11/10/2022 - 13:53

أنطون سعادة والقوميّة السوريّة: بعدسة ما بعد استعماريّة

أنطون سعادة والقوميّة السوريّة: بعدسة ما بعد استعماريّة

أنطون سعادة (1904 - 1949)

 

مقدّمة
أسّس اللبنانيّ أنطون سعادة «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ» عام 1932، بعد عودته من البرازيل، الّتي انتقل إليها بعد هجرته مع إخوته إلى الولايات المتّحدة وهو في الخامسة عشرة من عمره؛ فجعل هذا منه بطلًا قوميًّا في المنطقة قبل أن تعدمه الحكومة اللبنانيّة عام 1949؛ بسبب عمله السياسيّ.

تركّز فكر سعادة السياسيّ حول نقد القوميّة العربيّة بشكل أساسيّ، أو ما أسماه ’القوميّة الزائفة‘ في كتابه «الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّديّة»، معتبرًا الوحدة العربيّة وهميّة، وهو ما كان محقًّا فيه؛ فلم تكن الشعوب الموصوفة بـ ‘العربيّة‘ في زمنه قوميّة على مدار تاريخها، بل وحّدها الإسلام ضمن هويّة سياسيّة اجتماعيّة دينيّة، ونشر اللغة العربيّة. سعادة لم يعُد إلى الهويّة الإسلاميّة الّتي وحّدت الأمّة قبل الاستعمار لقرون، بل كغالبيّة القوميّين المتأثّرين بما فعلته الدولة الدينيّة في أوروبّا، طالب بفصل الدين عن الدولة ورفض الدولة الدينيّة.

يذهب سعادة إلى ما هو أبعد في اتّهام القوميّة العربيّة بخدمة الاستعمار، قائلًا: "إنّ الدول الاستعماريّة لم تقاوم فكرة الوحدة العربيّة الوهميّة الدينيّة، بل شجّعتها"، وهذا بالفعل ما حدث، فقد رسّخ المستعمِر الهويّة العربيّة ودعمها؛ لتقف بوجه الهويّة العثمانيّة وتتمرّد عليها، وبذلك ينجح في تفكيك الخلافة العثمانيّة، الحليف المحوريّ لألمانيا في الحرب ضدّ بريطانيا وفرنسا، حتّى أنّهم رعوا فكرة خليفة عربيّ مقابل الخليفة العثمانيّ في مرحلة ما، رغبة في تحقيق هذا التفكّك.

ذلك ما دفع سعادة إلى التنظير لقوميّة بديلة، قوميّة سوريّة أقدم من الإسلام، نابعة من الجغرافيا الّتي كُوِّنت من خلال الحدود الطبيعيّة لما يسمّيه سعادة بـ ‘سوريا الطبيعيّة‘، الّتي عاشت على أرضها ’الأمّة السوريّة‘. في كتابه «نشوء الأمم»، يتحدّث عن دولة فينيقيّة سوريّة وعن السوريّين الكنعانيّين (الفينيقيّين)، ما يبني عليه سعادة هويّة قوميّة سوريّة، وبالتالي تأسيس وطن سوريّ موحّد يمتدّ على أرض ما يُعْرَف اليوم بالعراق والكويت، وسوريا ولبنان، والأردنّ وفلسطين، وسيناء، وجزيرة قبرص، إضافة إلى جزء من جنوب الأناضول وغرب إيران، وهو ما ذكره في المبدأ الخامس لـ «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ» في محاضرته الخامسة: "الوطن السوريّ هو البيئة الطبيعيّة الّتي نشأت فيها الأمّة السوريّة. وهي ذات حدود جغرافيّة تميّزها عن سواها، تمتدّ من جبال طوروس في الشمال الغربيّ وجبال البختياري في الشمال الشرقيّ، إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوريّ في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربيّة وخليج العجم في الشرق (وتوصف بالهلال السوريّ الخصيب ونجمته جزيرة قبرص)".

 

 

طرح سعادة هذه الأفكار لتأسيس وحدة إقليميّة؛ بهدف النهوض من الانحطاط والتحرّر من الاستعمار. لذلك، سأراجع في هذا المقال بعض أفكار سعادة الأساسيّة ومفاهيمه، بعدسة ما بعد استعماريّة، معتمدًا بشكل محوريّ على أهمّ ما قدّمه جوزيف مسعد في نقد الفكر القوميّ (العربيّ غالبًا) في بلادنا، وبشكل أقلّ على ما قدّمه إدوارد سعيد. 

