15/02/2017 - 14:16

"أنت متهم بالتخابر مع العدو في زمن الحرب"

الحديث هنا يدور عن المفكر الفلسطيني والعربي عزمي بشارة، الرئيس الأسبق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي. الذي، بعد أسابيع، تكون قد مرّت عشر سنوات على إقدام المؤسسة الإسرائيلية الأمنية المدعومة بالجهاز السياسي بتوجيه تهم إليه.

"أنت متهم بالتخابر مع العدو في زمن الحرب"

10 أعوام على المنفى الاضطراري للدكتور عزمي بشارة


في ذلك اليوم، ساد صفوفنا ذهول شديد وشعورعميق بالخطرعلى وجود مشروع وطني جديد كان قد تجاوز كليًا حرب البقاء وضرب جذوره عميقًا في الأرض. ازداد هذا القلق والتخوف من المصير بعد أن أتمت المخابرات يومين من التحقيق المكثف معه؛ كل يوم حوالي 8 ساعات، شارك فيه طاقم وُصف بأنه الأعلى مرتبة في جهاز التحقيق المخابراتي. يذكر أن أحد أعضاء طاقم المحققين الكبار تفاخر، قبل عامين، بأنه نجح بأن يخرجه عن طوره ويفاجئه 'بمعلومات جمعوها عنه من خلال التنصت على هاتفه'، ووجد نفسه أمام تهمة التعاون مع العدو في زمن الحرب. والمقصود أثناء العدوان الوحشي الذي شنته إسرائيل على لبنان عام ٢٠٠٦ للقضاء على المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله. كان هو ونحن، جميعًا في الحزب، نتوقع تصاعد الحملات والملاحقات ضد الحزب ولكن ما كان أحد يتوقع أن تلجأ إسرائيل إلى اعتماد هذه التهمه الأمنية في محاولة لضرب حزب وطني دخل بعد نقاش داخلي وتردد كبير إلى اللعبة البرلمانية في الكنيست، أي ضرب حزب مسجل قانونيا في سجل الأحزاب الإسرائيلية. أدركنا حينها، أكثر من أي وقت مضى، كم كان هذا الحزب، برؤيته الوطنية السياسية وبدوره الشعبي، فاعلًا في عملية تجديد مستوى الوعي السياسي في أوساط جماهيرنا الفلسطينية داخل الخط الأخضر، ودفعها إلى المزيد من الانخراط في تشكيل حاضرها ومستقبلها وفِي توطيد علاقتها مع شعبها الفلسطيني وأمتها العربية.

عوض عبد الفتأح
عوض عبد الفتّاح

كنّا، على مدار السنوات السابقة، نعيش يوميًا الحملات التحريضية المتواصلة والمتجددة ضده، وضد الحزب، التي بدأت وتصاعدت بعد أن تبلور كتنظيم حزبي جديد مع رؤية واضحة متصادمة مع الأساس الأيدلوجي الذي قام عليه الكيان الإسرائيلي. وكان ذلك عام 1999، أي بعد ثلاثة أعوام من انطلاقه. منذ انطلاق الحزب ودخوله العمل البرلماني 1995 - 1996 بالتحالف مع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، برز في أدائه، سياسيًا وفكريًا وبرلمانيًا، وشعر به الإسرائيليون بقوّة، شعور مخلوط بالإعجاب والكراهية الشديدة. لأنه عبّر ببلاغة قوية وبوضوح غير مسبوقين، عن التناقضات الكامنة في بنية إسرائيل، وعن مصدر الظلم الفاحش االناجم عن ذلك ضد المواطنين العرب، فلسطينيي الـ٤٨، وعموم الشعب الفلسطيني.

الحديث هنا يدور عن المفكر الفلسطيني والعربي عزمي بشارة، الرئيس الأسبق لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي، بعد أسابيع، تكون قد مرّت 10 أعوام على إقدام المؤسسة الإسرائيلية الأمنية المدعومة بالجهاز السياسي بتوجيه تهمة إليه بالتخابر مع العدو (أي حزب الله اللبناني) أثناء الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على لبنان بهدف القضاء على المقاومة اللبنانية. وحسب القانون الإسرائيلي، فإن تهمة من هذا النوع عقابها السجن المؤبد، بل تصل إلى حكم الإعدام (مع أن إسرائيل نادرًا ما تنفذ هذه العقوبة).

