05/07/2017 - 12:21

بلا أمل

مهما تكن وجهة نتائج الانتخابات على رئاسة حزب العمل الإسرائيلي مساء أمس الثلاثاء، فإن هذا الجسم المريض أو الميت سريريا أكثر ما يحتاج إليه هو الدفن السريع، فهو من بقايا الحركة الصهيونية العمالية التي حاولت أن تدمج بين العقيدة القومية الاستيطانية والدين العلماني والاشتراكية والديمقراطية،

بلا أمل

رامي منصور

مهما تكن وجهة نتائج الانتخابات على رئاسة حزب العمل الإسرائيلي مساء أمس الثلاثاء، فإن هذا الجسم المريض أو الميت سريريا أكثر ما يحتاج إليه هو الدفن السريع، فهو من بقايا الحركة الصهيونية العمالية التي حاولت أن تدمج بين العقيدة القومية الاستيطانية والدين العلماني والاشتراكية والديمقراطية، إذ لم يبق من هذه المركبات إلا العقيدة القومية – الصهيونية التي يجيد اليمين الإسرائيلي استثمارها بشكل أفضل مما يسمى الأحزاب اليسارية.

مرض حزب العمل هو انعكاس لمرض وتناقض أيديولوجي عانت منه الحركة الصهيونية العمالية، التي حاولت الدمج بين المركبات المذكورة أعلاه. وفي الحقيقة، فإن التجربة التاريخية الحديثة أثبتت أن الدمج بين المركبات الشمولية مستحيل، سواء في ألمانيا التي حاول فيها الحزب النازي التوفيق ما بين العلمانية والقومية والاشتراكية والمسيحية، أو التجربة القومية العربية، البعثية تحديدا. فيبدو أن الحركة السياسية مهما تكون ثورية، يصعب عليها التوفيق بين قيم وأفكار وعقائد شمولية أو متناقضة ومركبة، وحتى اليوم فقط التجربة اللبرالية الديمقراطية هي الوحيدة التي أثبتت أنها قادرة على فعل ذلك، لأنها لا تقدم فكرة شمولية ولا نظرية عقائدية، وإنما هي بالأساس فكر مطاط يبنى على تراكم الممارسة، أي أن الليبرالية الديمقراطية عندما تواجه مأزقا في الممارسة مثل انعدام العدالة الاجتماعية، فإنها تملك من الليونة الداخلية ما يتيح لها أن تتأقلم مع التطورات المجتمعية والسياسية. وكلمة السر هي الليونة الفكرية والانفتاح على الممارسة وانعدام الشمولية.

لكن حزب العمل الإسرائيلي حاول تجاوز مأزقه وأزمته التاريخية ليس بأن يصبح حزبا ديمقراطيا ليبراليا، بل بالرهان على أمرين، أولا الحربجية من خلال تصدره قيادات عسكرية مثل موشيه ديان وإسحق رابين وإيهود براك، ولاحقا من خلال الحديث عن التسوية التاريخية والسلام مع العرب.

في الخطاب الأمني، استطاع اليمين منذ أواخر السبيعنيات تجنيد قيادات أمنية بدءًا بإليعزر فايستمان مرورا بشارون ورفائيل إيتان وشاؤول موفاز وبوغي يعالون وغيرهم ومنافسة “العمل” في هذا المضمار. أي أن الخطاب الأمني لم يعد حكرا على الحزب المؤسس لدولة إسرائيل، إذ تبنى اليمين خطابا حربجيا أكثر تطرفا من “اليسار”، وخاض حروبا أكثر.

في الخطاب السلمي، استطاع الليكود بأولى سنوات توليه الحكم نهاية السبعينات إبرام معاهدة السلام مع مصر. وفي هذا المنافسة أيضا ظهر اليمين أن لديه من البرغماتية ما يكفي للتوصل إلى سلام مع العرب.

أظهر اليمين أنه يستطيع إبرام السلام مع العرب وفي الوقت نفسه إعلان الحرب عليهم كما حصل في حرب لبنان الأولى.

لكن مطلع التسعينيات كانت فرصة لأن يستعيد “العمل” و”اليسار” حظه في تولي الحكم في قبوله للتسوية مع الفلسطينيين وما يعرف باتفاقيات أوسلو، وذلك لعوامل إسرائيلية داخلية منها اقتصادية، وعوامل خارجية نتيجة التحولات العالمية الكبرى في نهاية الثمانينيات، لكنه في ذلك حفر قبره لنفسه. لأن توليه الحكم في فترة زعامة رابين للحزب لم يكن بسبب حصوله على أغلبية يهودية، وإنما بفضل دعم الكتل العربية له ونسبة التصويت المرتفعة لصالحه في صفوف الناخبين العرب. أي أنه أسس مشروعه على أغلبية غير يهودية وغير شرعية بنظر اليمين، وفي الوقت نفسه، في لا وعيه تصرف وكأنه صاحب أغلبية ساحقة وهذا من رواسب ذهنية حزب الدولة.