 

سوريا الطبيعيّة

طُرحت فكرة سوريا وطنًا لأوّل مرّة في التاريخ عام 1860، على يد المفكّر المسيحيّ المارونيّ بطرس البستانيّ الملقّب بـ ’المعلّم‘؛ إذ أسّس في هذه السنة جريدته الورقيّة الّتي حملت عنوان «نفير سوريا»، في أعقاب الصراع بين الدروز والموارنة في جبل لبنان، مطالبًا بالوحدة ونبذ الطائفيّة بين أبناء سوريا، لكنّه كان وطنيًّا لا قوميًّا في طرحه، فقد كان البستانيّ مخلصًا للسلطنة العثمانيّة، ولم يطالب بدولة قوميّة منفصلة عنها.

الطريف أنّ البستانيّ في معجمه «محيط المحيط»، الّذي نال عليه الوسام المجيديّ الثالث من السلطان العثمانيّ، بعد عشر سنوات من تأسيس «نفير سوريا»، تحت الجذر ’سور‘ يذكر كلمة ’سورية‘، "اسم لبلاد الشام"[1]، وهنا نجد أنّ تسمية ’بلاد الشام‘ هي التسمية المرجعيّة لتفسير كلمة ’سورية‘، دون أن يورد أيّ معنًى قوميّ، أو يذكر شيئًا عن ’سوريا الطبيعيّة‘ في معجمه. لكن يبدو أنّ سعادة لم يجد نفعًا في مصطلح ’بلاد الشام‘، فلم يستخدمه في مؤلّفاته.

كتب الجغرافيّ والكاتب الفرنسيّ إليزيه ريكلس، عام 1884، في المجلّد التاسع من كتابه «الجغرافيا العالميّة الجديدة - Nouvelle Géographie Universelle»، ما يميّز بين السوريّين والعرب. ثمّ نجد المبشّر اليسوعيّ البلجيكيّ هنري لامنس[2] وتلميذه جاك تابت، بداية القرن العشرين، متأثّرَين بمَنْ سبقهما، ينظّران عن أمّة سوريّة متميّزة، غير عربيّة، موجودة منذ زمن الفينيقيّين، وأنّ هذه الأمّة قد تشكّلت داخل الحدود الجغرافيّة الطبيعيّة لسوريا[3]، الّتي لا يختلف امتدادها الجغرافيّ كثيرًا عمّا نظر إليه سعادة في ما بعد.

كان هنري لامنس من أكثر الأوروبّيّين تأثيرًا في المنطقة، حسب شهادة المؤرّخ اللبنانيّ كمال صليبي، "كان عالمًا غزير الإنتاج ومبدعًا للغاية، صُنّف في مقدّمة المستشرقين في عصره... كان طلّابه متأثّرين بشدّة بأفكاره، وكان من بينهم جيل المسيحيّين، وبشكل رئيسيّ الموارنة، الّذين وضعهم الفرنسيّون في الحكم في لبنان بعد عام 1920، بتوصية شخصيّة منه". مع اعتراف صليبي بأنّ دوافع لامنس كانت نابعة من ازدرائه للإسلام[4]. بعض هؤلاء الطلّاب له دور مؤثّر جدًّا في مستعمرة لبنان الفرنسيّة، وبعد ’الاستقلال‘ أيضًا، ليكون لامنس الوالد الأشهر لفكرة القوميّة السوريّة و’سوريا الطبيعيّة‘، والانحدار من العرق الفينيقيّ في المنطقة.