أثارت قضية التحقيق والتهمة الكبيرة الموجهة إلى بشارة، والتي انتهت بالمنفى الاضطراري، ضجة كبيرة وجدلًا واسعًا سواء في مؤسسات الدولة العبرية أو في المجتمع الإسرائيلي. كما سببت صدمة بين فلسطينيي 48 وأحزابهم السياسية ونخبهم. وتنوعت آنذاك ردود الفعل وتفاوت التعامل مع القضية. كان المجتمع الإسرائيلي، بما فيه نخبه ومنها المصنفة نفسها كليبراليّة، قد وصلت كراهيتهم لعزمي بشارة إلى أقصى مستوى، بسبب الخط الصدامي الذي اختطّه ضد مبنى الدولة اليهودية وأيدولوجيتها الصهيونية المناقضة لفكرة الديمقراطية التي تتبناها إسرائيل رسميًا، وبحجة أن ميوله القومية باتت أكثر تطرفًا وأقل ديمقراطية. أما في ما يتعلق بردود بعض قيادات الأحزاب السياسية، وبعض الأوساط في المجتمع العربي فقد كانت في المرحلة الأولى حذرة، ومترددة إزاء الموقف المطلوب اتخاذه. البعض كان متخوفًا من أن تكون التهمة صحيحة، وخشي أن تكون لذلك تبعات سياسية ومعنوية سلبية. وجزء آخر كان لديه حساسية من شخصية عزمي بشارة، ليس بسبب لغته الحادة ونزعته النقديه الصارمة، بل في الأساس بسبب ما مثله من تحدٍ حقيقي لمنظومة التفكير السياسيّة وطريقة العمل البرلماني التي كانت سائدة آنذاك في أوساط الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.

 وبعد مرور عشر سنوات، كبرت أجيال يدفعها الفضول لمعرفة خلفيات وحيثيات هذا الحدث والشخصية التي كان لها أثر كبير في المجتمع الفلسطيني، سياسيًا وفكريًا وثقافيًا. وهي أجيال فتحت عيونها على واقع من القهر والنهب وانسداد الأفق، أجيال تبحث عن المعنى وعن الحقيقة، أجيال منفتحة وغير ملوثة بحساسيات حزبيّة أو متشنجة، تريد أن تعرف عن كل شيء عن تاريخ نضال فلسطينيي الـ٤٨ ورموزهم، وعن المحطات الهامّة التي مرت بها. ويستطيع الكثير من أبناء وبنات الجيل الفلسطيني الجديد غربلة المعلومات بروح نقدية راقية. وعزمي بشارة، اسم بات يسمعونه ويسمعون عنه الكثير كلما توغلوا أكثر في الواقع السياسي وتصادموا مع واقع القهر. ولا ينفك العديد من هذه الأجيال الشابه يسأل ويرغب في الحصول على المعلومات، وليس عن الاّراء فقط، خاصة في خضم الفوضى التي تعيشها المنطقة العربية، وفي خضم الانقسامات الكارثية في المنطقة، وفِي ظل الصراعات الحزبية الشديدة التي سادت الخريطة الحزبية العربية داخل الخط الأخضر لفترات طويلة. وهذه الصراعات لم تتراجع حدتها إلا مؤخرًا، وبالتحديد بعد تشكيل القائمة المشتركة لانتخابات الكنيست لعام 2015. والحقيقة أن طرح الأسئلة عن هذا الحدث لا يتوقف من قبل العديد من أبناء وبنات الجيل الجديد، المهتم والمتابع للشأن العام والمهتم في الحقيقة وفي الحصول على المعرفة التي تساعده في تكوين رؤيته للحياة ولنهضة المجتمع وتحرره. تدرك أوساط واسعه منهم أن شخصية عزمي بشارة، الفكرية والسياسية ودوره القيادي البارز آنذاك، وما خطط ضده أوائل عام 2007، ليس أمرًا شخصيًا، بل أمر وطني عام، ويضعونه في سياق الصراع الضاري المستمر ضد الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية ورموزه.

