07/11/2022 - 12:47

خلف قناع التاريخ: تلاميذ مهجَّرون يدوّنون حكاياتهم

خلف قناع التاريخ:  تلاميذ مهجَّرون يدوّنون حكاياتهم

تلاميذ في مدرسة الأونروا في خان يونس، 1950. أرشيف«وكالة الأونروا».

 

’عليّة‘: البحث عن لغة في السيرة

إنّ اتّخاذ نوع أدبيّ حيّ ومعاصر موضوعًا للدراسة يعني اتّخاذ موقع ملتبس، يكون في نفس الوقت وسيلة وحدًّا؛ لأنّ اختيار الموضوع ليس بريئًا، كما يقول فيليب لوجون. وخلال حفري في سرديّات المهجَّرين الذاتيّة، ممّن وُلدوا في قرية أمّ الزينات الكرمليّة[1] بين سنتَي 1943 و1948، لفتتني التجارب المدرسيّة الّتي تحتلّ مكانًا مميّزًا في السير الذاتيّة، فهي صور مصغّرة عن المدن أو البلدات، كما يقول إدوارد سعيد، ومن خلالها يمكن قراءة تشكّل هويّة المهجَّر في المكان الجديد. تُظهر هذه السير حنين الأطفال المهجَّرين إلى مدرستهم الأولى، ومواجهتهم لمسألة العودة إلى مقاعد الدراسة في العامَين التاليين للنكبة. فضلًا على الفقد والعوز وانعدام الأمان، نراهم يحاولون ’التكيّف‘ والدراسة ضمن سياقات مجتمعيّة مختلفة، وفي أماكن جديدة، الأمر الّذي عرّض كثيرين منهم لتجارب جديرة بالتدوين.

 

’قَطْع‘: صورة أولى، تلاميذ ’لا مرئيّون‘

في هذه السير، يمكن التمييز بين صورتين لتجربتين مدرسيّتين: تجربة سليم فحماوي المهجَّر الباقي في الأراضي المحتلّة عام 1948، والتجارب الأخرى خارج الأراضي المحتلّة عام 1948 وفي الشتات. يسرد سليم فحماوي في سيرته «ذكريات ومفارقات: أحزان الراعي»، أنّه قبيل الاستقرار في قرية دالية الكرمل، عاشت العائلة فترات طويلة في الأحراش تحت أشجار الزيتون، ومنها في جبل ’بحيبش‘، حيث كان يرى البحر ويمارس هوايته، مقلّدًا والده بشكل سينمائيّ وهو يشير إلى الاتّجاهات ويعرّفه إلى أسماء الأماكن المحيطة حتّى حفظها عن ظهر قلب. كان ابن الأعوام الستّة يشعر بالحنين إلى مدرسته، ويحاول أن يراها من موقعه. الاختباء بين الأحراش والحديث الهامس بين أفراد العائلة خوفًا من أيّ هجوم، بلور شعوره بأنّه حين يكون ’لا مرئيًّا‘ وصامتًا يكون محميًّا ولو مؤقّتًا. لكنّ هذا الشعور كان يتصارع مع مشاعر الوحدة، على الرغم من استمرار مرور أفواج هائلة من المهجَّرين في الأحراش. يتّضح صراعه مع ’اللا مرئيّة‘ عندما يسمع بعض أولاد القرية المجاورة يلعبون في منطقة قريبة، فيراهم ولا يرونه، ويفهم أنّه لا يستطيع المشاركة في اللعب، فهم لم يمرّوا مثله بتجربة التهجير. لقد كان اختلاف التجربة في وعي الطفل سببًا كافيًا ليكون مختلفًا في كلّ شيء آخر: "أتمنّى أن أكون معهم، ولكنّني لا أعرفهم ولا يعرفونني (...) كنت أستأنس بهم (...) يبدون منسجمين مع بعضهم بعضًا (...) اليهود لم يحتلّوا بلدهم الدالية، أمّا أنا فقد احتلّ اليهود بلدنا وطردون (...)ا أنا هنا ولا يوجد ولد واحد ألعب معه (...)، وهم يلهون وأحيانًا يتصيّدون العصافير بالنقاقيف." 

في هذه السير، يمكن التمييز بين صورتين لتجربتين مدرسيّتين: تجربة سليم فحماوي المهجَّر الباقي في الأراضي المحتلّة عام 1948، والتجارب الأخرى خارج الأراضي المحتلّة عام 1948 وفي الشتات...

