03/04/2023 - 17:15

يا مفطر هسّة لذبحلك بسّة… صناعة العيب الرمضانيّ

يا مفطر هسّة لذبحلك بسّة… صناعة العيب الرمضانيّ


لكلّ منّا تجاربه/ ها مع عدم الصيام في رمضان، لا سيّما في سنوات ما حول بلوغ سنّ الرشد. وفي المحكيّة، يُسَمّى مَنْ ليس صائمًا بـ ’مِفْطِر‘. ولهذا اللفظ؛ أي ’المِفْطِر‘، حمولات دلاليّة وعاطفيّة قويّة؛ إذ يتبادر إلى الذهن، أوّلًا وقبل كلّ شيء، عند التفكير في المفطر مشاعر مثل العار والعيب - قبل الذنب والإثم أو مخافة الله. وغالبًا ما كان المفطر مدعاة إلى السخرية، تمامًا مثلما يتجلّى في أغنية الأطفال:

 "يا مفطر هسّه لذبحلك بسّه

يا مفطر هاليوم لذبحلك حرذون".

 

عند التفكير في مفهوم ’المِفْطِر‘، أذكر حين كنت طفلًا صغيرًا في المدرسة الابتدائيّة إعداد أمّي الزوّادة، في كلّ صباح قبل مغادرتنا إلى المدرسة، تلك الزوّادة كانت مركّبة من عنصرين أساسيّين؛ الأوّل هو خُبز مع لبنة أو جبنة أو بستراما، والثاني مشروب مدجَّج بالموادّ الكيماويّة والصبغات والسكّر، كان يُسَمّى عند فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 «تروبيت».

في المحكيّة، يُسَمّى مَنْ ليس صائمًا ببساطة بـ ’مِفْطِر‘. ولهذا اللفظ؛ أي ’المِفْطِر‘، حمولات دلاليّة وعاطفيّة قويّة...

هذا الدمج اللذيذ جدًّا كان ينقطع في شهر رمضان، وهذا بالرغم من أنّني كنت مفطرًا. فقد كان أغلب الأطفال من جيل صغير جدًّا، يتنافسون في ما بينهم مَنْ الصائم بينهم مثل الكبار، مع أصوات المعلّمين المشجّعين في الخلفيّة. أمّا أنا، وأعتقد أنّني لست الوحيد، فكنت أحاول أن أختلس أحيانًا إلى حنفيّات المدرسة لأرتشف الماء بأجزاء الثانية؛ خوفًا من أن يراني أحد. هذا الشعور، المفطر سرًّا، كان به من الذنب وتأنيب الضمير من جهة، لكن من جهة أخرى كان يحمل تواصلًا فريدًا ولذيذًا مع الفردانيّة والاستقلال الذاتيّ من الجماعة، ومن سطوة الأعين والآذان. وكأنّ في فعل كسر القوانين والقواعد تواصلًا مباشرًا مع الروح البشريّة وحرّيّتها.

 

’المفطرون‘ جماعةً 

لاحقًا، خلال المراهقة الّتي كنت فيها أحافظ على الصيام غالبًا، اكتشفت أبعادًا جديدة لتجربة المفطر. إذ أذكر في أحد أيّام رمضان في المدرسة الإعداديّة، توجّه أحد الأصدقاء إليّ في الاستراحة بين الدروس، وقال: "تيجي معنا بالفرصة نطلَع نعمَل وليمة؟". وهذا لأشهد مجموعة متنوّعة من الأولاد، يصرّحون في الاستراحة المدرسيّة بعزمهم على الإفطار غير القانونيّ بصورة جماعيّة؛ لتتقسّم المجموعة إلى كتائب، كلٌّ منها يحمل مهمّة خاصّة؛ كتيبة تجمع مبلغًا زهيدًا من المشاركين، وأخرى تهرع إلى البقالة القريبة لشراء علبة حمّص وخبز وكوكا كولا وكاسات بلاستيكيّة، وكتيبة خاصّة تختار المخبأ الّذي كان عادةً خارج حدود المدرسة، وضيوف شرف يحضرون للأكل ليس إلّا، وهذا لكي يُوَظَّفوا لاحقًا في مهامّ مستقبليّة بوظيفة تلائم شخصيّاتهم ومهاراتهم.

