13/06/2017 - 09:24

كيف يروّض الاحتلال الزمان والمكان؟

كيف يروّض الاحتلال الزمان والمكان؟

جدار الفصل العنصريّ

مشهد أوّل: بعد اقتحام القوّات الإسرائيليّة لمخيّم جنين علم 2002، أُعيد بناء المخيّم برؤوس أموال عربيّة وأجنبيّة، على أن يُراعى في تصميم فضاءاته اتّساع يسمح بمرور الدبّابات والآليّات العسكريّة، ما يضمن سهولة اقتحام المخيّم والخروج منه.

مشهد ثانٍ: يفاخر القائمون على مدينة 'روابي' السكنيّة في الضفّة الغربيّة المحتلّة (قرب رام الله)، بأنّها مبنيّة على طراز المستوطنات، في حالة مرضيّة نسمّيها 'متلازمة ستوكهولم' المكانيّة/ المعيشيّة.

مشهد ثالث: تعترف إسرائيل باللغة العربيّة في مؤسّساتها، لكنّها تعمد، مع ذلك، إلى تشويهها على اللوحات الإرشاديّة في الفضاء العامّ.

مشهد رابع: البناء في المستوطنات يحمل الكثير من آليّات الترميز العسكريّة، فهو يتّخذ بنية القلعة على أعلى التلّ، حيث تكشف الأراضي حولها، كما أنّها ذات أسقف قرميديّة حمراء، ليتمكّن طيران الاحتلال الإسرائيليّ من تمييزها في أيّ مواجهة.

'بئر السبع' كما تظهر في إحدى اللافتات الإسرائيليّة

مشهد خامس: على الجانب الأردنيّ من النقطة الحدوديّة بين الأردنّ و'إسرائيل'، لا مظلّة ولا كراسي انتظار للمسافرين، في منطقة تُعرف بحراراتها الشديدة (الغور)، أمّا على الجانب 'الإسرائيليّ'، فثمّة مظلّات وكراسٍ وبرّاد ماء.

مشهد سادس: 'حائط البراق مكان مقدّس لليهود، وسيبقى تحت السيطرة  الإسرائيليّة' - جبريل الرجوب في تصريح للتلفزيون الإسرائيليّ.

(1)

تقوم السرديّة الوجوديّة الإسرائيليّة التي تأسّس عليها الكيان الاستيطانيّ (في صورته الحداثيّة: الدولة) على ركيزتين أساسيّتين:

1. مكانيّة: كون 'إسرائيل' كيانًا استيطانيًّا إحلاليًّا، قام على طمس الفلسطينيّ من مكانه/ أرضه بالمذابح والقتل والتهجير، (والذي تطوّر أداتيًّا على يد الدولة الحديثة وأدواتها المدينيّة، بالمنطق الحاكم نفسه)، وذلك لهندسة مكان يُعدّ تمثيلًا لمقولة 'أرض بلا شعب لشعب بلا أرض'.

2. زمانيّة: بأن تقدّم 'إسرائيل' نفسها بصفتها امتدادًا طبيعيًّا لنسيج المنطقة التاريخيّ، وتطوّرًا طبيعيًّا زمانيًّا للمجتمع اليهوديّ الذي وُجِد في تلك البقعة المكانيّة 'الخالية من الفلسطينيّين' منذ قرون، وأنّها حالة طبيعيّة من التطوّر الاجتماعيّ المدينيّ، له ثقافته التعبيريّة وهويّته المرتبطة بمكانه الجغرافيّ، وبنسيجه الاجتماعيّ إقليميًّا، وليس ثقافات لمجتمعات مستجلَبة من أماكن مغايرة.

مخيّم جنين بعد الاجتياح عام 2002

إنّ العديد من هذه المشاهد وغيرها، والتي يمكن رصدها في ما يتعلّق بسياسات السيطرة والترويض التي يخضع لها الزمان والمكان (والجسد) الفلسطينيّ الواقع تحت الاحتلال الكولونياليّ الإسرائيليّ، لا يمكن فهمها من دون تلك الازدواجيّة، وبالتالي لا يمكن تفكيك ظاهرة الاحتلال ومقاومتها إلّا بتناول تلك الازدواجيّة.