بعد شتاءين من النكبة انتسب سليم إلى المدرسة في دالية الكرمل. الصدمة وخليط المشاعر الّتي يطلق عليها وصف ’الخجل‘ سيطرا عليه، ولم يجتز قراءة مقطع ’را‘، فقرّر المدير تنسيبه إلى الصفّ الأوّل رغم جيله: "بدنا انحطّك في الصفّ الأوّل (...) لكن إنتي صرت زلمة": "دخلت الصفّ الأوّل وأنا أشعر بالذنب والخجل (...) وإذا بجميع الأولاد يوجّهون إليّ نظرات كلّها استغراب واستهجان (...)، وتبيّن لي أنّني أعرف هذا الدرس؛ فقد تعلّمته في مدرسة بلدنا أمّ الزينات، على يد الأستاذ أبو الصادق الّذي كان أحيانًا يضحكنا (...)، خلال أيّام قليلة تقدّمت في دروسي بشكل جيّد (...)، وبعد ذلك ظللت إلى زمن طويل أشعر بالخجل والندم؛ لأنّني في اللحظة الحاسمة لم أستطع أن أقرأها حسب الأصول".

على الرغم من حماية أهل قرية دالية الكرمل للمهجَّرين، فإنّ أمّ سليم كانت توصيه كلّ يوم بقولها: "ها يمّا إحنا هون غُرُبْ مش تتقاتل مع لولاد". فَهِمَ سليم من طلب أمّه هذا أنّه ليس من حقّه أن يدافع عن نفسه، كان يتذكّر كلام أمّه فيتعمّد أن يخرج من المدرسة ما إن يدقّ الجرس اتّقاء لشرور الأولاد، إلى أن هجم عليه أحد الأولاد هجومًا بالغًا، ورغم تخليص إحدى نساء قرية الدالية المارّات له إلّا أنّه قرّر ترك المدرسة: "كبرت حيرتي وكبر العذاب في نفسي (...)، حنين حزين يعصرني عصرًا (...)، يشدّني إلى بلدي أمّ الزينات، إلى مدرستي ورفاقي، وكنت أحسّ بالقهر والذلّ يسحقانني سحقًا، فأخذت قرارًا مع نفسي؛ لن أعود إلى المدرسة". 

 

فلسطين حملها الّتي الغول على ظهره وأخذها

ينقل لنا سليم بلغة حيّة نابضة النقاش بين والدَيه، فالأمّ تقول بحيرة: "هسّا الولد بدو يطلع بدون علم"، فيردّ الأب بحزن: "ولكْ إحنا لو ظلّينا ببلدنا كان بخلّي ولد بدون علم"، فترجو الأمّ بإصرار، لكنّ الأب يعيدها إلى الواقع الجديد: "ولك إنتي وين محسبي حالك؟ بمّ الزينات! ولك إنت عارفة البلد شو قاعد بصير فيها! ولك الناس قاعدي إبتتقتّل عالدروب".  لكنّ سليم بقي ’مْتَنّح‘، عنيدًا، كما يصف نفسه، رغم محاولات أمّه، وبدأ يربط بوعي ابن السابعة أو الثامنة بين معنى "أن تذهب فلسطين" وأن يفقد الدراسة: "فكوني لم أتعلّم هو غصّة (...)، لو أنّي تعلّمت أكان من الممكن أن أُرجع فلسطين؟ (...) كنت أحيانًا أعتقد أنّ فلسطين حملها الغول على ظهره وأخذها (...) كما في الحكاية (...)، ووضعها في قصره في الغابات البعيدة".

في منتصف الخمسينات يتعرّف سليم «صحيفة الاتّحاد»، إذ كان أخوه الأكبر عليّ، يقرأ له الصحيفة خلال رعيهما قطيع الماعز. كان أخوه مرجعيّته الثقافيّة والسياسيّة، فكان يحدّثه عن الشعر الجاهليّ، وأخبار الصحابة والسيرة النبويّة، والأساطير. ومن خلال الجريدة وخلال الرعي تعلّم القراءة ذاتيًّا، وتعرّف إلى المقالات السياسيّة. وتعلّم الكتابة بجهود ذاتيّة خلسة: "في البداية كنت أستعمل الحجارة (...) فأرسم على البراميل (...) طيورًا وماعزًا وأشجارًا وجنودًا وبنادق ورشّاشات، وأكتب أسماءها تحتها (...) ثمّ اشتريت بعض الدفاتر والأقلام (...) وخلسة أقطع من وسط الدفاتر ما نسمّيه ’طلحيّة‘(...) وعندما يهدأ القطيع (...) أبدأ أكتب (...) أسماء الوديان، الآبار، الخرب (...) كنت في المساء أفتح الكتب وأقارن (...) لأتأكّد من صحّة إملاء كلمة".