رغم تفاهة الموقف بمعايير العبادة والإيمان، إلّا أنّه مشهد لافت من مناظير عدّة؛ مثلًا، تحوّل مفهوم الإثم هنا من عامل عُزلويّ وملنخوليّ إلى الإثم، قاسمًا مشتركًا واختبارًا لمدى ولاء الفرد للمجتمع المصغَّر الناشئ؛ وهذا ما يفسّر التنافس بين الأعضاء على المشاركة الفاعلة في الجريمة؛ ليثبتوا ولاءهم وجسارتهم، وليكن كلٌّ منهم حانوتيًّا وفق المقولة الشعبيّة: "مَحنا قابرينه سَوَا"، وهي ظاهرة مرصودة تُسَمّى ’المبادرة إلى الانحراف" (Deviance Initiation).

جانب لافت آخر للمشهد هو ظاهرة تسمّيها باحثة الأنثروبولوجيا روث بينيديكت[1] بثقافة ’العار‘ و’الشرف‘ (Shame-Honor Culture)، الّتي تصفها بينيديكت على أنّها ثقافات تمنح الحيّز العامّ المحكوم بالعقد الاجتماعيّ الخاصّ للجماعة، مكانة أعلى من معيار الأخلاق الشخصيّة؛ ممّا يتجلّى بالإحساس بالذنب والإثم - وهي ثقافات تسمّيها بينيديكت ثقافات العيب – Guilt. في هذه الحالة، اتّخذ الشباب المراهقون قرارًا بأن يقوموا بالجريمة، لكن عند اتّخاذ قرار السرّيّة أو العلنيّة، اختار الشباب السرّيّة، وهذا مثال واضح لتقديم المعيار الاجتماعيّ على المعيار الأخلاقيّ الشخصيّ، أو بكلمات أخرى؛ مخافة الناس قبل مخافة الله.

ثقافة ’العار‘ و’الشرف‘ (...) تصفها بينيديكت على أنّها ثقافات تمنح الحيّز العامّ المحكوم بالعقد الاجتماعيّ الخاصّ للجماعة، مكانة أعلى من معيار الأخلاق الشخصيّة...

في كتابها، تصنّف بينيديكت المجتمع اليابانيّ في سنوات الحرب العالميّة الثانية، الّذي كان في لُبّ بحثها الأنثروبولوجيّ، على أنّه مجتمع يمثّل ثقافة عار-شرف. من الأمثلة الأعمق على ذلك مقاتلو الساموراي، الّذين قيل عنهم إنّهم "لا يخشون الموت بقدر ما يخشون العار". ثقافة تحكمها المعايير الاجتماعيّة الظاهرة ومفاهيم مثل الواجب (Duty)، والهرميّة (Hierarchy)، وغيرهما من مفاهيم مستنبطة ومتأثّرة من الفلسفة الكونفوشيّة الّتي بُنِيت عليها الثقافات الشرق-آسيويّة عمومًا. بالمقابل، صنّفت بينيديكت ثقافة الولايات المتّحدة الأمريكيّة على أنّها ثقافة ذنب وإثم، الّتي بها ثمّة تهميش للمعيار الاجتماعيّ، وتكريس للبوصلة الأخلاقيّة الشخصيّة الفردانيّة. بثقافة كهذه، كان المفطر سيفضّل الإفطار علنًا على أن يشعر بأنّه منافق يغيّر تصرّفاته وفق توقّعات الناس، وهي ثقافة فيها مفاهيم مثل الستر والحياء، باتت هامشيّة بل سلبيّة. بالطبع، حازت النظريّة على نقد لاذع جدًّا من قِبَل الكثير من الباحثين؛ لفرط شموليّتها، ولفرط تبسيطيّتها للواقع المعقّد للثقافات والمجتمعات البشريّة، إضافة إلى انحيازها إلى صالح المجتمعات الغربيّة، وهي منهجيّة نمطيّة لكتابات المستشرقين الغربيّين وباحثي الأنثروبولوجيا واللسانيّات ودراساتهم في تلك الفترات.

 

’المفطر‘ في الدقائق الأخيرة

عودة إلى المفطر، وفي مرحلة متأخّرة أكثر، قد يكون نموذج المفطر هو ذاك الّذي يخشى العار، ويبقى جائعًا طيلة يوم التعليم أو العمل، حتّى يتطوّع قبل موعد صلاة المغرب بساعة بأن يخرج لشراء الفلافل الطازج، ورغيف الصاج العربيّ، وعلبة حمّص رمضانيّة من أفضل صانع حمّص في البلد. وفي هذه الجولة الّتي فيها من الراحة تارة، وفيها من التوتّر تارة أخرى؛ أي الراحة في السياقة مع هدوء السيّارة مقارنة بضجيج البيت، وأصوات الطناجر والصحون المتّجهة إلى مائدة الطعام، والتوتّر المتفاقم عند الدخول إلى الأزمة المروريّة، والاكتظاظ الشديد للصائمين النافذي الصبر، الّذين يتجمّعون حول بائع الفلافل أو الحمّص.