مع تسارع انهيار الدولة العثمانيّة عام 1916، وقبل «اتّفاقيّة سايكس بيكو»، دفعت مجموعة متنوّعة من الجماعات المسيحيّة اللبنانيّة من أجل توسيع لبنان، بينما طالب الإمبرياليّون الراديكاليّون، مثل كوميتي دوبليكس، بسوريا فرنسيّة تصل إلى الحدود الفارسيّة[5]. ظهرت نقاشات عديدة حول جدوى احتلال سوريا، وما إن كان ذلك مربحًا لفرنسا، والبحث عن طرق لزيادة إنتاجيّتها. في السنة نفسها، بدأت مساهمة كلّ من هنري برينير وأدريان أرتود من «غرفة تجارة مرسيليا» في هذا النقاش، من خلال تقديم عدم انتظام الأمطار والجفاف في متصرّفيّتَي القدس ولبنان، سببًا للدعوة إلى ’سوريا متكاملة‘؛ بهدف تطويرها لتكون ’France of the levant‘ أي ’فرنسا شرقيّ المتوسّط‘، وهو على ما يبدو الأب الشرعيّ لمصطلح ’باريس الشرق‘، لوصف مدينة بيروت في ما بعد، ولا حاجة إلى ذكر التمركز حول الغرب في هذه التسمية، الّتي تستخدم دول الغرب ومدنه مرجعيّة لوصف أماكن في ’الشرق‘، والنبرة الاستشراقيّة الواضحة في هذا الخطاب. على أيّ حال، نجد هذا العامل الزراعيّ البيئيّ محوريًّا في طرح سعادة لأدلّته على وحدة الأمّة السوريّة في أرض ’سوريا الطبيعيّة‘ بعدها بسنوات؛ إذ يقول في محاضرته الرابعة: "إنّ مناطق سوريا الطبيعيّة (الهلال الخصيب) هي وحدة جغرافيّة - زراعيّة - اقتصاديّة - إستراتيجيّة".

يبدو أنّ أنطوان لم يكن الأب الحقيقيّ لفكرة سوريا الطبيعيّة أو الكبرى أو المتكاملة، ولا حتّى الأمّة السوريّة الّتي تنحدر بشكل ما من العرق الفينيقيّ أو مرتبطة بدولته؛ فكلّ هذه كانت أفكارًا خلقها الاستشراق والاستعمار...

بعد أن تتبّعنا ولادة مفهوم ’سوريا الطبيعيّة‘، نجد فكرة القوميّة السوريّة بديلًا عن القوميّة العربيّة لاستعماريّتها بلا جدوى، لأنّها ببساطة لا تختلف عنها. من الواضح أنّ المفهوم الأساسيّ لفكر أنطون سعادة، كان قد وُلِدَ ليكون مشروعًا استعماريًّا، تمامًا مثل القوميّة العربيّة الّتي يتّهمها بذلك، ويبدو أنّ أنطوان لم يكن الأب الحقيقيّ لفكرة سوريا الطبيعيّة أو الكبرى أو المتكاملة، ولا حتّى الأمّة السوريّة الّتي تنحدر بشكل ما من العرق الفينيقيّ أو مرتبطة بدولته؛ فكلّ هذه كانت أفكارًا خلقها الاستشراق والاستعمار، ولم تكن مطروحة في المجتمعات المحلّيّة لما كان يُعْرَف آنذاك ببلاد الشام.

 

الفوقيّة الفينيقيّة

ظهرت الحركات القوميّة العربيّة ردّةَ فعل للحركات القوميّة التركيّة، أواخر الدولة العثمانيّة، وظهرت بدورها بسبب تأثير التيّارات القوميّة الغربيّة في الغرب، وقد صوّرت نفسها بصفتها أعلى حالات التحضّر البشريّ، وهو ما يتبنّاه أنطون في كتابه «نشوء الأمم» القوميّة. إذن، هي يقظة الأمّة وتنبّهها لوحدة حياتها ولشخصيّتها ومميّزاتها ولوحدة مصيرها، كأنّ عدم الانتماء إلى القوميّة يجعل منّا كائنات غارقة في النوم.

