02/12/2016 - 09:38

حقل الألغام: التباس الترجمة من العربيّة إلى العبريّة

كلّ هذه الأمور مجتمعة، تجعل أيّ مبادرة للترجمة بين اللغتين عرضة لهجمة كبيرة وقاسية من الجانب العربيّ، تفضي إلى حالة من الجزع لدى الأدباء والأديبات من ترجمة نصوصهم إلى العبريّة. وهنا سأطرح السؤال الذي يهمّني في هذا السياق، والذي بدأت به: هل هناك ترجمة من العربيّة إلى العبريّة يمكن أن تكون خالية من كلّ المطبّات المذكورة أعلاه؟ الجواب هو لا طبعًا. إذًا، ماذا يمكن للمترجم (اليهوديّ) أن يفعل في هذه الحالة؟

حقل الألغام: التباس الترجمة من العربيّة إلى العبريّة

يكفي أحيانًا أن تعرف اللغتين اللتين ستقوم بينهما عمليّة الترجمة كي تُوصَف الترجمة بالسياسيّة، من دون علاقة بمضمونها. هكذا الأمر حين تترجم نصًّا من العربيّة إلى العبريّة أو بالعكس؛ في الحالتين يُمَوْضِع المترجِم نفسه في مكانة عصيّة على الحياد، فضلًا عن مكانة المؤلّف نفسه وعلاقته باللغة الثانية التي سيُترجَم إليها. العربيّة والعبريّة لغتان مرتبكتان ومشحونتان في محاولة الترجمة المتبادلة، بصفتهما تتشاركان في الأصل والمنشأ والتطوّر التاريخيّ لدرجة الالتصاق في مرحلة ما، وتختلفان في تجلّي الدلالات الظاهرة والباطنة في العصر الحديث، وخصوصًا عند نشوء الحركة الصهيونيّة ومشروع إحياء اللغة العبريّة في القرن العشرين، كجزء من المشروع الصهيونيّ في فلسطين التاريخيّة.

دافعيّة وشرعيّة الترجمة

لذلك، مَنْ يُترجم من العربيّة إلى العبريّة يدخل - طواعيّة أو قسرًا - حقلًا من الألغام لا يمكن تفكيكها بأيّ شكل، وأقصى ما يمكن فعله هو التخفيف من حدّة الالتباس المتّقد، سعيًا وراء الفهم والإدراك. وإذا كانت الترجمة ممكنة كفعل تقنيّ حرفيّ، وفقًا لبول ريكور، فإنّ الإدراك والفهم ممكنان في نهاية الأمر. الفهم في حالة المجتمع الإسرائيليّ تجاه الثقافة العربيّة يتطلّب مجهودًا بالغًا ومُلِحًّا من أجل مواجهة التطرّف والعنصريّة والمزاج الفاشيّ الذي بدأ يسود في بعض شرائح هذا المجتمع.

من أجل الحدّ من شدّة الالتباس المذكور أعلاه، يتوجّب أوّلًا – ودائمًا - تحديد الغاية من الترجمة، أو كما سمّاها ريكور 'دافعيّة الترجمة'. أنا شخصيًّا لا أذكر ترجمة من العربيّة إلى العبريّة جرت لأسباب جماليّة بحتة، هناك دائمًا ما يدفع إلى الترجمة عن العربيّة خارج السياق الجماليّ الخالص، وهذا بالذات ما يُكرّس الالتباس والمواجهة المفروضة سلفًا في مثل هذه المشاريع، وهذا يؤدّي بالضرورة – وفي الغالبيّة الساحقة من الحالات - إلى طرح مسألة شرعيّة الترجمة كجزء أساس من الفعل الثقافيّ/ الجماليّ المرتبط بالترجمة التي نتحدّث عنها.

