم ولإعادة ضبط العلاقة مع الفلسطيني عبر ثنائية المحو والإنشاء. 

يتميز الاستيطان الاستعماري عن غيره من أشكال الاستعمار بأن المستعمر يسعى إلى إنشاء مجتمع سيادي يعبر عن مصالحه في بلاد تقع خارج وطنه الأم، في هذا الإطار يشكل أهل البلاد الأصلانيين من ناحية المستعمر الذي يريد التسيد على المكان، عقبة بمجرد وجودهم على الأرض المرادة لإقامة مشروعهم، وكما كتبت الباحثة الأسترالية ديبورا بيرد روس 'كي يقفوا في طريق الاستعمار الاستيطاني، كل ما على الأصلانيين فعله أن يظلوا في بيوتهم'. وفي هذا السياق يتميز فعل المحو الذي يقوم به المستعمر تجاه المشهد الأصلاني على مركباته المختلفة عن غيره من أفعال الإبادة العنصرية والتي تمارس عادة ضد فئات بسبب تركيبتها العرقية أو الدينية، بأنه لا يستهدف الأصلانيين بسبب من هم بل بسبب أين هم، أي بسبب وجودهم فوق الأرض الذي يحتاجها المستعمر لتنفيذ مشروعه، والتي تشكل، بحسب باتريك وولف، العامل المميز وغير القابل للاختزال الذي يميز الاستعمار الاستيطاني. 

فالأرض، بحسب آرثر روبين، الذي يسمى أب الحركة الاستيطانية الصهيونية، 'هي أكثر ما نحتاجه لإنشاء جذورنا في فلسطين. وبما أنه بالكاد تتوفر أراض غير مسكونة في فلسطين، فإننا مربوطون بكل مرة يتم شراء أرض واستيطانها إلى إبعاد الفلاحين الذين يفلحون الأرض، المالكين والمستأجرين على حد سواء'.

والتخلص من هذه 'العقبة' قد يحدث بوسائل متعددة  كالطرد والتهجير ومنع العودة تماما، كما حدث خلال 1948، أو عبر تحويل السكان الأصليين الى 'أقلية سياسية' منزوعة القدرة على التأثير حتى لو كانوا أغلبية كما حدث فترة الأبرتهايد، أو عبر تحويلهم من جماعة قومية إلى جماعات متشرذمة وضعيفة وطوائف وملل، ويمكن في حالة الشرذمة وتذرير الجماعة لأن تفتح إمكانيات الحراك الفردي، لكن فقط ضمن شروط المنظومة وقوانينها، كما يحدث إلى حد ما مع فلسطينيي الداخل الذين يعترف بهم كأفراد وليس جماعة قومية ويمكنهم ضمن منظومة الدولة اليهودية أن يمارسوا وظائف عليا طالما 'قمعوا' المركب القومي فيهم، وحالة أيوب قرا في هذا السياق، الذي عين وزيرًا لشؤون اللاجئين مثلا، عن العلاقة الطردية بين قمع الذات والتقدم في سلم الوظائف الرسمية، إذ كلما زاد إنكارك لهويتك القومية وتماهيك مع الآخر، كلما زادت فرصك الشخصية في الارتقاء في التراتبية الهرمية المهيمنة ويسمح للدولة أن تدافع عن بنيتها الإقصائية الاستعمارية، عبر الإشارة إلى حالات الاندماج والنجاح التي يحققها أفراد معينون، أو عبر الإشارة إلى ديمقراطيتها من خلال فتح مساحات المشاركة السياسية للأصلانيين بعد أن حولتهم من أغلبية إلى أقلية ومسمرت بنيتها الإثنية بقوانين أساس لهندستها وضمان استمرارها كقانون 'العودة' بالتوازي مع منع عودة اللاجئين.