لكنّ الهويّة القوميّة يمكنها أن تختزل الإنسان وتطغى على كينونته، وتشعره بالفخر والتفوّق على الآخر. ينبّه جوزيف مسعد إلى محاكاة القوميّين العرب للحركات القوميّة في الغرب، "تمامًا مثلما كان الأوروبّيّون في عصر النهضة، ومن ثَمّ في عصر التنوير، ينسبون كلّ ما يثير قلقهم إلى غير الأوروبّيّين في سياق عمليّة اختراع أوروبّا كتصنيف حضاريّ متماسك، وإعداد المسرح لجميع أنواع الإيديولوجيّات والممارسات القوميّة المتطرّفة، أراد بعض القوميّين العرب الحداثيّين الحفاظ على ’نقاء‘ الحضارة العربيّة في الماضي". لقد حاول القوميّون إثبات تحضّرنا للغرب، وفق معايير الغرب لما هو متحضّر، وإنشاء مشاريع دول قوميّة مشابهة للدول الغربيّة تمامًا، وهو ما يمكن النظر إليه بصفته فعلًا هرميًّا ينظر إلى القوميّة على أنّها أسمى حالات التنظيم البشريّ، فقط لأنّ الشعوب البيضاء الغربيّة تنظّم دولها من خلالها، واعتبار سعادة للدولة القوميّة أسمى أشكال الدول في التاريخ، يبدو جليًّا في كتابه «نشوء الأمم». 

إعجاب سعادة بالقوميّة الغربيّة واضح جدًّا في كتاباته، وفي رمز حزبه المشابه إلى حدّ كبير لرمز الصليب المعقوف النازيّ، حتّى أنّه ذكر هتلر في خطاب الأوّل من آذار (مارس) فيعام 1938، بوصفه مرجعًا لأعضاء حزبه ومثال يُحْتَذى به: "انظروا كيف صبر هتلر أو غيره على الّذين كان يشعر بخيانتهم لقضيّته"[6]. يبدو أنّ هذه التهمة قد وُجِّهَت لأفكار سعادة في وقت مبكّر، حين نجده في محاضرته الثانية يقول: "كذلك أريد بهذه المناسبة أن أطرح أنّ نظام «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ» ليس نظامًا هتلريًّا ولا نظامًا فاشستيًّا، بل هو نظام قوميّ اجتماعيّ بحت، لا يقوم على التقليد الّذي لا يفيد شيئًا، بل على الابتكار الأصليّ الّذي هو من مزايا شعبنا"، محاولًا التنصّل من تقليد الفكر النازيّ.

 

صورة أرشيفيّة لأنطون سعادة برفقة أعضاء من «الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ»

 

المثير للريبة انتقاد سعادة للتوجّهات القوميّة في الغرب، عندما تقصي السوريّين، وهو ما يبدو أنّه عانى منه أثناء حياته هناك مهاجرًا، فيذكر: "يظهر أنّ التحامل على السلالات يجد دائمًا تربة جيّدة في أمريكا، نرى بعض الأمريكيّين يعدّون السوريّين والإغريق سلالات منحطّة؛ ففي حملة انتخابيّة جرت في برمنهام، ألاباما، في ربيع سنة 1926، وزّعت نشرة جاء فيها:

"لكورونر

صوّت ل ج. د. غص

مرشّح الرجل الأبيض

لقد جرّدوا الزنجيّ، الّذي هو أمريكانيّ الرعويّة، من حقّ التصويت في الأوّليّة البيضاء. فيجب أن يُجَرَّد الإغريقيّ والسوريّ أيضًا من هذا الحقّ. إنّي لا أريد صوتهما، فإذا كان انتخابي لا يمكن أن يكون على يد الرجال البيض فلا أريد الوظيفة"[7].

لكن في الوقت ذاته، في نفس الكتاب، أثنى سعادة على دولة الفينيقيّين في أنّهم "لم يدخلوا الأقوام الغريبة الّتي أخضعوها بالفتح، كالليبيّين والإسبان القدماء (الإيبيريّين) في نظام حقوقهم المدنيّة والسياسيّة"[8]. هنا يظهر تأثّره بالفكر اليمينيّ الغربيّ، الّذي ربّما قد حدث أثناء حياته في الغرب. يبجّل سعادة هنا ذات الأمر الّذي يرفضه حين يمارسه المستعمر الغربيّ عليه، فكلّ خطابه في النهاية يتمحور حول النقاء، وتفوّق العرق السوريّ الفينيقيّ على باقي الشعوب، وعلى عنصريّة عرقيّة.

