15/02/2017 - 23:00

سلمان ناطور... حارس الذاكرة

كان سلمان بما اتّصف به من سعة في ثقافته، وجلد في مثابرته، ودماثة في خلقه، مثالًا للمثقّف الفلسطينيّ الذي يعي أبعاد الدور المناط به وبغيره من المثقّفين الفلسطينيّين؛ الدور الذي يتطلّب كثيرًا من الإيثار وخلق أفضل العلاقات وأكثرها حيويّة واستقامة داخل الوسط الثقافيّ ومع العاملين فيه، لضمان الوصول إلى إنجازات أدبيّة وفنّيّة قادرة على تعزيز الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة، بصفة كونها حصنًا للصمود في وجه مخطّطات المحتلّين الإسرائيليّين

سلمان ناطور... حارس الذاكرة

سلمان ناطور (1949 - 2016)

التقيت سلمان ناطور، أوّل مرّة، أواسط تسعينات القرن الماضي في القدس، وأمضينا وقتًا ممتعًا في أحد مطاعمها، تحدّثنا خلاله عن هموم الثقافة وشجونها. وكنت تعرّفت إلى اسم سلمان من صحيفة الاتّحاد الحيفاويّة، ومن مجلّة الجديد كذلك. وقد لفتت انتباهي كتاباته التي اتّسمت بالسخرية، وأكّدت ارتباطه بالذاكرة الفلسطينيّة وبالجذور.

متعدّد

ومن لحظة اللقاء الأولى، بدا لي سلمان شخصًا مهذّبًا ودودًا، هادئًا حين يتكلّم، ميّالًا إلى عدم الإكثار من الكلام، مع أنّه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى حكواتيّ يسرد الحكايات الساخرة الممتعة عن أناس حقيقيّين من أبناء شعبه، وعن المعاناة التي سبّبها الاحتلال الإسرائيليّ لهؤلاء الناس. ويسرد الحكايات كذلك عن الذاكرة التي أراد المحتلّون محوها، فانبرى لهم سلمان حارسًا للذاكرة، وناطورًا لكل تفاصيلها الحميمة.

ولقد تعدّدت اهتمامات سلمان في ميدان الكتابة، فأظهر هذا التعدّد عمق موهبته وصدق انتمائه لشعبه، ومثابرته على صياغة المأساة الفلسطينيّة في أشكال شتّى من الكتابة. كتب المقالة السياسيّة والأدبيّة، وكتب القصّة والرواية والنصّ المسرحيّ والحكاية، وكتب للأطفال قصصًا جذّابة، وترجم عددًا من الكتب إلى اللغة العربيّة. ولم يكتف بممارسة الكتابة من برج عاجيّ منعزل، بل كان منخرطًا في معمعان النضال السياسيّ المباشر، ومدافعًا عن حقّ الأقليّة الفلسطينيّة التي بقيت في وطنها في العدالة، ومكافحًا ضدّ التمييز العنصريّ ومصادرة الأرض والتطاول على كرامة الناس الوطنيّة.

ولم يكتف بممارسة الكتابة من برج عاجيّ منعزل، بل كان منخرطًا في معمعان النضال السياسيّ المباشر، ومدافعًا عن حقّ الأقليّة الفلسطينيّة التي بقيت في وطنها فيي  العدالة، ومكافحًا ضدّ التمييز العنصريّ ومصادرة الأرض والتطاول على كرامة الناس الوطنيّة.

مثال المثقّف

قبل شهر من رحيله، كانت آخر رسالة أتلقّاها من سلمان، وصلتني على بريدي الإلكترونيّ، لها علاقة بشأن ثقافيّ ما، وكانت له وجهة نظر لم أتردّد في الموافقة عليها. وكنّا التقينا في رام الله قبل أربع سنوات، حين انعقد مؤتمر القدس الثقافيّ الذي أشرفت عليه لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربيّة. وكنّا انتظمنا أنا وسلمان وعدد آخر من الزملاء المثقّفين في اللجنة التي تشكّلت لوضع برنامج المؤتمر وتفاصيل انعقاده.

قبل ذلك بسنوات، عملنا معًا لفترة ثلاث دورات في لجنة أدب الطفل الخاصّة بتحديد الفائزين والفائزات بجوائز مسابقة القصّة المكرّسة للأطفال، التي تشرف عليها مؤسّسة 'بديل' في مدينة بيت لحم، وكنّا التقينا في ندوات أقامتها مؤسّسات ثقافيّة فلسطينيّة مختلفة. 

كان سلمان بما اتّصف به من سعة في ثقافته، وجلد في مثابرته، ودماثة في خلقه، مثالًا للمثقّف الفلسطينيّ الذي يعي أبعاد الدور المناط به وبغيره من المثقّفين الفلسطينيّين؛ الدور الذي يتطلّب كثيرًا من الإيثار وخلق أفضل العلاقات وأكثرها حيويّة واستقامة داخل الوسط الثقافيّ ومع العاملين فيه، لضمان الوصول إلى إنجازات أدبيّة وفنّيّة قادرة على تعزيز الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة، بصفة كونها حصنًا للصمود في وجه مخطّطات المحتلّين الإسرائيليّين، وعنصرًا فعّالًا من العناصر المكوّنة للهويّة الوطنيّة لأبناء الشعب الفلسطينيّ.