إسرائيليّ/ يهوديّ

إلى جانب الالتباس الذي تثيره مسألة الشرعيّة والدافعيّة، ثمّة التباس آخر لا يفطن إليه الجانب الإسرائيليّ في المعادلة، وهو التباس ثنائيّة إسرائيليّ/ يهوديّ في الذهنيّة العربيّة والفلسطينيّة؛ هل يُنظر إلى العبريّة حاليًّا بوصفها لغة 'إسرائيل' أم لغة اليهود التي كانت تعيش في تجاور شديد مع العربيّة في العصور الذهبيّة؟ تُعَدّ هذه المسألة في غاية الأهميّة، إذ لطّخت إسرائيل، في نظر الغالبيّة الساحقة من العرب والفلسطينيّين، العبريّة التاريخيّة وسبغتها بألوان العلم الإسرائيليّ المعاصر الذي يعني أكثر ما يعني الاحتلال والنكبة. من هنا، يقود هذا الالتباس مرّة أخرى إلى نقطة المشروعيّة الآنفة. إنّها دائرة من الالتباسات والمآزق، تضع ترجمة العربيّة إلى العبريّة على محكّ الراهن والمتغيّر والسياسيّ، وهذا سياق إشكاليّ دائمًا في مجال يسعى إلى تعزيز الفهم المتبادل على أسس جماليّة وثقافيّة تبدو للوهلة الأولى خارج السياق السياسيّ.

احتجاج مربح

عندما بدأت ياعيل ليرر مشروعها الطلائعيّ والمتميّز، دار نشر 'أندلس'، لترجمة الأدب العربيّ إلى العبريّ، خارج دوائر الاستشراق ونظريّة أو براديم 'اعرف عدوّك'، كانت بحاجة (حتّى هي، الناشطة السياسيّة الثوريّة بحقّ) إلى صكّ شرعيّة أو نصّ تستطيع أن تؤسّس مشروعها عليه قبالة العالم العربيّ: نصّ من إدوارد سعيد نفسه. لم تنبع هذه الحاجة من فراغ، فالأدباء العرب لم يكونوا وقتها قادرين على التعامل مع العبريّة كلغة وثقافة خارج نطاق الصراع التاريخيّ، ولم تكن دولة إسرائيل تاريخيًّا، حتّى بأجهزتها الثقافيّة والأكاديميّة، قادرة هي الأخرى على تجاوز هذا السياق، وبالتالي كانت هناك ضرورة كبرى لنفي التهمة المُعدّة سلفًا بالتعاون مع دار 'أندلس' الإسرائيليّة، وهذا ما سعى سعيد إليه.

العالم العربيّ عالم كبير ومتشعّب ولا يمكن وسمه بأيّ صفة تكون مشتركة للجميع، زدْ على ذلك أنّ الكثير من الأنظمة العربيّة ناهضت إسرائيل ومشروعها على الملأ، في حين كانت تجري معها تنسيقات وتعاونيّات أمنيّة واقتصاديّة وسياسيّة في الخفاء. لكنّ أشرس الحملات المعادية للتطبيع الثقافيّ مع إسرائيل جاءت بالذات من الدولتين اللتين أبرمتا معها اتفاقيّتي سلام: مصر والأردنّ. لقد طبّع نظاما هاتين الدولتين مع إسرائيل في كلّ المناحي المهمّة بالنسبة لها؛ الأمن والتجارة والصناعة والاقتصاد، وبرزت حاجة لتوفير منصّة احتجاجيّة تنفيسيّة لدى النخب في هاتين الدولتين ضدّ التطبيع واتفاقيّات السلام، فسمح النظامان بتطوير حملات كبيرة وشرسة - ما زالت تجري حتّى اليوم - ضدّ التطبيع الثقافيّ. أنا لا أدّعي أنّ التطبيع الثقافي شرعيّ، أبدًا، لكن علينا قراءته من خلال سياقه الذي نشأ فيه. تشير مناهضة التطبيع الثقافيّ مع إسرائيل إلى أمرين متناقضين صارخين: رفض النخب لمثل هذا التطبيع رفضًا قاطعًا وحاسمًا، وموافقتها من جهة أخرى على غضّ الطرف عن التطبيع الأهمّ استراتيجيًّا لدولة إسرائيل، احتجاج مربح للنخب وللأنظمة على حدّ سواء.  

إلى جانب كلّ ذلك، علينا أيضًا تشخيص مستويات الكراهية والريبة التي تأصّلت لدى الشعوب العربيّة ضدّ إسرائيل ومشروعها الصهيونيّ الكولونياليّ في فلسطين التاريخيّة، فثمّة خلط كبير سائد في المجتمعات العربيّة بين 'إسرائيل' أو الصهيونيّة وبين اليهود واليهوديّة، ينبع من تصوير إسرائيل ذاتها بأنّها 'الناطق الرسميّ والوحيد' ليهود العالم واليهوديّة، الأمر الذي يفضي بالتالي إلى المساواة بين العبريّة كلغة والصهيونيّة ونشاطاتها المقيتة من احتلال وقتل ومصادرة.

