15/08/2017 - 13:32

الشتيمة المُضمَرة والمديح الحرام

يكاد يكون الكتاب وصفًا لميلاد قيمٍ وأفكار من رحم الأحداث، ثم ميلادِ الثانية من رحم الأولى. هذه الدائرية في علاقة الحدث بالفكر حَرِيةٌ بالتأمل، حيث تصوغ الأحداث التي تحيط بنا أفكارنا وقيمنا، ثم نعود بتلك الأفكار وتلك القيم لنواجه الأحداث

الشتيمة المُضمَرة والمديح الحرام

تأملات في حوار صقر أبو فخر مع عزمي بشارة

 

لا أظن أن إخلاصَ الكراهية لعزمي بشارة، وصقلَ العداءِ له، وصونَ الحنقِ القمطريرِعليه، يمكن أن يتم إلا باجتناب قراءة "في نفي المنفى". كم هو صعبٌ أن تكتب عن كتابٍ يعجبك بالعربية. إن الحد الفاصل بين التقدير الصادق والرياء المبتذل انمحل بثقافتنا لفرط ما صار المديح سلعةً رخيصةً للتملق والتسلق. لا أعرف حلًا لهذه المعضلة. هل أفتتح هذه المراجعة بوَصلةِ شتائم بحقّ الرجل قبل أن أتجرأ بالتصريح عن رأيي الإيجابي بالكتاب، فأردم شبهة الرياء بمِعول الشتيمة المفتعلة؟ بإمكاني فعل ذلك لولا صعوبة لوجيستية واحدة، فالبذاءة اللازمة لأعدِلَ بها كفّة التقدير المستحقّ لن تقبل بنشرها حتى أكثر صحف العالم خلاعةً. لكن لا جدوى من طول المكوث عند هذه الهواجس. كان فيثاغوروس قد كتب يوما: الحياة قصيرة والمسألةُ صعبة. ولا أظنني أجد غطاءً فلسفيا أفضل من هذا لِأُسكتَ هواجسي وأكتب عن كتابٍ أظنه جيّدا بحق، ومختلفا عن كل هذا الحشو الورقي الذي يملأ الأفق.

هذه حواريةٌ شفهية قاد دفتها صقر أبو فخر مع عزمي بشارة. وجُلّ الكتاب، بناء عليه، هو نصٌّ لبشارة. بهذا المعنى، يبدولي أن "في نفي المنفى" هو أهم كتابٍ لعزمي بشارة لم يكتبه عزمي بشارة. ليست هذه مجرد مفارقة ظاهرة أذكرها من باب التسلية اللفظية والتندّر الشكلي. إن الطبيعة الشفهية التي صَنعت هذا الكتاب لعبت دورا هاما في الرسالة التي ينطوي عليها. في عالم التعبير الإنساني، الوسيط يُرخي دوما بظله على المحتوى. إن نصا نكتبه بقلم حبر لن يكون ذاتَه لو كتبناه على لوحةٍ للمفاتيح، أو أمليناه مشافهةً. من قرأ لعزمي بشارة سابقًا، يعرف أنه يعامل مواضيعه البحثية - رغم إنسانية موضوعاتها - على نحوٍ علمي صارم، ولا تكاد تنقص كتبه إلا معادلات رياضية حتى تبدو - مِن مسافةٍ ما - وكأنها بحوثٌ في الفيزياء النظرية أو الهندسة المجسّمة.

أعرف البعض ممن يشْكُون وعورةَ النصوص الناشئة عن هذه الحنبلية العلمية في كتب بشارة. لكني لا أعرف بديلًا، فالمسألة العلمية وعرةٌ بطبيعتها، وهي مسألةٌ حنبلية المذهب، بالميلاد والاختيار سويًا. ولعلي أعترف، فأنا لا أجد القراءة له ممكنةً دون قلمٍ ورزمة ورق، وكتابةِ ملاحظاتٍ وتساؤلات لا أستطيع دونها شق طريقي عبر النص. لكن الأمر مختلفٌ هنا. بإمكاني طيّ رزمة الورق هذه المرة. فالنص سلس بالرغم من تناوله لمقولاتٍ مركّبةٍ من مؤلفاته السابقة، وبهذا، فهي سلاسةٌ مُستلّةٌ من قلب الوعورة، وهي مؤشرٌ هام - بالنسبة لي - على أن الصعوبة في مؤلفاته ليست تَعشِيةً على محتوىً غامض كما هو الحال في كثير من النصوص الشائكة هذه الأيام، حيث التعقيد تَكلّفٌ لحجب هزالة المحتوى.