 كان لعزمي بشارة الدور المحوري في بلورة الرؤية الوطنية الديمقراطية لحزب سياسي تحول خلال فترة قصيرة إلى حزب مركزي يقض مضاجع المؤسسة الإسرائيلية، ويلهب قطاعات شعبية واسعة من أبناء شعبنا، في ظرف كان التراجع والضعف، وسقوط المشاريع الكبرى قد بلغ مرحلة خطيرة (الاتحاد السوفيتي وتحرير فلسطين، وعودة مظاهر الأسرلة داخل الخط الأخضر وانعكاسه علينا، أيضًا، كجزء من الشعب الفلسطيني). وتحول عزمي بشارة، بفضل فكره وجرأته، وبلاغته، وقيادته لحزب وطني صاعد، إلى متحدث شبه دائم في الفضائيات العربية، مما ساهم بشكل كبير في تعريف النخب في الوطن العربي على واقع فلسطينيي الـ48 وعلى الطاقة التحررية التي يختزنها هذا الجزء المنسي من شعب فلسطين. ليس المقصود هنا أن بشارة هو وحده الذي كشف واقع فلسطينيي الـ48، للخارج، فقد كانت في الداخل، دائمًا، قوى سياسية، علمانية أو دينية، نشيطة وفاعلة ورموز وطنية معروفة، نتفق معها ونختلف معها، وتتفق معنا وتختلف معنا، أيضًا، وهذه الأحزاب ورموزها كلها جزء عضوي من الإرث النضالي لهذا الجزء من شعبنا؛ إنما في الدور الفكري والسياسي والثقافي الذي لعبه بشارة في توسيع دائرة الوعي العربي بهذا الوجود الفلسطيني في إسرائيل، عبر مدخلين جديدين، أولهما: إعادة فتح الصراع مع الصهيونية من خلال تحدي يهودية الدولة الإسرائيلية، بعد أن كان أغلقه اتفاق أوسلو عبر الاعتراف الرسمي والعملي بإسرائيل؛ وثانيهما: على أساس تطوير العلاقة مع الوطن العربي بين فلسطينيي الـ48 باعتبار أننا جزء من الأمة العربية، تاريخيًا حضاريًا وثقافيًا وسياسيًا، ولسنا جسرًا للسلام، على أساس وحدة الوطن العربي وربطها بالديمقراطية كشرط لإحياء وإنجاح فكرة القومية العربية والنهضة العربيّة المعطلة. وقد طور بشارة، في إطار المساهمة الفكرية في مسالة الوحدة العربية، فكرة ربط القوميّة بالديمقراطيّة، وهي إضافه نوعية إلى المساهمات الهامة، التي كان عشرات المفكرين العرب البارزين قد قدموها. ولا تجد عزمي بشارة يهمل أي اسم من أسماء المفكرين العرب في أبحاثه. وكان لافتًا للخارج، خاصة للوطن العربي أن قائدا فلسطينيا ومن داخل إسرائيل يقدم هذه المساهمة المتميزة وباعتراف العديد من المفكرين العرب، والذين كتبوا عنه وتناولوا كتابته الفكرية بالتحليل والنقد (كتاب 'مقدمات في دراسة المجتمع المدني' في التسعينات، والذي توقع فيه أن أول ثورة عربية متوقعة قد تنطلق من تونس). وكذلك، كان لافتًا أن هذا المشروع الثقافي السياسي الجديد ينطلق من بين الفلسطينيين داخل تجمع فلسطين 48، الذي كان اتفاق أوسلو قد كرسه شأنًا داخليًا إسرائيليًا عازلا إيّاه عن المشروع الوطني الفلسطيني، مع ما يترتب على ذلك من تشجيع الفلسطينيين حاملي المواطنة الإسرائيلية على الغرق في الأسرلة ووهم تحقيق المساواة إذا ما تخلوا عن كل ما يربطهم بالهوية الوطنية، وبالقضية الفلسطينية. وما ميّز عزمي بشارة أنه جمع بين العمل السياسي والباحث، ما أغنى الساحة الفكرية بإنتاجات نوعية صدرت في كتب ودراسات عديدة وأغنى التجربة السياسية والكفاحيّة لفلسطينيي الـ48. وكان لافتًا قدرته على الجمع بين عمله البرلماني (الكنيست) والتنظير (الكتابة والخطابة) والعمل التنظيمي (الحزبي) والظهور في الإعلام. بيد أن السنوات الأولى لهذا المشروع لم تكن دون صراعات مع الأحزاب الأخرى، بل تعرض عزمي بشارة والتجمع لهجمات شديدة من قبل بعض الأحزاب العربية. وبطبيعة الحال، لم نقف مكتوفي الأيدي إزّاء هذه الهجمات وواصلنا المسيرة بقوّة وبخطوات واثقة، دون أن نهمل داخليًا عملية المراجعة والنّقد الذاتي. وهذا أمر طبيعي عندما تقتحم الساحة السياسية قوة تغيير حقيقيّة، تسعى إلى تحدي نمط التفكير السائد.

خلفية الفبركة الأمنية - 'لم أعد أطيق بقائي في الكنيست'

لم يأتِ استدعاء عزمي بشارة إلى التحقيق في 23 آذار/ مارس من العام 2007، وهو عضو كنيست مع حصانة برلمانية، معزولًا عن سياق طويل من التحريض والملاحقة والمحاكمات، كما ذكرنا أعلاه.