يعود في محاضرته الرابعة من محاضراته العشر، قائلًا: "النبوغ السوريّ وتفوّق السوريّين العقليّ على مَنْ جاورهم وعلى غيرهم، أمر لا جدال فيه"[9]، دون أن يمنحنا أيّ معايير يمكن استنادًا إليها مقارنة ’النبوغ السوريّ‘ بالنبوغ الفارسيّ على سبيل المثال. يكمل في ذات المحاضرة بكلّ عنصريّة واستعلاء: "الكنعانيّون (الفينيقيّون) استعمروا الشاطئ الأفريقيّ، لكنّهم لم يُساووا في الحقوق بينهم وبين شعوب شمال أفريقيا الّذين أخضعوهم، وكانوا من سلالة أحطّ من سلالتهم؛ فاحتفظ السوريّون الكنعانيّون بسلامة فطرتهم"[10]. ويلوم العرب الّذين "على عكس السوريّين فإنّهم اختلطوا بأقوام من سلالات الزنوج، فدخل في المزيج العربيّ عرق من سلالات منحطّة"[11]؛ فكيف يختلف هذا الكلام عمّا دفع بالغرب إلى استعمار شمال أفريقيا، واستعباد السود في الولايات المتّحدة؟ ألا يبدو سعادة هنا مجترًّا خطاب لخطاب المستعمِر الأبيض؟ كيف يصف المناضلين ضدّ الاستعمار من شعوب شمال أفريقيا بهذا الشكل؟ هذه الشعوب الّتي ساندت القضيّة الفلسطينيّة بالمال والسلاح والأرواح مثلًا، ضدّ العصابات الصهيونيّة في فترة حياة أنطون، وأثناء كتابته كتبه، فضلًا على أنّ مَنْ يسمّيهم ’الزنوج‘ يمثّلون اليوم جزءًا لا يتجزّأ من شعوب ما يسمّيه ’سوريا‘، فهل كان يفكّر في إبادتهم مثلًا؟ أو منع التزاوج معهم؟ هل كان يريد استنساخ التجربة الأمريكيّة في الفصل العرقيّ لدينا؟

في ’سوريا الطبيعيّة‘ لا يوجد مسلمون، حيث يطلق سعادة على المسلمين اسم ’المحمّديّين‘، على الرغم من عدم وجود أيّ مسلم قد يعرّف نفسه بهذا الاسم في بلادنا، مفسّرًا ذلك أنّ الإسلام حالة تسليم يمكنها أن تمثّل حالة شاملة لكلّ الأديان؛ فالإسلام قد يكون مسيحيًّا أو محمّديًّا أو موسويًّا. على الرغم من ورود المصطلح في جميع مؤلّفاته والخطب تقريبًا بهذا المفهوم، يبقى وروده في عنوان كتابه «الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّديّة» هو الأبرز.

في ’سوريا الطبيعيّة‘ لا يوجد مسلمون، حيث يطلق سعادة على المسلمين اسم ’المحمّديّين‘، على الرغم من عدم وجود أيّ مسلم قد يعرّف نفسه بهذا الاسم في بلادنا، مفسّرًا ذلك أنّ الإسلام حالة تسليم يمكنها أن تمثّل حالة شاملة لكلّ الأديان...

يشرح لنا إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» إشكاليّة هذا اللفظ الاستشراقيّ والطائفيّ بجدارة، قائلًا: "كان من القيود الّتي قيّدت تفكير المفكّرين المسيحيّين الّذين حاولوا فهم الإسلام قيد القياس أو التشبيه، فلمّا كان المسيح هو أساس الدين المسيحيّ، افترض هؤلاء - وكانوا مخطئين كلّ الخطأ - أنّ محمّدًا يمثّل للإسلام ما يمثّله المسيح للمسيحيّة. من هنا أُطْلِقَ على الإسلام التسمية الجدليّة؛ أي ’المحمّديّة‘، وألصقوا بمحمّد (صلّى الله عليه وسلّم) صفة ’الدجّال‘ بصورة تلقائيّة. من أمثال هذه المفاهيم الخاطئة وغيرها، "تشكّلت حلقة لم تنكسر في يوم من الأيّام بالانفتاح على الخارج… إذ اعتبروا أنّ المفهوم المسيحيّ للإسلام متكامل وكافٍ بذاته"، وأصبح الإسلام صورة - وهي الكلمة الّتي أتى بها دانييل[12]، وتترتّب عليها في نظري دلالات مهمّة للاستشراق بصفة عامّة - إذ لم تعُد وظيفتها تكمن في تمثيل الإسلام في ذاته، بقدر تمثيله لعيون المسيحيّين في العصور الوسطى[13].