كان الفيزيائي الأميركي ريتشارد فاينمان قد تحدث مرة عن الطبيعة المزدوجة للتعقيد والبساطة في الشأن العلمي. فالظاهرة العلمية معقدةٌ بطبيعتها، لكنها تنطوي بذات الوقت على بساطة عميقة، وتنجلي سحرية الكشفِ العلمي بتكثيف الأمرين سويًا، فكلما مضينا في فهم الأشياء أكثر، تكثّف التعقيد، وتعمقت البساطة على نحوٍ متزامن وغريب. من يتعاطون في الشأن الفيزيائي، يفهمون هذه الثنائية تمامًا. في حوارية صقر أبوفخر، هناك احتفائية صامتة بهذا النوع من البساطة العميقة. ولهذا السبب تحديدًا، أجد بهذا الكتاب مقدمةً هي الأنسب لمن أراد قراءة مؤلفات بشارة السابقة. صحيح أن هذه الحوارية خاتمةٌ أرادها صاحبها للعمل السياسي المباشر، لكنها أيضًا مقدّمةٌ متنكرة في هيئة خاتمة، وبدايةٌ في زِيِّ نهاية، وأظنها مدخلًا عامًا سلسًا لمن أراد قراءة مجمل نصوصه.

لكن أمرًا غريبًا يحيط هذا الكتاب. فهو ليس سردًا فكريًا خالصًا، ولا هو سيرةٌ ذاتيةٌ خالصة، ولربما لا غرابة بذلك؛ الغريب هو امتزاج الأمرين على نحوٍ لا ينتهي في مكان متوسط بينهما. هذه ظاهرة تحصل في سياقات مختلفة، حيث نتاج التمازج بين شيئين هو شيءٌ ثالثٌ لا يُجاوِرُ أيًّا منهما. أجد من الصعوبة وصف هذه المسألة بالسياق الحالي، حيث السيرة والفكرة يلعبان هذا الدور. فالحوار يتناول أحداثًا عاشها بشارة، لكنها سرعان ما تفقد طابعها الشخصي وتعلقها به كفرد، ليتحول الحديث عن القيم المتعلقة بالحدث وعن الأفكار التي تحيط به بما يتجاوز الشخص نفسه. ثم يحصل العكس، فترى الأفكار وقد أصبحت مجهرًا لفهم الواقع وإدراكه.

يكاد يكون الكتاب وصفًا لميلاد قيمٍ وأفكار من رحم الأحداث، ثم ميلادِ الثانية من رحم الأولى. هذه الدائرية في علاقة الحدث بالفكر حَرِيةٌ بالتأمل، حيث تصوغ الأحداث التي تحيط بنا أفكارنا وقيمنا، ثم نعود بتلك الأفكار وتلك القيم لنواجه الأحداث، ونحاول أن نغير مسارَها. ليس المهم في هذا الكتاب ما يقوله وحسب، وإنما كيف يقولُ ما يقوله.