فمنذ عام 1996 حتى عام 2003، كان بشارة العضو الوحيد في الكنيست عن التجمع. ولذلك، فقد كان هدفًا مباشرًا للهجمات من قبل الأحزاب الإسرائيليّة والإعلام الإسرائيلي. واتسعت الحملات وازدادت حدتها بعد أن تطور الحزب أفقيا وعموديا، وتضاعف عدد أعضاء ممثليه في الكنيست من واحد إلى ثلاثة، وتحدّدت أكثر وأكثر رؤيته السياسية والأهم ممارسته السياسية. وقد اجتهد وأبدع في التعبير عن هذه الرؤية من خلال خطاباته النارية والعميقة في الكنيست وفي المهرجانات الشعبية أو من خلال أدائه الإعلامي المدموج بالبعد الديمقراطي الذي كان يُربك الخصم. كما كان الحزب بكوادره وأعضائه وأنصاره في قلب كل معركة شعبيّة. وفي إطار حملة التحريض على الحزب وعلى دوره، أصدرت المخابرات الإسرائيليّة بيانًا في الأيام الأولى للانتفاضة الثانية عام 2000 محملة الحزب المسؤوليّة عن التحريض على المظاهرات والمواجهات الشعبية العنيفة، التي اندلعت داخل مدن وقرى الجليل والمثلث والنقب والساحل. وجاء في البيان أن قيادات وناشطي التجمع شوهدوا في مقدمة معظم هذا المظاهرات والمواجهات. صحيح أن قيادات التجمع وناشطيه كانوا بين الجماهير وهذا أمر نفتخر به، لأن هذا هو الدور الطبيعي للقوى الوطنية الحقيقيّة، ولكن المواجهات كانت عفوية، ردًا على المجازر التي كانت ترتكبها إسرائيل ضد أبناء شعبنا في القدس، الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

أما البعد الثاني في برنامج التجمع، الذي قضّ مضاجع المؤسسة الإسرائيلية، هو استثمار عزمي بشارة للحصانة البرلمانية في تطوير نوع مختلف من العلاقة مع الوطن العربي، بحيث تتم الزيارات بدون إذن من المؤسسة الإسرائيلية. فالقانون كان يسمح لعضو الكنيست في إسرائيل بزيارة دولة عدو.

وبخصوص البعد الأول، أي تحدي يهودية الدولة، فقد كانت المؤسسة وأذرعها قد بدأت بالتعبير عن نفاذ صبرها إزائه. وفي هذا الشأن، كتب رئيس جهاز الأمن العام (شاباك) السابق، عامي أيالون، في كتابه بعد أشهر من انتهاء فترة إشغاله المنصب عام 2001، 'إن عزمي بشارة والتجمع تجاوزا الخط الأحمر. هما لا يعترفان بحق اليهود في دولة خاصة بهم. وهذا يناقض شرط التمثيل في الكنيست ولذلك يجب تقديمهما للمحكمة'.

في هذه الأثناء، كانت الكراهية من قبل أعضاء الكنيست والنخب والإعلام قد بدأت بالتصاعد وبصورة جنونيّة ضد عزمي بشارة، لدرجة أنه في السنوات الأخيرة بات معزولًا داخل الكنيست. وبدأ يُعبر عن ذلك بصورة متكررة ومعبرًا عن شعوره بأنه لم يعد يُطيق بقاءه هناك وبات يكرر في الجلسات الخاصة 'إنني أكرههم'. ويذكر المحاضر في جامعة بئر السبع، الصديق المناهض للصهيونية، أمنون راز، أن عزمي كان مصدومًا من أن حتى بعض معارفه أو زملائه من الباحثين والأكاديميين الإسرائليين، الذين كانوا يعرّفون أنفسهم كليبراليين باتوا أشد عداءً لفكره وله شخصيا بعد تأسيس التجمع. ويعزو راز هذا العداء إلى كون بشارة كشف حقيقتهم وزيف ليبراليتهم وهم الذين كانوا يعلنون أنهم يؤيدون إقامة دولة للفلسطينيين.

وخلال العام الذي سبق المنفى، كان قد طلب أكثر من مرّة من المكتب السياسي إعفاءه من عضوية الكنيست وأن يحل محله عضو آخر. وأنا اقتطف من البرتوكول ما قاله بهذا الصدد: 'أنا لم أعد أطيقهم، وهم اشتد عداؤهم ضدي، لم يعد ما لدي ما أضيفه في الكنيست، استنفذت نفسي، فهذه الساحة بالتالي محدودة، أنا أرى أن هناك فائدةً حزبيّةً في أن استقيل وأساهم أكثر مع الكوادر التنظيمية في العمل التنظيمي والشعبي، علينا أن نضع جهدًا أكبر في بناء الحزب وتحسين تنظيمه. كما أنني أحتاج للتفرغ أكثرَ للكتابة. كان دوري البرلماني مهم لتعريف الناس بالحزب وبنشر أفكاره، وهذا كان يشكل ربما 80% من عملية بناء الحزب. ولكن الآن، تحتاج تقوية الحزب إلى هذه النسبة من العمل ولكن في التنظيم وليس في الكنيست'.