لكن استهداف الفلسطيني بسبب أين هو وليس من هو يفقد أهميته عندما يتمازج 'الأين بالمن'، وهو ما يشير إليه أيضا باتريك وولف بقوله إن التمييز بين من هو وأين هو يتحول إلى وحدة واحدة في الواقع الاستعماري، إذ أن الفلسطيني يصبح من هو بسبب أين هو وبسبب العلاقة الجدلية بين هويته والمكان الذي يعيش فيه. بمعنى آخر، حتى لو تنازل الفلسطيني عن الأرض وحاول أن يندمج في المنظومة الاستعمارية سيظل بسبب علاقته الأولية بالمكان مصدر قلق للمستعمر.

في أم الحيران تجلى النظام الاستعماري الاستيطاني بشكل نموذجي واضح وعارٍ، إذ أقيمت هذه القرية عام 1956، بعد أن تم ترحيل سكانها من قريتهم 'وادي زُبالة' إلى قرية اللقية أولا ثم إلى منطقة في وادي عتير مرة أخرى عام 1956، حيث أقاموا قريتهم أم الحيران. لكن قريتهم ظلت مسلوبة الاعتراف ولم يتم إيصالها بالخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والصرف الصحي، ومنذ عام 2003 كما نشر مركز عدالة، يخيم على القرية شبح الهدم، إذ من المقرر أن يقام على أنقاض القرية بلدة يهودية باسم حيران، وكذلك من المقرر توسيع غابة عتير التي أقامها الصندوق اليهودي القومي.  وكما أشارت مصادر عديدة، حاول سكان القرية، وبمساعدة جمعيات مختلفة، إيجاد حل يبقيهم في مكانهم، كالتحول إلى حي في البلدة اليهودية المخططة لكن هذا رفض، وانحسرت المقترحات من قبل الدولة بالترحيل مع توفير أراضٍ في قرى بدوية أخرى. ويوم جاءت الجرافات لهدم القرية واستشهد يعقوب أبو القيعان وقتل شرطي إسرائيلي، سارعت الشرطة تتهمه، قبل أن تحقق، بأنه ينتمي لتنظيم داعش، وتمت استضافة وزيرة القضاء الإسرائيلية، أييلت شاكيد، في الإذاعة الإسرائيلية 'ريشت بيت' التي كانت تتابع الحدث، لتتحدث عن آفة تعدد الزوجات بين البدو والفوضى والإهمال وتشدد أن من حق المرأة البدوية أن تحب وأن يكون لها زوج واحد. كان هذا المشهد سرياليًا بامتياز، الجرافات تهدم القرية وتطرد السكان لتقيم قرية يهودية مكانها، ووزيرة العدل تتحدث عن الحق في الحب!

على الأرض، تعيد الجرافة ضبط العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر من جديد لتأكيد هويتها الإثنية، تجرف أم الحيران وتمحوها عن الوجود لتنشأ مكانها مستعمرة حيران، فسكانها ليسوا إلا 'عقبة' بمجرد كونهم غير يهود يجب إزالتهم وإبعادهم بسبب 'أين هم ومن هم' نحو مناطق محددة، ليمارسوا فيها مواطنتهم ضمن معايير الدولة وقوانينها، بل ويسمح لهم فيها ممارسة حقهم في الانتخاب!

وللتلخيص، لا بد من وضع قضية أم الحيران ضمن سياق المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني وليس بوصفها حدثا استثنائيا يعالج موضعيا، ترتبط القضية ببنية الدولة الإثنية كدولة يهودية تتعامل مع سكان البلاد كعقبة يجب تذليلها وليس كمواطنين، ويعني هذا ضرورة وضع أية مطالب حالية ضمن سياق سياسي قومي والمطالبة بتفكيك 'منظومة' الهرمية الإثنية والتراتبية العنصرية وتحقيق عدالة قومية ومساواة كاملة مكان التعاون مع الدولة لإيجاد حلول لتوطين أهل البلاد في معازل تحددها علاقات القوة القائمة، المطلوب النضال لتفكيك علاقات القوة هذه والتراتبية العرقية المقنعة .

المطلوب الآن الإصرار على تطوير أم الحيران والإصرار على الاعتراف بباقي القرى المهددة بالهدم التي تسمى قرى غير معترف بها، وليس أقل من هذا.

التعليقات