بقي شيءٌ أخير. وقد ادخرته للنهاية لأنه – فيما أرى - أهم ما بالكتاب، بل وأنبل ما فيه. فمن لم يقرأ فصل الكتاب الأخير، بالكاد قرأ الكتاب. أحاول أن أضبط لغتي هنا لأني أعلم أن اللغة محدودةٌ في نهاية المطاف، وأنها ليست دومًا قادرةً على مواءمة مشاعرِنا وأفكارنا، خصوصًا ما تطرّف منها وأخذ أشكالًا غير مألوفة، وأنك إذا حاولت دفعها لحدٍّ يتجاوز قدرتك وقدرتها، فإنها تفشل في التعبير عن مضمونها المقصود، وقد تنقلب لعكس مرادها. لكني أقول، وسط إدراكي هذا، وبحذرٍ شديد وحساسية مفرطةٍ لأي شكل للمبالغة، بأن في الفصل الأخير من كتاب "في نفي المنفى" مجموعةَ سطورٍ هي من أجمل وأفضل ما كتب بالعربية، لا جماليًا وحسب، وإنما قيميًا وأخلاقيًا قبل أي شيءٍ آخر. لا معنى لتقديم إيجازٍ عن ذلك الفصل. لا معنى لتقديم إيجازٍ عن أي فصل في الواقع. كل ما أفعله هنا هو سرد تأملاتٍ بالقرب من النص.

إن الحديث في المسألة الأخلاقية مجازفةٌ على الدوام، ومفتوحةٌ طيلة الوقت على انزلاقات محتملةٍ صوب التعالي وتبرئة الذات والعنجهية المضمرة. وبسبب هذه المجازفة تحديدًا، فإن النجاح في مقاربة السؤال الأخلاقي يكتسب قيمةً مضاعفة. ما يقوله عزمي بشارة في المسألة الأخلاقية، واستقلالها عن مقولات المنطق، هو ذروة الحوار بحق. وهي ليست حاضرةً فقط بالحديث المباشر عنها، وإنما في الجو العام لمجمل الحوار.

هناك مثالٌ يستحضرني أكثر من سواه، وأجده شديد الدلالة. ما الذي يجعل عزمي بشارة حريصًا خلال حديثه عن زياراته لسورية، أن يذكر المعاملة الجيدة التي تلقاها على مستوىً شخصي من مسؤولين أمنيين سوريين؟ بعض هؤلاء، شهّروا به شخصيًا منذ الموقف الذي اتخذه حيال الثورة السورية، ولم يترك إعلامُ الحكومة السورية فرصةً للذم والقدح به خلال الأعوام الفائتة إلا وأبدع بها أحطّ الإبداع. وعلاوةً على ذلك، وهو الأهم، فإن الجمهور الذي يُشارك عزمي بشارة موقفه الداعم للثورة، لا يعجبه كلامٌ كهذا، ولا يرغب بسماع شيءٍ عن هؤلاء الأمنيين إلا بسياق الحطّ والامتقاع والذم. لماذا لا يتجاوز تفصيلًا كهذا، وهو "خاسرٌ" بذِكره على الضفتين؟ الأمنيون المذكورون سيسمونه "خائنًا وناكرًا للجميل"، وبعض أنصار الثورة سيقذفونه بالقومجية والعمالة للنظام. لكن حرصه على ذِكرِ شيئٍ كهذا مهمٌ كجوابٍ لسؤال مركزي؛ كيف نعود لحدثٍ سابق في حياتنا فنقرأه بعد أن تصرّم عليه كل هذا الزمن؟ لقد أصابتنا آفةٌ معاصرة، شديدة الأذى، حيث نعيد اختراع الماضي طيلة الوقت ليوائم ما نريده الآن. كثيرون ممن كانوا من "عظام رقبة" النظام، باتوا يعيدون إنتاج دورهم السابق على نحوٍ ثوري مدهش. وآخرون، يلوذون بادعاء الجهل وقتها والسذاجة وإعلان التوبة. قليلون جدًا من يستطيعون العودة للماضي، فيراجعوه على النحو الذي كانَه، في السياق الذي أنجبه، لا بإعادة إنتاجٍ ولا بادعاء الجهل. هذا من جوهر قيمة الصدق واحترام الذات، وهي أمورٌ مكلفةٌ على صعيد شخصي، حيث القصف يطالك من سَفَلة الخصوم ومراهقي الأنصار على حدٍّ سواء. لكن، ما الذي يبقى للإنسان مِن نفسِه دونَ هاتين القيمتين؛ الصدق، واحترام الذات؟ لا أظن الشيءَ الكثير. ولربما، لا يبقى شيءٌ على الإطلاق.

 

التعليقات