كرر المكتب السياسي رفضه لطلبه. أنا شخصيًا، كان لي ولا زال تقدير كبير لموقفه، بل كنت أميل بشدّة لموقفه، لأن دخول الحزب إلى الكنيست كان في الأساس للمساهمة في إعادة بناء التيار القومي في الداخل وتطوير النضال الشعبي وبناء المؤسسات الوطنية، من خلال مخاطبة الناس من هذا المنبر، وأن تبقى مسألة الانسحاب من الكنيست وعدم المشاركة في انتخاباتها مطروحة على الطاولة.

وبالعودة إلى الموقف من الدولة اليهودية، ففي محاكمته عام 2003 عندما استأنفنا، كحزب، ضد قرار لجنة الكنيست الذي قضى بمنعنا من خوضنا انتخابات الكنيست، قالت ممثلة النيابة (الدولة)، تاليا ساسون، في إطار مرافعتها ضد الحزب وضد عزمي بشارة، 'إن الأمر الخطير في هذا الحزب هو مطالبته بالمساواة الكاملة، ما يعني انتهاء الدولة اليهودية'، وهذا يعني في نظر الدولة عدم الاعتراف بحق تقرير المصير لليهود بأن يكون لهم دولة (لاحقًا، عبّرت، بصورة غير رسميّة، عن ندمها لقول ذلك).

 طبعًا الحزب لا يُخفي برنامجه وفكره الذي يطالب بالمساواة الكاملة على أنقاض الصهيونيّة العنصريّة (وهو في الحقيقة بوصلة تحدٍ وشحن في الأساس وليس مطلبًا) وحدد الحزب دوره في التصدي سياسيًا وفكريًا وإعلاميًا لنزع الشرعية عن المبنى العنصري لدولة إسرائيل، بطرق سياسية وفي إطار اللعبة السياسية القائمة. ومن خلال ذلك، وبموازاته، أيضًا، تجري إعادة بناء الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر.

 أمّا بخصوص البعد الثاني، وهو البعد القومي العربي في برنامج التجمع، فقد تُرجم آنذاك في نشاطين هامين. الأول هو في تعزيز علاقة الحزب والمواطنين العرب بالوطن العربي ومع نخبه وأحزابه القوميّة والديمقراطية والتماثل مع حق الأمّة العربيّة في الدفاع عن نفسها ضد المحتل الإسرائيلي. وأن التواصل مع هذه النخب ومع الشعوب العربيّة لم يكن ليتم إلّا من خلال العلاقة مع الأنظمة العربية القائمة بغض النظر عن طبيعتها، مع ما يحمل ذلك من دفع ثمن. وقد جرت عدة حوادث أو نشاطات شكّلت مادّة للتحريض المحموم ضد بشارة:

الحادثة الأولى عند اضطرار إسرائيل للهروب من لبنان عام 2000 تحت ضربات المقاومة اللبنانية، وقد أشاد عزمي بشارة بهذا النصر في مهرجان نظمه حزب التجمع، قال فيه إنه 'لأول مرة نذوق طعم النصر كعرب'، أمّا الحادثة الثانية، فعندما عبّر عن رأيه أثناء كلمته في القرداحة، بعد وفاة الرئيس السوري الأسبق، حافظ الأسد، في صيف عام 2000 بأن 'بين الاستسلام والحرب الشاملة، هناك خيار المقاومة'. ونذكر الحملة السياسيّة والإعلامية غير المسبوقة التي انطلقت ضدّه قبل أن  يعود من سورية إلى البلاد.

وقدّم إلى المحاكمة على خلفية هذه التصريحات واستمرت الجلسات لعدة سنوات، أثبت فيها الدفاع أن ذلك يندرج ضمن حق التعبير وضمن حق وواجب عضو الكنيست.

في حين أن الحادثة الثالثة كانت تنظيم لقاءات بين الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر لأقاربهم اللاجئين في سورية. وطوّر الدكتور بشارة هذه اللقاءات لتشمل أبناء الطائفة العربية الدرزيّة المفروض عليها التجنيد الإجباري الذي اعتمدته إسرائيل كجزء من إستراتيجية السيطرة على الأقلية الفلسطينية، وذلك من خلال سياسة فرّق تَسُد. وكان لبشارة هدفان: الأول إنساني؛ وهو تمكين أبناء الطائفة المعروفية الفلسطينية من زيارة أقاربهم. والهدف الثاني؛ سياسي- وطني أي إحداث تمرّد داخل هذه الطائفة العربية الفلسطينية ضد سياسات إسرائيل الاستعمارية والعمل على تخليصها من جريمة التجنيد الإجباري.