فبينما بُنِيَت الموجة الأولى المستوطنات على رؤوس التلال، معتمدة على مبدأ 'فصل الحيّز'، تدفع الموجة الثانية بالاستيطان إلى مراكز الأحياء والمدن الفلسطينيّة. في بلدة سلوان المقدسيّة مثلًا، يمكن أن نرى تجمّعات استيطانيّة من 45 بيتًا مبنيّة في قلب البيوت الفلسطينيّة، لتكون نوعًا من المستوطنات المصغّرة داخل النسيج المدنيّ، ما يؤجّج الاحتكاك.

في سياق الاستعمار الاستيطانيّ لفلسطين، الذي احتلّ الأرض/ المكان، يملك اليهوديّ، حصرًا، حقّ التجربة المكانيّة، فنجد، مثلًا، 'قانون أملاك الغائبين'، ودوره في طمس تجربة الفلسطينيّين المكانيّة وتغييبها لحساب مادّيّة التجربة المكانيّة الصهيونيّة قانونيًّا، والقانون إجراء معنويّ وُضع لإدارة الوجود المادّيّ.

مستوطنة 'بروخين'

أمّا ما يتعلّق بالبعد المُدرك في المكان، فإنّه يُنحت عبر الخرائط، لرسمه، عقليًّا، في ذهن المتلقّي/ القاطن فيه، تمامًا كما حدث في تجارب استعماريّة أخرى، إنجليزيّة، وفرنسيّة، وإسبانيّة، إذ كان دور الخرائط يتمثّل في تفريغ إدراك الرجل الأبيض من السكّان الأصلانيّين. وبالتالي، فأيّ نتاج زمانيّ بالتراكم، أُنتج من خلال الجماعة الفلسطينيّة، يُستلب لصالح الجماعة اليهوديّة التي أُحلّت مكانهم؛ وهكذا أصبح الرمز الفلسطينيّ، كالتطريز، والأكلات، مثل الحمّص والفلافل، التي أُنتجت على مدار الزمن، رموزًا إسرائيليّة، تضمن طرد الفلسطينيّ من زمانه، ووضع المحتلّ مكانه، زمنيًّا.

يشير هنري لوفيفر إلى أنّ 'السيطرة على البعد المتخيّل للمكان وضبطه، تكون من خلال خلق حالة من الخوف والحيازة وعدم الألفة، بجعل الحدود والأطراف أمكنة للقمع والرقابة، مقابل الرأسمال الرمزيّ المركزيّ'. ومن هنا تنطلق دعاية 'إسرائيل واحة الديمقراطيّة والحداثة' في المنطقة.

في الفصل السابع من كتاب إيال وايزمان، «الأرض الفارغة» (2007)، والذي يحمل عنوان «منظومة الحرب: المشي خلال الجدران»، يقول القائد العامّ الإسرائيليّ، شيمون نافيه، عن إنشاء الجدار العازل بين أراضي 48 والضفّة: 'أيّ طريق يسلكها السياسيّون لإنشاء الجدار سأوافق عليه، طالما أنّ لديّ القدرة على اختراقه'. هذه المقولة تطوير بنيويّ لمقولة إيهود باراك عن كون إسرائيل 'مدينة محاطة بغابة'، في معرض توصيف أهمّيّة الجدار.

(2)

أمّا فلسطينيًا، فإنّ رام الله تدّعي تمثيل الفلسطينيّ 'المحرّر' بـ 'حكمه الذاتيّ'، وفي السرد الحداثيّ المعولم، وهو ما لا يتاح لفلسطينيّي أراضي 48، إذ لا يزال هؤلاء عبئًا على حداثة الدولة الإسرائيليّة. إنّ نصّ رام الله المكانيّ في سيرورته، لا بدّ أن يحمل دلالات عن العقل الفلسطينيّ وكيف يدرك، مكانيًّا، ذاته وموقعه من الآخر والكون، ويكتب سرديّته، ومدينته.

