13/08/2017 - 02:03

"الكتابة للحقيقة": هل من شيء غير إرادة القوّة في هذا العالم؟

أعمدة هرقل في جبل طارق: بل يوجد شيء بعدها

'الكتابة للحقيقة: تنظيرات وإبداعات عربيّة حديثة كثقافة' (الفارابيّ، 2017) كتاب مميّز في تنوّعه وتعدّد طروحاته، من فلسفيّة، وأدبيّة، واجتماعيّة – سياسيّة، والحديث عنه يتّصل بالمجال النظريّ، والمنهجيّ، والتطبيقيّ، حتّى إنّه لا يمكن أن نحيط بكلّ هذا في هذه المداخلة، ولذا فإنّنا سنقصر الحديث على مجموعة نقاط عامّة، انتقائيّة، نراها ذات دلالة على توجّهات الكتاب بمجمله، من دون الدخول في تفاصيل الإبداعات المدروسة، والمقاربات المنهجيّة.

التنوّع

أوّل ما يلفت الانتباه في الكتاب التنوّع في الموضوعات التي يتناولها؛ فمن نقاش مع عبد الله الغذّامي، أبرز أعلام النقد الثقافيّ في اللغة العربيّة، إلى أدونيس، والخرّاط، والكاتب المسرحيّ المغربيّ عبد الكريم برشيد، في كتاباتهم النظريّة عن الحداثة وتجلّياتها في فنّ الشعر، والقصّة، والمسرح، إلى أخناتون نجيب محفوظ مكوّنًا مركزيًّا في توجّه الكتاب.

عبد الله ّالغذّامي (1946 - )

بعد ذلك، ينتقل الكتاب إلى دراسة المسرح ممثّلًا بالماغوط ودريد لحام، ثمّ إلى نشاط زياد الرحباني في هذا المجال، معرّجًا على أعماله مع فيروز، وذلك على خلفيّة أعمال عاصي ومنصور ومسرحهما الغنائيّ، وتحليل لأغنية 'ع هدير البوسطة'، ونقل زياد لأغاني فيروز إلى عالم مختلف عن عالم الرحابنة الرومانسيّ. وينهي الكتاب هذا الفصل عن المسرح بدراسة تجربة سعد الله ونّوس.

يخصّص الكتاب بعد ذلك ثلاثة فصول للشعر، يتناول فيها نصوصًا شعريّة لطه محمّد علي، ونزار قبّاني في شعره الاحتجاجيّ، ومحمود درويش. لينتقل بعد ذلك إلى دراسة كاريكاتير ناجي العلي، ثمّ الخطاب السينمائيّ الفلسطينيّ في 'عرس الجليل' (1987) لميشيل خليفي، و'سجلّ اختفاء' (1996) لإيليّا سليمان، و'درب التبّانات' (1997) لعلي نصّار.

فيكون حمدان قد جمع في مجال دراسة الإبداعات بين القصّة، والمسرحيّة، والمسرحيّة الغنائيّة، والأغنية، والشعر الحديث، والكاريكاتير، والسينما، وهذه الثقافة الشاملة التي يقدّمها غير معهودة في الدراسات التي نعرفها.

تسبق هذه الفصول، وتعقبها، وتتخلّلها، كتابات تعرض توجّهات ومواقف في إطار النقد الثقافيّ، والنقد الأدبيّ، والمواقف الفلسفيّة والاجتماعيّة.

لا ننسى الإشارة إلى أنّ الفصول تبدأ باقتباسات لمفكّرين، وفلاسفة، ودارسين، هي جزء من عتبات النصّ، أو النصوص الموازية بتعبير جيرار جنيت (Gérard Genette, 1930)، ويمكن تخصيص حديث كامل حول هذه النصوص وعلاقة التناصّ بينها والمضامين المطروحة في الكتاب، والفلسفات والتجارب الثقافيّة الغنيّة التي تشكّل معتمدات للتحليل الوارد فيه؛ فكلّ كتابة تستحضر كتابة سابقة، ولا تنشأ من فراغ، وقد دلّ جنيت على هذا بالمصطلح Palimpsestes، الذي تُرجم إلى 'أطراس' باللغة العربيّة، جمع طِرس، وهو الصحيفة أو الكتاب الذي يُمحى ويستخدم للكتابة ثانية، فلا تُمحى الكتابة السابقة نهائيًّا، ويبقى أثرها في الكتابة اللاحقة، ودلّ بذلك على علاقة التناصّ بين كلّ نصّ حاضر ونصوص سابقة يتقاطع معها.  