بعد الخروج منتصرًا من الجولة رجوعًا إلى البيت، يضعف هذا الشابّ حين تعبق المركبة برائحة الفلافل الطازج والرغيف السخن؛ ليجد نفسه يسترق قطعة منها، يحشوها في فمه سريعًا، ويمضغها بلا تحريك الشفتين أو عضلات الوجه؛ خوفًا من أن يراه أحد من نافذة السيّارة. وهكذا، بمشهد بائس، يخسر الصائم صيامه في الدقائق الأخيرة قبل أذان المغرب؛ ليجلس على المائدة الّتي حضّرتها النساء وبذلت قصارى جهودها؛ لتشمل كلّ المأكولات والمتطلّبات لكلّ الصائمين، ويشعر بأنّه لا يستحقّ أن يكون جزءًا من هذا الحدث، وأنّه لا يغرّد في السرب مع أفراد العائلة، ومعهم ألوف المصلّين في الحرم المكّيّ على محطّة التلفاز، مثله مثل ذاك الّذي يجلس في حفل التخرّج مع أولاد فوْجه، رغم أنّه لم ينجح في جميع امتحاناته النهائيّة.

 

’المفطر‘ الخاسر، أو الرافض؟

في النهاية، تقع فريضة الصوم في لُبّ الديانات، وتتجلّى بالآية القرآنيّة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 183)؛ ففي الصيام كبح للرغبات؛ إذ يُهذّب النفوس، فممارسة الإعراض عن بعض العادات الغذائيّة، وعن الطقوس اليوميّة الرتيبة والثابتة، الّتي قد يكون منها العادات السيّئة، مثل التدخين أو الإفراط في الكافيين (القهوة) أو الإفراط في المشروبات المُحلّاة، هو في حدّ ذاته فرصة لتعيير النفس من جديد.

كلّما كان المرء رفضويًّا، وتدرّب على كبح الغرائز، والصيام عن الملذّات، وغرّد خارج السرب، سهُل عليه تفكيك القيود الفِكريّة لتكبر أجنحة حرّيّة الاختيار...

هذا الفعل في تثبيط الرغبات والأفكار وكبحها قد يكون المركّب الأهمّ في الوعي البشريّ، الّذي يميّزه من بقيّة الكائنات؛ فهو الّذي يجعله إنسانًا قادرًا على السيطرة على نفسه؛ ليلبّي العقود الاجتماعيّة، وليكون فردًا متناسقًا مع المجتمع. في هذا السياق، يدّعي عالم النفس الاجتماعيّ دانييل فيجنر، في كتابه «وهْم الاختيار الواعي»[2] أنّ حرّيّة الاختيار أو الوعي البشريّ ليست في قدرة البشر على اتّخاذ القرار باختيارٍ فاعل وإيجابيّ، بل إنّها القدرة على إلغاء الإمكانيّات عبر تثبيط الأفكار أو كبحها بالأساس. أي أنّ هذه القدرة على الرفض، وعلى منع النفس عن الأشياء، ببساطة ما يُسَمّى بالتزهُّد، هو ما يجعل الإنسان إنسانًا حقًّا.

كلّما كان المرء رفضويًّا، وتدرّب على كبح الغرائز، والصيام عن الملذّات، وغرّد خارج السرب، سهُل عليه تفكيك القيود الفِكريّة لتكبر أجنحة حرّيّة الاختيار - أو قدرة ’رفض الإمكانيّات‘ وفق فيجنر. لكن، أيكون المفطر دائمًا هو الخاسر في هذه المعادلة، أم أنّ بعض الأمثلة أعلاه قد تُمثّل المفطر على أنّه رفض الرفض، وكسر العادة الاجتماعيّة؟

 

* الشكر للأصدقاء الّذين ساعدوني في كتابة المادّة عن طريق حوارات عن الموضوع، ومنهم ميّادة عصفور، وأرسلان أبو مخّ، ومحمود إبراهيم مواسي، ومحمود حسن مواسي.

 


إحالات

[1] Benedict, R. The chrysanthemum and the sword: patterns of Japanese cultur. (Boston, Houghton Mifflin company, 1946).

[2] Wegner, D. M. The illusion of conscious will. (MIT Press, 2002).

 


 

جاد قعدان

 

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.

 

 

التعليقات