وكان هذا ناقوس خطر بالنسبة لإسرائيل. فبدأت بالمحاكمات لعدد كبير من الذين شاركوا في الزيارات وكذلك الذين ساعدوا الدكتور عزمي في تنظيم الزيارات وجرى اعتقال عدد منهم. لا شك كان لهذه الزيارات أثر كبير في أوساط واسعة داخل الطائفة العربية الدرزية، من حيث اتساع اليقظة الوطنية، الأمر الذي عزز مكانة القوة الوطنية المعروفية التي كانت فاعلة منذ عشرات السنين ضد التجنيد الإجباري ولكنها كانت محاصرة من قبل المؤسسة الإسرائيلية وأعوانها داخل الطائفة.

وكان آخر نشاط قومي قام به الدكتور عزمي بشارة، أثناي قيادته الحزب، هو زيارة الضاحية الجنوبية في بيروت بعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان، مستهدفًا المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله أواخر عام 2006.

قبل هذا النشاط كانت إسرائيل، وبعد أن تيقّظت للدور الوطني الجديد الذي كان يقوم به بشارة في الوطن العربي، قد بدأت بالتحضير لسن قانون يمنع أعضاء الكنيست الإسرائيليين من زيارة دول 'عدو'، وسمي القانون بقانون عزمي بشارة لأنه كان موجهًا في الأساس إلى بشارة نفسه، وبهدف وضع حدّ للاستفادة من الحصانة البرلمانية. وسنت الكنيست القانون لاحقا، وأطلق عليه قانون عزمي بشارة.

 لم يتراجع بشارة عن مواقفه ولا التجمع الوطني الديمقراطي؛ سواء في الموقف من قضايا الأمة العربية القوميّة والديمقراطيّة أو قضية النضال الفلسطيني العام أو قضية الفلسطينيين في إسرائيل ضد البُنية اليهودية والكولونيالية لهذا الكيان. ولهذا لا تنفك الملاحقات والحملات التحريضيه والإجراءات القمعيّة تتواصل وتتصاعد.

من الفشل في الساحة القانونية والأيدولوجية إلى المواجهة الأمنية

 لم يُجدِ مسلسل الملاحقات السياسية والتشريعية ضد عزمي بشارة وضد التجمع، فتحولت إسرائيل إلى السّاحة التي تمتاز فيها، ألّا وهي الساحة الأمنيّة.

واجه عزمي بشارة من خلال الكنيست، المنظومةَ الأيدولوجية الصهيونية والعنصرية، ومن خلال المثول في المحاكم بمستوى عالٍ من المرافعة الأيدولوجية والسياسية والأخلاقية. وهو الذي يحمل الدكتوراه في الفلسفة والمتمرس في النشاط السياسي منذ صباه، من خلال عضويته ونشاطه في الحزب الشيوعي (الذي تركه أواسط الثمانينات). فوُجهت له تهمة التخابر مع حزب الله أثناء الحرب، مستغلة زياراته ولقاءاته إلى سورية ولبنان، واتصالاته الهاتفية العاديّة، ووضعها في سياق أمني خطير. تيقّن عزمي بشارة أثناء التحقيق بأن ملفًا أمنيًا خطيرًا يُحضر له.

لم ينته التحقيق معه وطلب منه أن يعود في الأسبوع التالي لاستكمال التحقيق. لكنه أبلغهم أنه لديه برنامج في الخارج مرتب مسبقًا. وأثناء وجوده في الخارج تدارس الأمر مع أعضاء المكتب السياسي، ومع محامين قاموا بزيارته في الأردن، وتقرر أن لا يعود لكون احتمال نجاته من هذه التهم يقارب الصفر.

 كان الهدف الإسرائيلي واضحًا؛ إنهاء دوره الوطني والفكري كليًا على المستوى الفلسطيني والعربي عبر زجه في السجن لسنوات طويلة قد تصل إلى عشرين عاما، ومن خلال ذلك توجيه ضربة قاضية لحزب التجمع بعد أن كان نجح في تجاوز محاولات متكررة لمنعه من المشاركة في الكنيست، بهدف إسقاط شرعيته القانونية وليصبح بعد ذلك مكشوفًا كليًا أمام ضربات أجهزة الأمن القمعية.