جيرار جنيت (1930 - )

لهذا التنوّع دلالات بالغة الأهمّيّة، فبالإضافة إلى إحاطة الكاتب بهذه التشكيلة من الاتّجاهات الفنّيّة، والنظريّة، والمنهجيّة، لا بدّ من النظر إليه على خلفيّة سياق الخطاب الأكاديميّ المعاصر أيضًا، الذي يرى التخصّص في التفاصيل نواة الثقافة الأكاديميّة المعاصرة؛ فالمتخصّص في أقسام اللغة العربيّة في الجامعات مثلًا، يتخصّص في فرع من الفروع، كالأدب القديم أو الحديث، ثمّ ينقسم هذا إلى فنّ الشعر وفنّ القصّة، ولا ننسى اللسانيّات، والمسرح، والفلسفة، إلى غير ذلك، والكتاب بهذا المعنى ثورة على المتعارف عليه أكاديميًّا،  ويرى الكاتب أنّ التقسيم المتعارف عليه بين الفكر والفنّ، وكذلك بين الأنواع الفنّيّة على اختلافها، تقسيم غير صحيح، لأنّ هذه المجالات تدخل جميعها ضمن النشاط الثقافيّ الإنسانيّ، وينبغي النظر إليها، والحكم عليها بصفتها ممثّلة لثقافة ما، ونتاجًا لمواقف إنسانيّة سابقة لها. والدراسات الثقافيّة بعامّة، تعرض هشاشة التخوم التقليديّة بين المناهج، وقيام صيغ بحثيّة متداخلة، لا تنضوي، أو لا تستطيع أن تنضوي تحت قيود التقسيم القائم للمعرفة، بحسب اقتباس الكاتب عن ستيوارت هول (ص 18).

وبكلمات الكاتب: 'فإنّ الشعر، والنثر، والدراما التلفزيونيّة، والكاريكاتير، والمسرح، والسينما، كلّها بمثابة فضاءات إبداعيّة، تسائل وتعيد تشكيل الهويّات الفرديّة والجماعيّة من جديد' (ص 26).

الوحدة

هذا التنوّع الكبير لا يفقد الكتاب تماسكه، بل على العكس من ذلك، إذ ثمّة رابط يجمع كلّ النصوص المدروسة، في معادلة القوّة والحقيقة، أو الخطاب المهيمن والخطاب المهمّش.

يقتبس الكاتب بداية الكتاب قولًا لنيتشه: 'هذا العالم هو عالم إرادة القوّة – ولا شيء غيره'.

حتّى الصراع بين الخطابين المهيمن والمهمّش، صراع على السلطة والهيمنة، لكنّ الكتاب يحاول أن يستشفّ وجهًا آخر للصراع خارج إرادة القوّة، وهو إرادة الحقيقة، لا لمنفعة، ولا من أجل التسلّط، بل من أجل الحقيقة لذاتها، وقد يدفع الباحث عن الحقيقة ثمنًا باهظًا نتيجة التزامه بها. وتشكّل قصّة أخناتون نموذجًا أعلى لهذا التوجّه، وذلك لتنازله عن القوّة من أجل الحقيقة، ولهذا فليس صدفة أن تظهر صورة تمثال أخناتون على غلاف الكتاب الخارجيّ، وأن يبدأ الكتاب ببرولوغ يتناول أخناتون محفوظ، 'العائش في الحقيقة'.

أخناتون (ت 1336 ق.م تقريبًا)

يصدر الكتاب، بهذا المعنى، عن خطاب فلسفيّ مواز لخطاب نيتشه، أو مناقض له، مع أنّ الكاتب يرى في نيتشه، على الرغم من استنتاجاته حول الصراع على القوّة، باحثًا عن الحقيقة أيضًا، لذاتها بوجه ما، وذلك في تشخيصه العلاقات الاجتماعيّة البشريّة. هذا العالم، وفق نيتشه، وكما أسلفنا، عالم إرادة القوّة ولا شيء غيرها، إلّا أنّ حمدان يقول: بل يوجد شيء غيرها، يوجد خطاب مهمّش رافض، طالب للحقيقة لا للسيطرة، وهذا يذكّرنا بالموتو الإسبانيّ Plus Ultra (بمعنى يوجد بعده)، على خلفيّة العبارة non Plus Ultra (بمعنى لا شيء بعده)، التي وصف بها الرومان نهاية العالم القديم عند أعمدة هرقل (جبل طارق)، لتدلّ على أنّ العالم ينتهي هناك، و'لا يوجد شيء بعدها'، فبدّلها الإسبان بـ 'يوجد شيء بعدها'، ويمثّل ذلك، من بين ما يمثّل، المجازفة، وتحدّي العرف السائد، والخروج عليه، واكتشاف حقائق تبيّن خطأه.