هكذا رفض المستشرقون منح صوت للمسلمين في تعريف أنفسهم، بل أُسْكِتوا تمامًا في هذه الدراسات الاستشراقيّة، وإن سُمِحَ لهم الحديث كان الهدف عدم تصديق ما سيقولونه عمّا يؤمنون به، لذلك؛ لم يعترف المستشرقون بتسمية ’مسلم‘ الّتي يتبنّاها المسلمون عن أنفسهم؛ لأنّهم ’مخادعون وكاذبون‘ بالفطرة، ووصفوهم بالمحمّديّين نسبة إلى النبيّ محمّد. استمرّ استخدام هذه التسمية العنصريّة في الولايات المتّحدة وأوروبّا بشكل واسع إلى منتصف الستّينات، ربّما تَعَرَّفَها سعادة هناك، وجلبها معه، دون مراعاة الفوقيّة في إلصاق تسمية بمجموعة كاملة من الناس، وتجاهل كيف يعرّفون أنفسهم، في سبيل مشروع قوميّ مبنيّ على ذات الأسس الاستشراقيّة الّتي اخترعت هذه التسمية.

 

الانحطاط

لا يخلو مؤلَّف لسعادة من استخدامه لمفهوم ’الانحطاط‘، كذلك الأمر في خطاباته، فنجده يستخدم المفهوم مرارًا في خطابه الّذي وزّعه أعوانه في بيروت في عام 1936، تحت عنوان »نداء إلى القوميّين الاجتماعيّين، بمناسبة الفتنة الدينيّة». قال فيه: "في هذه الظروف الحرجة الّتي يتراوح فيها الوطن بين النهوض والانحطاط"[14]، ويؤكّد "إنّ مبادئكم - القوميّة - هي الطريق الوحيدة الآمنة للخروج من ظلمات الجهل ودركات الانحطاط إلى مجال الحياة القوميّة المثلى"[15]. كذلك في خطاب الأوّل من آذار في عام 1938، قال: "الظروف الروحيّة والنفسيّة المتولّدة من هذه الحوادث، ومن الظروف السياسيّة والاقتصاديّة المتأتّية عنها، هي ظروف انحطاط"[16]، وأنّ «الحزب السوريّ القوميّ» جاء ليعالج "هذه الحالة السياسيّة المشؤومة، الّتي نتج عنها الانحطاط المعنويّ في النفسيّة السوريّة"[17].

كذلك في مقال «مصير شرقيّ الأردنّ يرتبط مع مصير الأمّة كلّها»، المنشور في عام 1938، يقول: "ليس في شرق الأردنّ حياة قوميّة وتحريريّة، بل هناك ضغط استعماريّ شديد، يجعل تلك البقعة منعزلة عن العالم الحديث، وغارقة في ظلمات الانحطاط الاجتماعيّ"[18]. حتّى وهو في الاغتراب عام 1939، استمرّ بتبنّي ذات المفهوم، "في طور انحطاط سوريا الأخير"[19]. يلتزم سعادة في كلّ ما اقتبسته أعلاه بثنائيّة قطبيّة بين ما هو قوميّ وما هو منحطّ، إمّا أن تكون قوميًّا وإمّا أن تكون منحطًّا، وطرحه لمفهوم النهوض حلًّا لإصلاح ذلك الانحطاط.