لقد ظن الكثيرون، كما اعتقدت الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة، أن حزب التجمع، بهذه الضربة، قارب على الاندثار بفعل الصدمة. غير أن المؤسسة الإسرائيلية، والعديد من الأوساط السياسية الفاعلة داخل المجتمع الفلسطيني، كذلك، فوجئت بالرد السياسي والإعلامي والشعبي القوي المضاد الذي قامت به قيادة الحزب بغياب عزمي بشارة. وتأكد الجميع أن لهذا الحزب قيادة جماعية ومؤسسات قيادية وهيئات دستورية، والأهم قاعدة جماهيرية عريضة مساندة تشكلت وتوطدت على مدار سنوات من العمل التنظيمي المضني والنشاط النضالي المكثف. وتجلت ثمار هذا البناء التنظيمي والجماهيري والنشاط النضالي في الاجتماع الشعبي الحاشد السريع الذي بادرنا إليه في الناصرة بعد إعلان إسرائيل عن مؤامرتها ضد عزمي بشارة. وفاقت المشاركة أضعاف الذين كانوا يشاركون اجتماعات الحزب السابقة. تدفق الناس من كل حدب وصوب، وبشعور عارم، وباستعداد عال للدفاع عن هذا الحزب وما يمثله من تطلعات، وعن أحد أهم رموزه.

 لقد تمثل الخط الإعلامي للتجمع في أن إسرائيل فبركت ملفًا أمنيًا لعزمي بشارة بعد أن فشلت في مواجهته ومواجهة الحزب في الساحة الأيدولوجية والسياسية، وفي أن المستهدف الأكبر هو الفلسطينيين جميعهم داخل الخط الأخضر وأحزابهم وحركاتهم الوطنية وليس التجمع وحده. وقد أشار إلى رد الحزب الناجح الصحافيّ في 'يديعوت أحرونوت'، روني شاكيد، الذي كتب: 'لقد أتقنت قيادة حزب 'بلد' (أيّ حزب التجمع) إدارة الحملة، إذ كان ردها هجوميًا وليس دفاعيًا'. وأضاف أن 'قيادة بلد تعتبر ما تقوم به الدولة هو مؤامرة ليس ضد بشارة والتجمع أساسًا، بل إنه استمرار لسياسة إسرائيل المعاديّة للمواطنين العرب وحقوقهم'.

واجب تعريف الأجيال الجديدة

أينما ذهبت، سواء داخل الخط الأخضر أو الضّفّة الغربيّة أو في الخارج، ما زلت أجدُ من يريد معرفة قصة النفي لعزمي بشارة، حتى بعد كل هذه السنين الطويلة، من مصدر مباشر أو مقرب. وتجد هناك من يحمل معلومات ناقصة أو مشوشة، وبعضهم يعرف المساهمات الفكرية والبعض الآخر لا يعرف عنه سوى مواقف من قضايا محدّدة. طبعًا، لعزمي بشارة، كما نرى على صفحته في 'فيسبوك' و'تويتر'، لديه مئات الآلاف من الأصدقاء وعدد كبير من المفكرين والمثقفين من الوطن العربي.

ولذلك أجد في مناسبة مرور عشر سنوات على المؤامرة والنفي، فرصة لإعادة التعريف، ولو بالإشارة وبشكل سريع، بأهمية مساهماته الفكرية والسياسيّة والنهضويّة، والتي كانت ترجمتها العمليّة الأولى على أرض فلسطين، تاركًا الفرصة لآخرين للمساهمة خلال الأسابيع القادمة ليدلوا بدلوهم، أي عشية هذه الذكرى.

وأعتقد أن ما يهم الكثيرين من شعبنا الفلسطيني وخاصة طلائع الشباب المثقف والمتعلم الذي يحمل هم قضيته الفلسطينيّة وعبء مواجهة إفرازاتها اليوميّة. وافترض، أيضًا، أن ما يقدمه عن قضايا النهضة والديمقراطيّة، التي تشغل العالم العربي منذ أكثر من مائتي عام، وخاصة بعد الثورات العربية المجهضة على يد أنظمة الاستبداد والتنظيمات الدينية الفاشية وقوى التدخل الخارجي، يهم الكثيرين من نخب شعبنا. وليس لدي ذرة شك بأن لهذه الكتابات سيكون دور نوعي وعملي في المستقبل، عندما يعاد تجميع قوى الثورة والتغيير واستئناف المسيرة بعد المراجعة والنقد الذاتي. نحن كشعب واقع تحت قهر نظام كولونيالي، وكجزء من الأمّة العربيّة، نحتاج لكل ما يساعد الأجيالَ الشابّة الحاليّة والقادمة في معرفة الطريق الأقصر إلى الهدف، طريق النهضة والديمقراطية والتحرر الوطني والاجتماعي.