لماذا حفر قبره بنفسه؟ لسببين إضافيين: أولا، لأن نتنياهو زايد على حزب العمل وشمعون بيريس بأنه سيحقق “السلام والأمن” وليس فقط السلام كما يفعل “العمل” ولن يقسم القدس، إذ كانت هذه السنوات تشهد تدهورا أمنيا داخل المدن الإسرائيلية متيجة عمليات غير معهودة، وهي العمليات الاستشهادية – الانتحارية التي نفذتها حركة حماس. كما لم يكن نتنياهو بحاجة إلى “الدعم العربي” بل شكك بمدى وطنية حزب العمل الذي يعتمد على أغلبية غير يهودية وغير شرعية.

والسبب الثاني، لأن رهان “العمل” على “خطاب التسوية” والمفاوضات للعودة إلى الحكم، دفع إيهود براك إلى محاولة فرض حل وتسوية وإعلان “نهاية الصراع” بأسرع وقت على الفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات، ومن ثم الإعلان عن عدم وجود شريك فلسطيني للسلام. وبهذا يكون براك قد أعلن عن وفاة “العمل” و”اليسار” في العام 2000.

مع إعلان براك “عدم وجود شريك فلسطيني” ارتكب جريمتين وخسارة رهانين من دونهما لن تقم للحزب قائمة. أولا بسماحه شارون اجتياح المسجد الأقصى وهو ما فجر الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل أيضا.

مع تفجر الانتفاضة الثانية (يرى محللون إسرائيليون أن الجيش بقيادة موفاز كان معنيا بل ودفع في المواجهة لمسلحة في تلك الفترة) أطلق براك رصاصة الرحمة على “السلام” بعد سنوات عجاف من المفاوضات، وبذلك أفقد هو حزبه الخطاب الذي كان يراهن عليه.

لكنه أيضا خسر أمرا هاما. في تلك الفترة كانت حكومة براك ذات أغلبية صغيرة في الكنيست، ومن دون دعم الكتل العربية لن تقوى على تمرير أي تسوية محتملة مع الفلسطينيين. لكن بسبب دمويته وتعجرفه، دفع براك ووزير الأمن الداخلي حينها شلومو بن عامي بقوات الشرطة المسلحة بالرصاص الحي إلى داخل البلدات العربية، وطالبا بفتح الطرق بأي ثمن، أي حتى لو بسقوط قتل. قتلت الشرطة الإسرائيلية ١٣ شابا في المواجهة في بلدات الداخل، ويكون بذلك براك قد خسّر حزبه “السند الاستراتيجي” للسلام أي المواطنين العرب.

هكذا إذن وجه براك الضربة القاضية لحزبه وحركة “العمل” التاريخية التي أسست إسرائيل. أجهز على عملية السلام بإعلانه عدم وجود شريك فلسطيني للسلام، واستباح دماء المواطنين العرب الذين كانوا القوة التي رجحت كفة “العمل” أمام اليمين.

في هذه الأثناء، تبدلت إسرائيل اجتماعيا وديمغرافيا، وصعدت نخب جديدة ليست من صناعة حزب “العمل” التاريخي المؤسس للدولة، بل نخب من الطبقة الوسطى لديها حقد على الحزب المؤسس للدولة بسبب نخبه الأشكنازية التي ترى بأنها كانت سببا بالإجحاف تجاه اليهود الشرقيين، بالإضافة إلى جلب مليون مهاجر من دول الاتحاد السوفييتي المنهار، الذين يعادون الاشتراكية التي يرفع “العمل” رايتها تاريخيا، ولديهم ميول يمينية شوفينية ورغبة بأن يتثبوا بأنهم “أكثر صهيونية”. هذا كله بالتوازي مع توسع الطبقة الوسطى بسبب لبرلة الاقتصاد الإسرائيلي وانفتاح الأسواق العالمية والآسيوية له تحديدا في ظل عملية السلام، بالإضافة إلى القفزة الاقتصادية النوعية بسبب دخول إسرائيل عالم الهايتك، وهي من أولى الدول في العالم في هذا المجال.

أين اختفى مصوتو حزب العمل تاريخيا؟ توجه مصوتو حزب العمل تاريخيا إلى أحزاب الوسط مثل “يش عتيد” و”كولانو” وقبلها “كاديما”، لأنهم وجدوا فيها خطابا عصريا ليبراليا، يحمل هموم وقضايا الطبقة الوسطى، وأقل رمادية من قادة حزب العمل.

كل هذه الأسباب مجتمعة حولت الحزب المؤسس لإسرائيل ليس ذا صلة بالمرحلة الجديدة. كما أن حالته التنظيمية وانتهازية قيادته سرعت من عملية انهياره.

لا نرى في المدى المنظور، بأن المواطنين العرب سيعودون إلى أحضان حزب العمل، ولا أن عملية السلام وحلم أوسلو سيعود إلى الحياة، لذا فإن حزب العمل لن يقترب من تولي الحكم، وفي أحسن الأحوال سيكون شريكا انتهازيا في الائتلاف الحاكم في المستقبل. لكن نهاية حزب العمل هي أقل مأساوية من نهاية أحزاب غربية وشرقية أسست وبنت دولا، وحاولت التوفيق بين قيم شمولية ولى عصرها.

التعليقات