18/05/2017 - 11:25

الداعشية الإعلامية في خدمة التضليل

لا تحتاج حادثة مثل ما يحدث مؤخرا في العراق، أكثر من "داعشية إعلامية"، مدججة بكل الأكاذيب والتحليلات والمحللين، وشاشة، ومراسلين يروجون انفعالات حول "الحسم"، ومذيعات يتساءلن مع آخر صرخة وموضة، هل نفهم أن المعركة على حافة الحسم؟

الداعشية الإعلامية في خدمة التضليل

عبد الحكيم مفيد

لا تحتاج حادثة مثل ما يحدث مؤخرا في العراق، أكثر من 'داعشية إعلامية'، مدججة بكل الأكاذيب والتحليلات والمحللين، وشاشة، ومراسلين يروجون انفعالات حول 'الحسم'، ومذيعات يتساءلن مع آخر صرخة وموضة، هل نفهم أن المعركة على حافة الحسم؟

 أمام مثل هذا السؤال حضرنا العرض أكثر من مرة، وفي كل مرة تم خداعنا من جديد، بذات الأساليب والكلمات والمحللين، ويا للعجب، كانت وسائل الإعلام مجمعة بلا استثناء على ذات السؤال، ولم تخرج عن رواية 'الهيمنة الإعلامية' العالمية، 'داعش' أصبحت بلا منازع الطرف الذي يحاربه الجميع.

 لم تعد 'الداعشية' بكل 'هيبتها' مجرد صفة لتوصيف حالة سياسية تستثمر لبناء اصطفافات، وتبرير جرائم وتفكيك، لم تعد الجدار الذي يختبئ خلفه الذين لا يشمون رائحة الكيماوي، لأسباب لا تتعلق بالحاسة، لم تعد ولا حتى شماعة تعلق عليها كل كوارث العصر قاطبة، من الموصل مرورا بالفلوجة، عطفا على مضايا، والشانزلازيه في مدينة لا تنطفئ أنوارها، لقد غدت هي، وفقط هي، القادرة على بناء كل رواية ممكنة، لأي حدث محتمل، وأخضعت الوعي البسيط منه والذي يحب الفلسفة، إلى ذات الواقع والوقائع.

 بخلاف أمور أخرى

بخلاف أمور كثيرة تختلف بها الروايات، والتفاصيل أحيانا، يكاد يكون من الصعب أن تختلف 'الرواية الإعلامية' بشأن داعش، من السي. إن. إن مرورا بالبي. بي. سي عطفا على العربية والجزيرة والميادين، ولا تتوقف الرواية بخلاف ما قد نعتقد على مجرد التشابه، أنها تستدعي سلوكية ومواقف.

وداعش التي 'احتلت' العالم مرات عدة، وهزمت أو 'تلاشت' مرات أكثر، وهي ذاتها التي ينتظر العالم  'الحسم' بشأنها، وهذا لا يبدو مهما، مقارنة بما تحدثه 'الداعشية الإعلامية' من عملية اختراق منظم لوعي 'قطيع إلكتروني' يخضع لأخطر عملية تشويه وتضليل عبر 'مقاطع مؤثرة' وأخرى 'يحذر من مشاهدتها لأصحاب القلوب الضعيفة'، وعي يخضع لعملية قصف مكثف ومنظم يحمل كل سمات البروبوغندا، ومعها رسالة واحدة، 'الإسلام إرهاب'.

 النقاش حول إذا كان تنظيما 'مخترقا' وتديره جهات أخرى لها مصلحة بمثل هذا النموذج في رأينا هو غير مهم للغاية، لأنه يقوي رواية 'التدعيش'، إذا كان داعش تنظيما 'مخترقا' فإن هذا يفترض أن مشكلة داعش في اختراقه، وعندما يتبين تحديدا أن جهات استخبارية  وبالذات إسرائيلية فإن الأمر يقوي ادعاءات الجهات التي تدعي أنها تحارب أميركا ومشروعها، ولا يفضل ترويج خديعة الاختراق، لأنها ستعفي كل المجرمين الآخرين من جرائمهم، وستقوي ادعاءاتهم بشأن محاربة 'الإرهاب'، بل قد تحولهم إلى قديسين، ويبدو السلاح  الكيماوي والإبادة المنظمة ليست أكثر من 'أخطاء' ارتكبت في الحرب على 'الإرهاب'، هذا بالضبط ما يحدث الآن.

كلام قد لا نتفق حوله

تؤدي الداعشية مهمتين هما من أخطر ما تعيشه الحالة العربية والإسلامية، مؤخرا، فهي تبرر كل أفعال إجرامية ممكنة، وبحجتها يتم إبادة وقتل الناس، تهجيرهم، تدمير بلادهم، تجويعهم وتحول المشروع الاستعماري الذي من المفترض أنها تحاربه، لأول مرة إلى 'حليف' للشعوب، فيما يتحول التدخل الخارجي في شؤون هذه البلاد إلى حالة 'عبودية' لم تشهد منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، في الخمسينات والستينات.

هذا التدخل ليس أنه لم يعد 'عارا'، بل صار محمودا من وجهة نظر جهات لا يستهان بها، فيما تشارك 'الداعشية الإعلامية' في تكريس وعي 'الحماية' إلى حد 'الخلاص' الذي تقوده دول 'التحالف' في محاربة 'الداعشية'.

ليس هناك حرب ولا احتلال سوى الذي تمثله 'داعش'، ليس هناك جرائم ودماء وإبادة مثل الذي تفعله داعش، ليس هناك دمار مثل الذي تنجزه داعش على الأرض.