عدم ’تأقلم‘ سليم المدرسيّ ليس عائدًا لانعدام شعوره بالأمان أو شعوره بالمسؤوليّة فحسب، بل شعور الاغتراب كان أعظم، لأنّ تلك المدرسة الجديدة لم تكن لتلبّي حاجته، وما فيها غير مرتبط بما يشغله وما كان مسكونًا به؛ فتجربة النكبة كانت غائبة تمامًا هناك، كأنّها لم تكن. لكنّها كانت حاضرة بقوّة في داخله، فكان قرار اعتزال المدرسة هو قرار تمرّد وتمسّك بلا مرئيّته، لاستيعاب الصدمة وليس تغييبها، واستعادة ذاته لتشكيلها، وبذلك أصبح تلميذًا - راعيًا ’لامرئيًّا‘ يتعلّم في مدرسة ذاتيّة مكانها الأحراش، صمّم مناهجها بنفسه واختار ما يحاكي تجربته. وربّما تجربة الرعي كانت أكثر حرّيّة لمثل هذه الغاية؛ لأنّها كانت تمكّنه من الاقتراب من أحراش قريته المهدّمة، كأنّه يعادل في ذلك فلسطين نفسها الّتي هُدمت بنيتها الثقافيّة، وكان عليها أن تشكّلها من جديد على أنقاض نكبتها.

 

صورة ثانية: ’تشييء‘ التلميذ اللاجئ

تنقل لنا تلك السير الشعور الأوّل للأطفال عن اللجوء خارج الوطن، المنبثق من التعامل معهم كمجموعة مع تغييب فردانيّتهم وشعورهم بأنّهم ’أشياء‘؛ فنجد وصف محمّد الأسعد في «أطفال الندى»، لتجربته في المدرسة في مخيّم قرب جنين: "كأنّما قرّر الجميع اكتشافنا ومعرفة ما نخبّئه. ومع ذلك فلا أتذكّر أنّهم كانوا يخاطبوننا أو يسألون عن أسمائنا. وحتّى عندما اختاروا بعضنا لنقله إلى الصفوف التالية وضعونا في ثلاثة صفوف، كنت في الوسط منها (...) فتتجاهلني المدرّسة وتنظر خلفي، وتشير إلى أحدهم (...) وبقيت في الصفّ الأوّل. يدهشني حتّى اليوم لماذا لم يقع الاختيار عليّ".

يظهر ’التشييء‘ أيضًا في التركيز على إعادة تأهيل أجسادهم من طرف «وكالة الأمم المتّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين» وتجاهل مشاعرهم، فقد حرصت «الأونروا» مثلًا، على إجبار التلاميذ كلّ صباح على أن يشرب كلّ واحد منهم ربع لتر من الحليب المجفّف المخلوط بالماء، فكرهوا ذلك الحليب وأصبحوا لا يطيقون مجرّد رؤيته، مع أنّ فطورهم كان كسرة خبز وكأس شاي لا غير. وكي يصبحوا ’صالحين‘ للاندماج في الحياة، فإنّه كان مفروضًا على مدير المدرسة أن يرشّهم بمبيد حشريّ سامّ، وأن تُحْلق شعورهم إلى درجة الصفر - على نفقة أهاليهم، الأمر الّذي يصوّره صبحي فحماوي في «عذبة» في هذا المشهد: "كنت أقف في صفّ المدرسة (...) طلب الدكتور من (...) مدير المدرسة أن يرشّ الطلّاب بمبيد دي. دي. تي، كانت تأتيه تعليمات برشّه على أجساد الطلّاب، داخل ملابسنا، وعلى رؤوسنا، وفقًا لتعليمات الوكالة، الّتي تنصّ على أن يحلق الطلّاب شعورهم على درجة الصفر".

تنقل لنا تلك السير الشعور الأوّل للأطفال عن اللجوء خارج الوطن، المنبثق من التعامل معهم كمجموعة مع تغييب فردانيّتهم وشعورهم بأنّهم ’أشياء‘...