سفر على سفر

وكنت قد أشدت ذات مرّة بواحد من كتب سلمان المكرّسة للفتيات والفتيان، وقلت: في كتاب 'سفر على سفر' لسلمان ناطور، تجوال داخل الوطن وخارجه، وتعرّف إلى أحوال الفلسطينيّ الذي عاش النكبة وما تلاها من معاناة داخل البلاد، ومن تشريد ولجوء ومنفى واغتراب، وجرّب صنوفًا من العذاب عند كلّ منعطف تجتازه القضيّة الفلسطينيّة. وثمّة سخرية مرّة في الكتاب، تليق بالمعاناة التي يسبّبها المحتلّون الإسرائيليّون للفلسطينيّ المتشبّث بوطنه وبجذوره، 'المنتمي إلى مواقع الروح ومنابت الذاكرة'، المضطّرّ بحكم إملاءات الواقع إلى التعامل مع المجنّدة الإسرائيليّة، ومع المطار الإسرائيليّ، ومع ملابسات العالم الخارجيّ في مطاراته وأماكنه الأخرى، ومع نظرة هذا العالم إلى الفلسطينيّ الذي يثير الشبهة لدى أيّ التباس، وبذلك تحدث المفارقات التي يمكن اعتبارها من نوع المضحك المبكي، وفي المحصّلة تبقى الذاكرة الفلسطينيّة حيّة رغم كلّ محاولات المحو والتزوير، ويبقى الانتماء إلى الأرض هو المحور الأساس.

في كتاب 'سفر على سفر' لسلمان ناطور، تجوال داخل الوطن وخارجه، وتعرّف إلى أحوال الفلسطينيّ الذي عاش النكبة وما تلاها من معاناة داخل البلاد، ومن تشريد ولجوء ومنفى واغتراب، وجرّب صنوفًا منن العذاب عند كلّ منعطف تجتازه القضيّة الفلسطينيّة.

هي، أنا والخريف

هذه الذاكرة التي يريدها سلمان ناطور أن تبقى حيّة رغم كلّ شيء، هي التي كانت في مركز اهتمام روايته 'هي، أنا والخريف'، التي فضح فيها أوهام المـتأسرلين من أبناء جلدتنا، الذين بذلوا محاولات شتّى لكي يهدموا مكان الذاكرة الذي ورثته زينات عن جدّها، وليقيموا في المكان منطقة سياحيّة تجلب السيّاح للقرية. وهم ينجحون في مسعاهم حين اعتقدوا أنّ زينات ماتت في المستشفى بعد تعرّضها لجلطة في الدماغ. غير أنّ صديقتها، ابنة قريتها، التي كانت تقرض الشعر ثمّ تعرّضت للنبذ من أهل القرية، جميلة حسن العائدة إلى الحياة وإلى التحدّي، تخبرهم بأنّ زينات لم تمت، وهي لا بدّ عائدة إلى قريتها وإلى مكانها الذي تعرّض للعدوان. ولا تكتفي جميلة بذلك، وإنّما تعمل جاهدة على دخول بيت زينات قبل هدمه، لإنقاذ أوراق وملفّات ووثائق كان تركها جدّ زينات في البيت.

إنّها الذاكرة الفلسطينيّة التي تنتقل من جيل إلى جيل، وتبقى حيّة إلى أن يعود الحقّ إلى أصحابه، على الرغم من العسف ومحاولات الطمس والتبديد.

سلمان ناطور غاب بجسده عنّا، لكنّ إبداعه الأدبيّ ما زال معنا. له، في الذكرى الأولى لرحيله، الرحمة وبقاء الإرث، ولزوجته وأبنائه ورفاقه وأصدقائه ومحبّيه الطيّب ذكراه الطيّبة.

 

محمود شقير

أديب فلسطينيّ، من مواليد جبل المكبّر في القدس عام 1941. حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع من جامعة دمشق، 1965. عمل محرّرًا ثقافيًّا في أكثر من منبر أدبيّ فلسطينيّ وأردنيّ. صدر له، حتّى اليوم، قرابة 40 كتابًا في القصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدًّا وأدب السيرة وأدب الأطفال، كما قدّم للمسرح 6 أعمال، وكتب حوارًا لعدد من المسلسلات التلفزيونيّة. تُرجمت قصصه إلى أكثر من عشر لغات، وصدرت مختارات من أعماله في عدّة لغات. كما كان أدبه موضوعًا لعدّة رسائل أكاديميّة في فلسطين والعالم العربيّ وأوروبّا. حصلت على جوائز وتكريمات من مؤسّسات عديدة في فلسطين والعالم العربيّ.

التعليقات