الانحطاط مفهوم استعماريّ نابع من الاستشراق بشكل مباشر، فكما يقول جوزيف مسعد: "الأوروبّيّون هم من ’اكتشف‘ انحطاط العرب. بل إنّ نابليون حاول إضفاء المشروعيّة على غزوه مصر في سنة 1798، قائلًا إنّه قلق على البلاد من الهمجيّة والانحطاط اللذين وصلت إليهما على أيدي الأتراك، وأنّ من واجب فرنسا تحرير أبناء هذا البلد. لكنّ المصريّين لم يشاطروه الرأي"[20]. هنا يبدو سعادة كأنّه يقتبس خطاب المستعمر الفرنسيّ ويعيد إنتاجه، يكمل مسعد: "سوف تغدو تلك النظرة إلى الحكم العثمانيّ واحدة من القوى المحرّكة لقوميّة عربيّة وليدة تعادي الدولة العثمانيّة"[21]؛ أي أنّ التوجّهات القوميّة ’العربيّة‘ وُلِدَتْ وفق مفاهيم المستعمر النابعة عن الاستشراق؛ تنفيذًا لمصالحه في مواجهة العثمانيّين وتفكيك خلافتهم، حتّى لو كانت تلك القوميّة في ظاهرها مناهضة للاستعمار، وهو ما ينطبق تمامًا على ’القوميّة السوريّة‘ أيضًا. استمرّ استخدام هذا المفهوم كأداة لإخضاع مجتمعات المستعمرات، فهناك خطاب لبلفور يمدح فيه جهود كرومر الاستعماريّة في مصر، يقول فيه: "لقد أدّت خدمات اللورد كرومر على مدار ربع قرن مضى، إلى رفع مصر من أدنى مهاوي الانحطاط الاجتماعيّ والاقتصاديّ حتّى أصبحت تنفرد اليوم بين الأمم الشرقيّة انفرادًا مطلقًا"[22].

يمكن القول إنّ الهويّة القوميّة دخلت بلادنا فقط لإقناع المستعمر بأنّنا ’متحضّرون‘ مثله، وهذه هي الإمبرياليّة في حدّ ذاتها، إذا ما سلّمنا بتعريف إدوارد سعيد لها على أنّها ’استيراد الهويّة‘...

يكتب جوزيف مسعد، بنبرة ساخرة، عن المثقّفين المتصالحين مع إسقاط المفاهيم الاستعماريّة على الثقافة المحلّيّة؛ بحجّة مجابهة الاستعمار، "لم يبد استخدام الأفكار الأوروبّيّة، كقاعدة تقوم عليها جهود استكشاف الإرث القوميّ العربيّ الإسلاميّ  - السوريّ في حالتنا - تلك متناقضًا أو إشكاليًّا بالنسبة إلى كتّابنا. بل كانوا، على النقيض من ذلك، ينظرون إلى تلك الأفكار، باعتبارها مجرّد أدوات ومفاهيم علميّة محايدة يمكن دمجها بالكامل في صلب مشروعهم التحديثيّ"[23]، الّذي أمسى مجرّد نسخة مبتذلة من المشروع الاستعماريّ.

 

هل تهدم أدوات السيّد منزله؟

السؤال الأهمّ من وجهة نظري: هل يمكن شخصًا ما أن يقف في وجه الاستعمار، ويكون جزءًا من النضال ضدّه، لكنّ أيديولوجيّته في الوقت ذاته قائمة على مفاهيم استعماريّة إمبرياليّة؟ بحسب جوزيف مسعد، هذا ممكن جدًّا، إذ يتحدّث عن ’عجز‘ في التفريق بين تبنّي إبستمولوجيّات وأنطولوجيّات إمبرياليّة من ناحية، والبقاء معاديًا للإمبرياليّة سياسيًّا من ناحية أخرى[24]. هنا أتذكّر مقولة النسويّة السوداء السحاقيّة أودري لورد: "أدوات السيّد لن تهدم منزله"، الّذي كان في الوقت ذاته عنوانًا لخطابها عن التقاطعيّة في النضال النسويّ، وعن هويّة جامعة ضدّ أشكال القمع، متمحورة حول مواجهة القمع الّذي تشنّه الأبويّة الرأسماليّة الاستعماريّة علينا جميعًا، دون الحاجة إلى هويّة قوميّة قمعيّة في تحرّرنا.

هنا، كيف لنا توقُّع هويّة أو أيديولوجيا نابعة من مفاهيم السيّد وتوقّعاته وخيالاته أن تدمّر منزله؟ نعم، لقد نقد سعادة الهويّة القوميّة المزيّفة الّتي شجّعها الاستعمار لمصالحه في بلادنا، والّتي نبعت من توقّعاته كما أسلفت أعلاه، وكما وضّح مسعد مرارًا وتكرارًا، لكنّ سعادة بقي حبيس ذات المقولات الاستشراقيّة والحدود القوميّة للنضال والإبستمولوجيا والأنطولوجيا الاستعماريّة، حتّى عندما كان مناهضًا للاستعمار والإمبرياليّة في سياساته وخطابه، وهذا بدوره من المستحيل أن يهدم الاستعمار والإمبرياليّة؛ لأنّه جزء منهما.