ويصف واصف منصور في «بعض منّي: رحلة لجوء من حيفا إلى الرباط» وصولهم إلى مخيّم الفارعة، والجوع في الخيمة الّتي حوت سبعة أفراد من العائلة، واجتهاد الأمّهات في العثور على البقول لسلقها مع الملح لسدّ رمقهم. ويصف تفصيلات عوزهم ونومهم متلاصقين في خيمة صغيرة، وتحويل الأمّهات البطانيّات إلى ملابس. لكنّ إصرار أهاليهم على إتمامهم للدراسة كان أمرًا مفروغًا منه، على الرغم من الظروف الشبه المستحيلة، ويظهر هنا فكر بدأ يتبلور لدى الأهالي له ركيزتان: تحسين الظروف الاقتصاديّة لا يمكن أن يحقّقه اللاجئ إلّا بالتفوّق العلميّ، وأنّ طريق العودة غير ممكن من دون بناء جيل متعلّم، مثلما يصوّر واصف منصور: "ليس من حقّ أحد أن يسألنا كيف كنّا نراجع دروسنا، الّتي حرص جميع أولياء الأمور على وجوب متابعتها، انطلاقًا من أمرين: قناعتهم بأنّ اليهود انتصروا علينا بالعلم (...)، وقناعتهم بأنّ العلم أهمّ وسيلة لكسب الرزق والخروج من هذه الوضعيّة القاسية والمهينة. تكون مراجعة الدروس في النهار تحت ضوء الشمس (...) القيام بالواجبات الأخرى كان بصعوبة بالغة (...) بأوقات وأوضاع غير طبيعيّة". 

أمّا المدرسة فيمكن أن نرى وصفًا لها؛ من خلال ما يرويه واصف منصور: "كان التلاميذ متفاوتين في السنّ (...) كانت سنّي أقلّ من ستّ سنوات، وكانت سنّ بعض التلاميذ تفوق العشر السنوات (...) كلّ من وصل سنّ التمدرس في ما بين سنتَي 1948 و1951 لم يكن بإمكانهم الدراسة (...) المدرسة عبارة عن خيمة كبيرة عالية، تفيض عليها مياه المطر، وتتجمّع تحت أرجل التلاميذ (...) الحافية".

 

’البقجة‘... ربطات عنق للّاجئين

نظرة الشفقة الأوروبّيّة والغربيّة تجاه اللاجئين كانت في المجمل، ومثلما تصوّرها هذه الأعمال، تتّسم بالفوقيّة وعدم التفهّم الحقيقيّ لظروفهم؛ فمثلًا المساعدات السنويّة الّتي كان يتلقّاها الأطفال اللاجئون في المخيّمات، كانت بعيدة عن حاجات الأطفال الملحّة أو حتّى المشتهاة، بل قُدّمت لهم مجموعة من الأشياء المستعملة، كأن يتبرّع بعض الغربيّين بملابس ذويهم، بعد موتهم، وكان عليهم التكيّف مع ما يُقدّم إليهم، وليس العكس: "وفي كلّ سنة كانت «الأونروا» توزّع صرّة يسمّيها الناس (البقجة) (...) ومن طرائف البقجة أنّها كانت أحيانًا تحتوي على عدد كبير من ربطات العنق (...) والأحذية النسائيّة ذات الكعب العالي، وملابس من مقاسات كبيرة جدًّا (...) ومع ذلك كان اللاجئون مضطرّين إلى الاستفادة من محتويات البقجة وتكييفها".

وكانت الأحذية أكثر ما يحتاج إليه الأطفال، وكانوا يعودون حفاة بعد تجربة الاحتذاء التراجيديّة لأحذية البقجة الّتي لا تناسب مقاساتهم، مثلما يشير صبحي فحماوي في «عذبة»: "عاد أخي في نهاية الدوام من المدرسة، وقد فجّرت رجله الحذاء تفجيرًا، فأطلّت أصابع قدميه من بين النعل والجلد (...) خلعه، فكانت كلتا رجليه تنزفان دمًا! وعاد أخي إلى المدرسة مثلنا، حافيًا بلا حذاء". 