لقد بات معترفا منذ سنوات طويلة، في الأوساط الأكاديمية الفلسطينية أو الإسرائيليّة، أن ما قدّمه عزمي بشارة، كباحث وقائد حركه سياسيّة، من خلال اختصاصه الأكاديمي ومن خلال التجربة الجماعية الكفاحيّة لحزب التجمع، حملَ إضافةً نوعيّة إلى التجربة السياسيّة لفلسطينيي الداخل في مرحلة ما بعد أوسلو، وأغناها فكريًا وسياسيًا وثقافيًا. إن مساهماته في ما يتعلق بإدارة الصراع مع الدولة اليهوديّة والرؤية البديلة عن المشروع الكولونيالي العنصري المتمثله بدولة كل مواطنيها وفصل الدين عن الدولة ونبش التناقض بين يهوديتها وديمقراطيتها، والحكم الذاتي الثقافي، وتنظيم العرب على أساس قومي، باتت جزءًا من الفكر السياسي لفلسطينيي الداخل بغض النظر عن القصور عن تحويل كل ذلك إلى مشروع سياسي فعلي، وإبقاء النافذة مفتوحة نحو حل الدولة الواحدة.

أعتقد أن من واجبنا أمام الأجيال الجديدة الناهضة، تعريفها بالمساهمات الفكرية والسياسيّة التي تراكمت من خلال تجربة حزب التجمع، والتي لعب عزمي بشارة فيها دورًا محوريًا حتى عام 2007. كما كان، وما زال، تعريفها بدور كل الحركات السياسيّة التي صاغت تجربة فلسطيني الداخل، بإيجابياتها وسلبياتها، بدءًا من الشيوعيين العرب، مرورا بحركة الأرض، وحركة أبناء البلد، والحركة التقدمية، والحركة الإسلاميّة، وحركات وطنيّة محليّة عديدة واجبًا وطنيًا وحاجةً وجوديّة. ولم تأتِ تجربة التجمع الوطني الديمقراطي مقطوعة عن تاريخ ومنجزات هذه الأحزاب والحركات السياسيّة العربيّة، بل إنها امتداد لها وتطوير لها في نفس الوقت.

عشية الذكرى العاشرة لوجود بشارة في المنفى، والذي لم يتوقف خلاله من الإنتاج الفكري والثقافي الغزير، أرى أنه من المهم أن يتناول الباحثون إسهاماته الفكرية والسياسيّة، بالمراجعة، والنقد والتحليل، لتكون عونًا للأجيال الجديدة في المعركة الوطنيّة، التي تتجدد في مواجهة النظام الصهيوني الاستعماري، وفِي مواجهة الحالة الاجتماعيّة لشعبنا والتصدي لمعيقات النهضة والنهوض المجتمعي. وهذه الإسهامات، جزء منها مقالات ودراسات قصيرة، وجزء آخر في كتب والعديد من الدراسات القصيرة عن القضيّة الفلسطينيّة وعلاقة فلسطينيي الـ48 بالحل النهائي للقضيّة الفلسطينية ودورهم في الصراع ضد الصهيونيّة. وحتى عام 2007، من بين ما صدر من كتب: المجتمع المدني، البيان القومي الديمقراطي، الخطاب السياسي المبتور، النهضة المعاقة، أن تكون عربيًا، المسألة العربية، والحاجز (رواية). كما أنه أصدر العديد من الكتب منذ ذلك الوقت، وأبرزها المجلّدات الثلاثة عن الدين والعلمانية. فضلًا عن الكتب التي عالجت الثورات العربية، أسباب انفجارها وأسباب انتكاسها.

لدينا اليوم، داخل الخط الأخضر، عشرات الباحثين والمثقفين، المنتمين والمستقلين، فضلًا عن مئات الخريجين الجامعيين، الذين يحملون خطاب المواجهة مع يهودية الدولة وبنيتها الكولونيالية، وهم نتاج مرحلة العقدين الأخيرين من هذا التطور في الفكر السياسيّ الحديث. كما لدى شعبنا الفلسطيني في كل مكان آلاف الباحثين والمثقفين والأدباء الذين يحملون راية التحرر الوطني والاجتماعي والثقافي على أنقاض الصهيونيّة المتوحّشة، وأنقاض الأنظمة المستبدّة المجرمة. ومن المنتظر أن يكون لهم دور مهم في مواصلة المهمّة الوطنيّة والإنسانيّة في التحرر، وترجمة الرؤية السياسيّة والثقافيّة الملائمة لواقع وخصوصية كل تجمع فلسطيني دون أن تصبح هذه الخصوصيات متصادمة، بل متكاملة. وهذا ما ينتظرنا كنخب، وكقوى سياسية، كلها، بما فيها حزب التجمع.

التعليقات