يطمح الكتاب، كما يقول الكاتب، إلى تعقّب 'أشكال ومظاهر معادلة ‘القوّة والحقيقة‘ في بعض الأعمال لمنظّرين ولمبدعين عرب، اتّخذت تنظيراتهم وإبداعاتهم بالمعنى العامّ وجهة أخناتون الفلسفيّة وطريقه...' (ص 62)، ويتعرّض تحديدًا لأنساق الرفض، والمعارضة، والمقاومة، والتمرّد في هذه الأعمال. فالنصوص المدروسة نصوص متمرّدة، مناضلة من أجل الحقيقة، يضحّي أصحابها بقوّتهم من أجلها، فهم غير امتثاليّين بامتياز، ومتمرّدون بغير منفعة ذاتيّة، وتشكّل كتاباتهم على نحو ما صوت الضمير الحيّ الذي يرفض الظلم، والغبن، والزيف.

وبكلمات الكتاب: 'هي نصوص رافضة، ومتمرّدة، وناقدة، ومقاومة لأشكال، وأنماط، وأفكار، وسلوكيّات، بعضها شائع وبعضها الآخر مهيمن. الكتابة للحقيقة في هذا السياق هي جماليّات الاحتجاج، والرفض، والتمرّد، والنقد، والمقاومة لوضعيّات بشريّة، ولمنظومات فكريّة، وسياسيّة، واقتصاديّة لا تروق المنظّر أو المبدع، لكونها محكومة من وجهة نظره بعلاقات من القوى القسريّة التي تفتقر إلى الحسّ الإنسانيّ بضرورة رفع الضيم والظلم عن أفراد وفئات مقموعة بحكم تلك العلاقات. أمّا الثقافة النقديّة، فهي نتاج الرغبة في العيش في الحقيقة، أو أقلّه في الكتابة لها، وهي تحوي كلّ مظهر ثقافيّ إبداعيّ محتجّ، ورافض، ومتمرّد، ومقاوم' (ص 25).

بين الموضوعيّة والذاتيّة

إنّ تبنّي وجهة نظر شخصيّة، والانتماء الفكريّ إلى مجموعة دون أخرى، يطرح إشكاليّة الموضوعيّة والذاتيّة في الدراسة الثقافيّة، بصفتها دراسة علميّة.

طمحت الدراسات الأدبيّة، مثلها مثل الدراسات الإنسانيّة بعامّة، إلى الكتابة العلميّة الموضوعيّة، متّخذة العلوم الدقيقة نموذجًا يُحتذى به، وقد يكون نشوء المنهج البنيويّ وسيطرته في التحليل الأدبيّ غاية تطوّر هذا الطموح. رأى هذا المنهج النصّ مادّة بحثيّة محدّدة، تقوم بين كلماتها وجملها شبكة من العلاقات، ووظيفة الباحث كشف هذه العلاقات للوصول إلى المعنى. وليبعد إمكانيّة تعدّد المعاني والقراءات، أقام هذا المنهج قطيعة بين النصّ، ومبدعه، وسياقه التاريخيّ والفكريّ والاجتماعيّ، وهو ما يعرف بتحليل النصّ من الداخل أيضًا.

أدونيس (1930 - )

ما لبث هذا المنهج أن أخلى الصدارة بعد نشوء تيّار ما بعد الحداثة، الذي أعاد النصّ إلى سياقه من جهة، ورأى في القارئ سلطة مؤوّلة للنصّ وفق مخزونه الثقافيّ وزاوية نظره، وعليه تعدّدت احتمالات تفسير النصّ كتعدّد قرّائه، وهذا هو معنى قول أدونيس إنّ الحداثة نقلت النصّ الشعريّ من الحتميّة إلى الاحتمال.

أبقت الدراسات الأدبيّة الأكاديميّة، رغم ذلك، على التزامها بالموضوعيّة، بمعنى أنّها تستبعد موقف الدارس الشخصيّ، وذوقه، وانتماءه الاجتماعيّ - السياسيّ، إلى غير ذلك من الأمور الذاتيّة.