الاعتراف بالغربة القائمة

كلّ هذه الأمور مجتمعة، تجعل أيّ مبادرة للترجمة بين اللغتين عرضة لهجمة كبيرة وقاسية من الجانب العربيّ، تفضي إلى حالة من الجزع لدى الأدباء والأديبات من ترجمة نصوصهم إلى العبريّة. وهنا سأطرح السؤال الذي يهمّني في هذا السياق، والذي بدأت به: هل هناك ترجمة من العربيّة إلى العبريّة يمكن أن تكون خالية من كلّ المطبّات المذكورة أعلاه؟ الجواب هو لا طبعًا. إذًا، ماذا يمكن للمترجم (اليهوديّ) أن يفعل في هذه الحالة؟

ثمّة الكثير من النصائح العمليّة في هذا السياق، لكنّ أهمّها في نظري هو الاعتراف بالغربة القائمة بين اللغتين وعدم محاولة طمسها بواسطة آليّات أو خطاب أو مفردات تسعى نحو الجماليّة الخالصة. من شأن مثل هذه المحاولة أن تؤذي الترجمة نفسها وتؤذي أيّ مشروع ثقافيّ ينشط من أجل تعزيز هذه الترجمة. السياق السياسيّ والتاريخيّ للّغتين ولتاريخ المنطقة هو سياق حتميّ ولازم من أجل مَوْضَعَة هذه الترجمات في مكانها الأهمّ: مساعدة الناس على التحدّث مع بعضهم البعض، على الرغم من غربتهم، وليس عن طريق إخفاء هذه الغربة ومحاولة طمسها درءًا للإحراج. حتّى هذه النصيحة، بحدّ ذاتها، لا يمكن أن تُقرأ إلّا من خلال موقف ثقافيّ/ سياسيّ/ أخلاقيّ لدى كاتب هذه السطور الفلسطينيّ، فليس ثمة إمكانيّة لمجرّد الحديث عن الترجمة بين اللغتين من دون تحديد مثل هذا الموقف المتعلّق بالإسرائيليّين وإسرائيل والعبريّة الجديدة التي نشأت في القرن العشرين، فقد أنجبت هذه العبريّة 'خربة خزعة' ونير برعام وداليا رافيكوفتش، لكنّها أنجبت أيضًا 'إفتخ باب!' و'جيب الهويّة!' والأسس الأخلاقيّة المرشدة والملهمة لجيش الاحتلال، وعبريّة المسيحانيّة اليهوديّة المعاصرة.

المترجم الجيد هو الذي يتحكّم بروح العصر التي تُنتج اللغة التي يُترجم منها، أكثر من تحكّمه بالمفردات، وهذا أمر لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال اعتماد موقف ثقافيّ/ أخلاقيّ من الثقافة التي تُنتج هذه الروح، وعلى هذا الموقف أن ينعكس في أيّ مشروع ترجمة من العربيّة إلى العبريّة.

هذه هي الضمانة الوحيدة لنجاح مثل هذا المشروع على مستوى التطبيق وعلى مستوى النوايا، الأمر الذي يمكن أن يوفّر إجابة وافية لمسألة 'دافعيّة الترجمة'.

 

علاء حليحل

 

من مواليد قرية الجش في الجليل، ومقيم في عكّا. كاتب أدبيّ ومسرحيّ وصحافيّ ومترجم، حاصل على البكالوريوس في الاتصال الجماهيريّ والفنون الجميلة من جامعة حيفا، وخرّيج مدرسة كتابة السيناريو في تل أبيب. يعمل منذ سنوات طويلة في الصحافة المكتوبة والإذاعيّة وصحافة الإنترنت، وهو رئيس تحرير موقّع 'قدّيتا' للأدب والثقافة. من كتبه: 'أورُفوار عكّا' (رواية،  2014)؛ 'كارلا بروني عشيقتي السرّيّة' (مجموعة قصصيّة، 2012 و2016). له عدّة مسرحيّات وسيناريوهات سينمائيّة. حائز على جوائز عديدة، أبرزها: جائزة غسّان كنفاني للقصّة القصيرة، جائزة فلسطين الدوليّة عام 2013؛ جائزة 'بيروت 39' عام 2010؛ جائزة عبد المحسن القطّان ثلاث مرّات.

التعليقات