مدينة 'روابي'

رام الله تعيش زمن رأس المال العربيّ والفلسطينيّ المكدّس رأسيًّا/ مركزيًّا، فتعبّر عن ذلك بـالأبراج؛ تلك الأبنية التي لا وظيفة ولا معنى لها إلّا الربح والاندماج في المنظومة الرأسماليّة الاستهلاكيّة، بثنائيّتها: سيّد وعبد، موغلة في قبح بصريّ، يتضادّ مباشرة مع تاريخ المكان، محوّلًا إيّاه إلى فراغ، وإلى رأس مال يصبّ ما يريد من العلامات والدلالات فيه (إحداها العلامات التجاريّة، وبرامج المسابقات الفنّيّة المدعومة من رؤوس الأموال التطبيعيّة)، وتشكيله كما يريد هو، منتجًا لنا الفلسطينيّ/ ة المرغوب/ ة إسرائيليًّا.

وتُعَدّ المستوطنات خرقًا للمادّة 49 من ميثاق جنيف لحقوق الإنسان، وهي المسطّح المكانيّ من الجغرافيا 'المُحرّرة' الممنوع على السكّان الأصليّين، حتّى ولو كانوا هم مَنْ بنوه بأيديهم، ومسيّجة بحمايات وأسلاك شائكة، هي مسطّح لسرد مكانيّ، يمنع أيّ سرد مكانيّ فلسطينيّ من تجاوز مساحته، هو في حالة قطيعة حصريّة وحصار لباقي مسطّحات ذلك المكان من قرى ومخيّمات. وهنا، يغدو المكان الفلسطينيّ مكانًا لا محاصرًا فقط، لكنّه 'مكان منقرض' لا سرد له، فلا ذات له، وهو واقع تحت سيطرة المكان الإسرائيليّ الأعلى منه، معنًى وواقعًا.

المقاومة وتفكيك النموذج

من خلال السيطرة الإسرائيليّة وموقع إسرائيل ضمن المركزيّة الغربيّة، تُفهم أهمّيّة الحرب على طريقة المسرح الرومانيّ في العقل الإسرائيليّ/ الغربيّ/ الأبيض/ الحداثيّ، وتفاصيلها، أقلّها فكرة الاتّصال بالغزّيّين دقائق قبل تفجير منازلهم/ نّ.

نفق في غزّة

تمكّننا مراقبة التطوّر المواجهاتيّ للمقاومة على مدى المواجهات السابقة المباشرة مع الاحتلال الإسرائيليّ (2008 -2009 /2012 /2014)، مرورًا بعمليّات الاختطاف، وبالإحالة إلى العناصر الثلاثة: الجسد/ الزمان/ المكان، من ملاحظة التالي:

لا يستطيع الجيش الإسرائيليّ إلّا أن يواجه في أماكن محدّدة، على أن يملك هو سلطة تحديدها جغرافيًّا وزمنيًّا، وذلك جليّ في جميع مواجهات الدولة الإسرائيليّة، وهذه نقطة مهمّة في المواجهة والحسم. في غزّة، كان انفتاح مكان المواجهة بما لا يسير على هوى إسرائيل، بواسطة صواريخ المقاومة التي وصلت حدود المثلّث، وسط فلسطين المحتلّة (الخضيرة ومجيدّو)، وكذلك بواسطة الأنفاق الغزّيّة التي كسرت حصار الإخوة والأعداء، كسرًا لسلطة تحديد المكان، مسرح الموت، لمصلحة فكرة المقاومة.

 

لمشاهدة محاضرة د. عبد الله البيّاري تحت عنوان المقالة نفسه، والتي قدّمها في منتدى جدل بعمّان - الأردنّ، يُرجى الضغط هنا.

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.

التعليقات