يمكن القول إنّ الهويّة القوميّة دخلت بلادنا فقط لإقناع المستعمر بأنّنا ’متحضّرون‘ مثله، وهذه هي الإمبرياليّة في حدّ ذاتها، إذا ما سلّمنا بتعريف إدوارد سعيد لها على أنّها ’استيراد الهويّة‘. عقدة النقص هذه الّتي كان من الطبيعيّ أن يولّدها الاستعمار حتّى في صفوف مناهضيه جعلت من مناهضته أمرًا مركّبًا للغاية. نعم، لا تحرّر من الاستعمار دون إسقاط الدويلات الّتي خلقها، لكن لا عبر خلق دويلات وهويّات، وفق ذات الأسس الاستعماريّة دون أدنى شكّ.

 


إحالات

[1] بطرس البستانيّ، محيط المحيط، ص 440.

[2] بين عامي 1886 و1891، درَّسَ اللغة العربيّة في «جامعة القدّيس يوسف»، وابتداءً من عام 1903 درَّسَ التاريخ الإسلاميّ في قسم «الدراسات الشرقيّة» في الجامعة نفسها. في عام 1907 اتّجهت الجامعات الّتي يديرها اليسوعيّون في القاهرة والإسكندريّة في مصر لفعل الشيء نفسه، وفي عام 1904 نشر كتابه «سوريا وأهمّيّتها الجغرافيّة«.

[3] Carl C. Yonker, The Rise and Fall of Greater Syria, Berlin: Walter de Gruyter GmbH, 2021, p. 7.

[4] Asher Kaufman, Henri Lammens and Syrian nationalism, The Origins of Syrian Nationhood: Histories, Pioneers and Identity, ed. by Adel Beshara (New York: Routledge, 2011), p. 108.

[5] Simon Jackson, What is Syria Worth? Monde(s) Volume 4, Issue 2, 2013, pages 83 to 103.

[6] أنطون سعادة، مختارات في أوضاع سوريا (بيروت: دار فكر للأبحاث والنشر، 1992)، ط 1، ، ط1، ص148.

[7] كأنّ هذا المرشح يتحدّث وفق ذات مفاهيم سعادة حول ’سوريا‘.

[8] أنطون سعادة، نشوء الأمم، ص180. 

[9] أنطون سعادة، "المحاضرات العشر"، المحاضرة الرابعة

[10] مرجع سابق.

[11] مرجع سابق.

[12] يقصد نورمان دانييل صاحب دراسة «الإسلام والغرب» الّتي يقتبس منها سعيد بعض الجمل والأفكار هنا.

[13] إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة: محمّد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006) ص125.

[14] أنطون سعادة، مختارات في الحزبيّة الدينيّة (بيروت: دار فكر للأبحاث والنشر، 1993) ط1، ص25.

[15] مرجع سابق، ص 26.

[16] أنطون سعادة، مختارات في أوضاع سوريا، ص130.

[17] مرجع سابق، ص 129.

[18] مرجع سابق، ص 155.

[19] مرجع سابق، ص 168.

[20] جوزيف مسعد، اشتهاء العرب (عمّان: دار الشروق، 2013)،  ص22.

[21] مرجع سابق، 29.

[22] إدوارد سعيد، الاستشراق، ص125.

[23] جوزيف مسعد، اشتهاء العرب، 90.

[24] جوزيف مسعد، الإسلام في الليبراليّة (بيروت: جداول للنشر والتوزيع)، ص 310.

 


 

موسى الشديدي



 

كاتب وباحث حول سياسات الجنس والجسد، ولد في بغداد عام 1992، صدر له عدّة كتب منها «جنسانيّة أمّ كلثوم» (2019)، و«المثليّة الجنسيّة في غزو العراق» (2020)، يعمل محرّرًا في مجلّة «ماي كالي» منذ 2017، ويكتب في منصّات عربيّة عديدة.

 

التعليقات