على الرغم من الحكايات الموثّقة في هذه السير، الّتي تسرد تعاطف سكّان الأماكن ومساندتهم للاجئين، فإنّ نظرة طبقيّة كانت تمارَس تجاههم أحيانًا، فحواها أنّ طموحهم يجب أن يقف عند سدّ حاجاتهم الأساسيّة. ومن ذلك قصّة محاولة واصف منصور أن يقطف وردة من أحد البساتين، فيمسك به صاحب البستان ويضربه ’قتلة طبقيّة‘، مثلما يسمّيها واصف منصور: "لم أكن أتألّم من الضرب بل من الكلام (...): "يا جوعان يا ابن الجوعان، بدلًا من أن تسرق لك حبّة باذنجان تأكلها جئت تسرق وردة؟ هل حصلت على كلّ شيء ولم يبقَ لك إلّا الورد؟" (...) اعتبرته اضطهادًا طبقيًّا يَحرم اللاجئين من حقّ التمتّع بالجمال".

أهمّيّة هذه الأعمال أنّها ملتقى الذاكرة الفرديّة بالذاكرة الجماعيّة في فضاء الكتابة، حيث اللغة تنشئ الذاكرتين معًا، أو بكلمات فيصل درّاج هي حفظ وقائع المغلوبين في وثائق تقاوم التبدّد والتلف...

في مقابل حرص المعلّمين في المدرسة على تثبيت السرديّة الفلسطينيّة وتكريسها، نلحظ مركزيّة حضور الأمّ والأب في هذه السير، كما نلحظ انتباه الأطفال إلى تحوّل الآباء إلى آباء أكثر تطلّبًا، فقد كان على هؤلاء المؤلّفين العمل إلى جوار الدراسة، أو المساعدة في الفلاحة لساعات طويلة، أو الحراسة الليليّة للمزروعات، كما أنّ الآباء توقّعوا منهم أن يحقّقوا نجاحات علميّة مفهومة ضمنًا.

 

’أسكفّة‘: أدب على هامش التاريخ

المؤلّفون الأربعة أعلاه يعادلون جيلًا من أطفال القرية الّتي استمعنا إلى شهادات أخرى من أبنائها وبناتها، كانوا يحلمون بالدراسة أبعد من قريتهم الوارفة بين أحضان الكرمل، وكان نقاش بعضهم المفترض مع أهاليهم سينحصر في وعد الدراسة بين الأزهر وبيروت، صفد أو نابلس، لكن مسار أحلامهم تحوّل، منهم من قُتل آباؤهم أثناء النكبة بالتوازي مع فقدان الوعد، والبيت الأوّل، والمدرسة الأولى الّتي لم يبقَ شاهد منها سوى عتبتها، تدوينهم لقصصهم هو شاهد عليها، كما هو درب آلام وألغام في طريق استعادة صوتهم، ومخاض لخلق ’لغة‘ ممكنة لسرد الذكريات المبقّعة بالكلام والصمت.

أهمّيّة هذه الأعمال أنّها ملتقى الذاكرة الفرديّة بالذاكرة الجماعيّة في فضاء الكتابة، حيث اللغة تنشئ الذاكرتين معًا، أو بكلمات فيصل درّاج هي حفظ وقائع المغلوبين في وثائق تقاوم التبدّد والتلف.

 في رأينا، قوّة هذه الأعمال أيضًا تكمن في أنّ تدوينها مؤشّر إلى استبدال أدوات الصراع والمقاربة، فإذا كانت ’اللامرئيّة‘ آليّة المهجَّرين في الأراضي المحتلّة عام 1948 للصمود بعد الفقدان، فإنّ هذه الأعمال تشير إلى ازدياد حاجتهم في العقود الثلاثة الأخيرة إلى استحضار سرديّتهم مكتوبة، منشورة وعلنيّة في حيّزهم، كإشهار لهويّة وجودهم، وهي بالتوازي مؤشّر إلى حاجة المهجَّرين خارج الأراضي المحتلّة عام 1948 والشتات إلى إبراز فردانيّتهم، وتسليط الضوء على اختلاف قصصهم الشخصيّة، وتعدّد مصائرهم، وحماية صوتهم من الذوبان.

 


إحالات

[1] وفق المصادر المختلفة، احتُلّت القرية وطُرد أهلها بقوّات صهيونيّة مدجّجة في 15 أيّار (مايو) 1948، ولم تكن هذه المحاولة الأولى، كان الأمر العسكريّ بالسيطرة عليها واضحًا بسبب موقعها الإستراتيجيّ؛ فالاستيلاء عليها يعني الاستيلاء المطلق على الطريق بين الشمال والمركز.

 


 

عايدة فحماوي - وتد

 

 

 

أكاديميّة فلسطينيّة وباحثة في الأدب الفلسطينيّ والأدب الحديث. 

 

التعليقات