'الكتابة للحقيقة' كتاب يرفض بوعي هذه الموضوعيّة ويراها زائفة. يقول الكاتب: 'قد يفضي التحليل... إلى فهم أشمل لموضوع البحث، على الرغم من الانتقائيّة والذاتيّة، أو قل ربّما بسبب عدم التنكّر لهما. ففي نهاية المطاف، لا يخلو أيّ بحث من هذين العنصرين، بل قل، قد يخلو من الاعتراف بوجودهما فحسب' (ص 19).

ويشير في الكتاب 'إلى طموح الدراسات الثقافيّة للتغيير الثقافيّ، والتزامها الأخلاقيّ تجاه الطبقات المستضعفة والمهمّشين، كونها كاشفًا للخطاب المهيمن بامتياز. من هنا، فإنّ الدراسات الثقافيّة هي منهجيّة مسيّسة، لأنّ الثقافة هي ليست فقط موضوعًا للبحث، بل موضع للنقد والتدخّل السياسيّ. في ذلك يقول باركر: ’ليست المعرفة هنا ظاهرة حياديّة أو موضوعيّة، بل هي قضيّة موقف وتموضع صحيح' (ص 20 – 21). 

إذًا، ثمّة في الدراسات الأدبية ذاتيّة مقنّعة بالموضوعيّة، وعند حمدان هي ذاتيّة معلنة، صادرة عن قناعة بالموقف من الحياة والصراعات القائمة، والانتماء المعلن إلى أحد طرفي الصراع. يمكن قبولها، ويمكن رفضها، لكن لا يمكن تجاهل صدقيّتها الإبداعيّة.

يناسب هذا ما اقتبسه عن ناجي العلي وما جاء في التعقيب عليه، إذ يقول العلي: 'أنا منطقة محرّرة ليست مجيّرة لأيّ مؤسّسة أو نظام. [أنا] متّهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها... أنا لست محايدًا، أنا منحاز لمن هم ’تحت‘... الذين يرزحون تحت نير (لمن هم ضحايا) الأكاذيب، وأطنان التضليلات، وصخور (وصنوف) القهر والنهب، وأحجار السجون والمعتقلات' (ص 321).

من رسومات ناجي العلي | السفير، بيروت (14 نيسان 1982)

ويعقّب حمدان: 'هذا القول يؤكّد بوضوح على رفض المبدع الناقد لكلّ أشكال ’الموضوعيّة‘ الجافّة، متبنّيًا خطابًا مؤدلجًا نابعًا من حقيقته كما يراها هو. الانحياز هنا لفئة المسحوقين، والمقموعين، والمقهورين، والمنهوبين، لمن وُضع ’تحت’ أو أُقصي من طرف مَنْ وضع نفسه ’فوق’ واحتكر الحرّيّة تضليلًا. هذا الصراع على المعنى بين فئتين هو في جوهره نسخة جديدة لنفس الصراع الذي ظهر في رواية محفوظ بين أخناتون والكهنة' (ص 321).

حساسيّة مزدوجة

لا يمكن إيفاء هذا الكتاب حقّه، لأنّ ذلك يحتاج إلى جهد كبير، يوازي الجهد الذي بذله حمدان في كتابته. إنّ هذا الكتاب حصيلة تراكم ثقافيّ، وجهود متواصلة على مدى سنوات، ولا يمكن أن يكتبه شخص متعمدًا الكتابة في مدّة عادية.

وممّا يميّزه أيضًا، أنّه يعبّر عن حساسيّة مزدوجة؛ فحمدان يجمع بين الثقافة النقديّة والدراسة الأدبيّة من جهة، والإبداع الأدبيّ من جهة ثانية، ولا يمكن أن تفصل بين الاثنين، ولا أن تميّز أين يخفت صوت أحدهما ليعطي حقّ الكلام للآخر.

وقد يكون هذا سبب ظهور صوت مميّز في الكتاب، جاء ليقول كلمته على خلفيّة حصيلة ثقافيّة شاملة وهائلة، وليسجّل موقفًا فكريًّا ومنهجيًّا متماسكًا، فلا ينصاع لفكرة الاكتفاء بعرض الأشياء كما هي، ولا أدري إن كان هذا ممكنًا أصلًا.

 

محموط مصطفى

 

من مواليد دالية الكرمل عام 1948، حاصل على البكالوريوس في اللغة العربيّة والجغرافيا من جامعة حيفا، والماجستير في اللغة العربيّة من الجامعة نفسها. مدير عامّ مجمع اللغة العربيّة في الناصرة. له تجربة طويلة في التدريس. ساهم في إعداد العديد من الكتب التدريسيّة وصياغة المناهج. ترجم كتبًا من العبريّة،و نشر مقالات علميّة في مجال تخصّصه.

 

التعليقات