 على الناحية الأخرى تنجز الداعشية وبهدوء ملفت للنظر المهمة الأخطر، إعادة صيغ 'وعي التدين' الذي يقف تحت طائلة أفعالها مرعوبا من حالة 'تدين' في غاية 'التطرف' فلا يجد خيارات كثيرة، سوى الانشغال باستحضار 'الأدلة' التي تثبت أنه ليس كذلك، يتحول 'الاعتدال' و'الوسطية' إلى جنون المرحلة، وبخلاف ما تعنيه الوسطية، يتم الترويج لفكر لا علاقة له بالوسطية وما تعنيه بتاتا، وتمرر مجموعة من المفاهيم الأصيلة بعد صياغتها من جديد بخبث ودهاء، يشارك به مجموعة من علماء السلاطين و'الدعاة الجدد'، لخلق 'حالة تدين' جديدة، لا تدين لمفهوم المرجعية، وتخلق حالات من التدين تخضع لاعتبارات 'فقه الواقع' الذي يتم التلاعب به وإخضاعه للرد على 'الحالة الداعشية'، تحت طائلة الضغط الذي تقوده 'الداعشية الإعلامية'، فتصبح رواية 'الهيمنة الإعلامية' العالمية، هي الضابط لإيقاعات الكومبراس الذي يردد مقولات 'الوسطية' و'الاعتدال' بأسلوب مثير للشفقة.

 لا نريد أن نهرب من شيء

لا نود هنا تحميل كوارثنا على مؤامرات تصاغ في الغرف المغلقة، هذه بالذات تعفينا من الوقوف أمام المرآة، الحقيقة أن الفكر المتشدد ليس نتاج حالة استعمارية فحسب، إنه نتاج حالة سياسية ومجتمعية تعيشها أمة خضعت في المئة سنة الأخيرة لعملية منظمة من القهر والتبعية والتجهيل والفقر، ولم تسلم هذه الحالة من نشوء أفكار لا تدين إلا بالقمع والإبادة والإكراه.

 'الداعشية' كظاهرة لم تكن وليدة الحالة العربية حديثا، وهي ليست وليدة حالة 'حالة تدين'، إنها ردة الفعل الطبيعية لداعشية الأنظمة القمعية، من مصر مرورا بسورية، وليس انتهاء بالعراق، سنوات الخمسين والستين والسبعين في ثلاث دول مركزية في العالم العربي، مصر والعراق وسورية، كانت سنوات 'داعشية النظام والفكر'، التي كانت الحاضنة لولادة الفكر الداعشي، قمع واعتقالات وإبادة وإكراه ودكتاتورية من أسوأ ما شهد التاريخ العربي الحديث، لم تكن داعش بعد ولدت عندما دك النظام السوري حماة بالدبابات والطائرات، ولم تولد داعش بعد والعسكر في مصر يسومون المصريين في السجون أبشع أنواع العذاب، ومثله في العراق، وهنا بالذات لم يكن القمع والإبادة من نصيب الإسلاميين فحسب، لقد طالت الشيوعيين والقوميين والبعثيين وغيرهم.

 ليست الداعشية الحالية إلا الوجه الآخر لداعشية تعيش وتقمع وتقتل منذ عقود، وكلاهما يقومان بعملية تدمير تحت حماية ورعاية عالمية، تتقاسم القوى العالمية أدوار الحماية للداعشية، كل وداعشه، ويوفر كلاهما الأسباب الكافية للتدخل العالمي، لا دولة ولا سيادة، وتصب وقودها على نيران وكراهية مشتعلة، استعدادا للمرحلة القادمة، تقاسم الهيمنة وتقسيم البلاد على أساس حدود الغاز والنفط والطوائف.

ليس هناك أية نية لوقف المعركة حتى تكون الأرض هامدة، والدمار شامل والكراهية وصلت مدى لا تمكن أية مصالحة.

من يعتقد أن 'الداعشية' من وجهة نظر القوى العالمية هي ظاهرة 'هامشية' في الإسلام فهو مخطئ.

بواسطة 'الداعشية' يتم هندسة المسلمين من جديد، دينهم، لم يعد من الممكن الفصل بين 'الداعشية' والإسلام، على الرغم من كل ما يقال حول 'الدين الحنيف' وقيمه بخبث ودهاء، فهذه المقولة لا تود أكثر من خلق تطمينات لدى السذج أنهم ليسوا المقصودين.

وحقيقة أنهم 'ليسوا المقصودين' لا تكفي، إنهم مطالبون بإعادة صياغة المفاهيم والقيم من جديد، والأهم تغييب دور المشروع الغربي في الإبادة والتدمير، وهذا لن يتم إلا بتبني الرواية العالمية حول حقيقة ما يحدث في العالم العربي والإسلامي، احتلال العراق مسألة لا تستحق حتى أن تذكر، احتلال أفغانستان مسألة صارت من الماضي، تدمير سورية من قبل قوى خارجية هذه أيضا قضية لا تكاد تذكر، كل ما يحدث هو نتاج 'داعش'.

وهذا كله يحتاج إلى 'داعشية إعلامية' تروج لذات الفكرة، لا تخرج عن 'الدائرة'، عن الرواية العالمية بشأن داعش، ذات الكلام والمعلومات يحاصر الوعي، ولا يمكنه من التفكير في الحالة خارج الدائرة.

عندما 'تختفي' داعش، لا تهتموا، سيتم الانشغال بشيء جديد، هل تذكرون القاعدة؟

التعليقات