بعد أكثر من عام من الحصار والكرّ والفرّ، شنّت قوات الدعم السريع هجومًا واسع النطاق على مدينة الفاشر، مستهدفة مقرّ الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني، وهو الموقع الذي ظلّ طوال الحرب رمزًا لصمود الجيش في إقليم دارفور ومعقلاً رئيسيًا لقياداته العسكرية والإمدادية. في الساعات الأولى من صباح الأحد، السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2025، اندلعت في مدينة الفاشر واحدة من أعنف المعارك منذ اندلاع الحرب السودانية في الخامس عشر من إبريل/نيسان 2023. اخترقت وحدات الدعم السريع خطوط الدفاع الشمالية الغربية للمدينة، وتمكنت من التقدّم إلى داخلها والسيطرة على أجزاء من المقرّ العسكري وبعض الأحياء السكنية المجاورة، فيما انسحبت القوات الحكومية إلى مواقع داخلية في ما وصفته مصادر عسكرية بإعادة تموضع تكتيكية استعدادًا لهجوم معاكس.
هجوم عنيف ومخطط
ترافق الهجوم الذي بدأ بقصف مدفعي كثيف مع استخدام الطائرات المسيّرة، التي أحدثت نقلة نوعية في مسار المعركة، وشكّل تتويجًا لاستراتيجية طويلة الأمد اتبعتها قوات الدعم السريع منذ ربيع العام الماضي، تقوم على عزل المدينة تمامًا عن محيطها، وقطع خطوط الإمداد، واستنزاف قدرات الجيش من خلال القصف المتكرر للمواقع العسكرية والأحياء المدنية على حد سواء. وبتتبع مسار المعارك في المنطقة، فقد شهدت الفاشر أكثر من 268 معركة متقطعة منذ اندلاع الحرب، ما جعلها أكثر المدن السودانية تعرّضًا للقتال والقصف. غير أن هجوم السادس والعشرين من أكتوبر بدا مختلفًا في حجمه وتنسيقه، إذ شاركت فيه تشكيلات متعددة من الدعم السريع، إلى جانب فصائل مسلّحة ومرتزقة متحالفة معها ضمن ما يُعرف بتحالف السودان التأسيسي، الذي يضم حركات الطاهر حجر، والهادي إدريس، وسليمان صندل، وعبد العزيز الحلو، وهو التحالف الذي أسّس حكومة موازية تتخذ من مدينة نيالا، عاصمة جنوب دارفور، مقرًا لها.
من الناحية العسكرية، يُمثّل سقوط مقرّ الفرقة السادسة نقطة تحوّل نوعية في ميزان القوى في دارفور؛ فعلى اعتبار أن المقرّ لم يكن مجرد ثكنة عسكرية، بل مركز قيادة وسيطرة وإمداد لعمليات الجيش في الإقليم بأسره؛ فإن ذلك يعني انهيار آخر بنية تنظيمية متماسكة للجيش في غرب السودان، وفتح الطريق أمام الدعم السريع لإحكام قبضتها على كامل الإقليم الممتد من زالنجي حتى الحدود التشادية والليبية. وبذلك تكتمل سيطرة الدعم السريع على أربع من أصل خمس ولايات في دارفور، في حين تصبح الفاشر خاتمة سلسلة التمدّد العسكري الذي بدأ منذ أيار/مايو 2023.

لكن أهمية الهجوم لا تقتصر على بعده الميداني، بل تمتد إلى دلالاته العسكرية والأمنية العميقة؛ فالفاشر ليست مجرد مدينة استراتيجية، بل رمز سياسي وعسكري للمركز في مواجهة الأطراف، وهي آخر الحصون التي ظلّت تُجسّد فكرة الدولة السودانية الموحدة في الغرب؛ لذلك فإن خسارتها تُمثّل ضربة معنوية قاصمة للجيش وقيادته، وتُترجم في الوقت ذاته طموح الدعم السريع في التحوّل من قوة متمرّدة إلى سلطة أمر واقع تملك الأرض والسكان والموارد. ولهذا وصفت قيادة الدعم السريع انتصارها بأنه "محطة مفصلية في طريق بناء الدولة الجديدة التي يتشارك فيها جميع السودانيين"، في إشارة واضحة إلى مشروع سياسي يسعى لتكريس واقع انفصالي، أو في الحد الأدنى نظامًا فيدراليًا موسّعًا يقوم على توزيع مراكز الحكم بين الشرق والغرب.
عمومًا، يبدو المشهد الميداني بعد ساعات من الهجوم ملتبسًا؛ فبينما بثّت قوات الدعم السريع مقاطع فيديو تُظهر مقاتليها داخل مقرّ الفرقة يرفعون شعارات النصر ويلتقطون الصور، أكدت مصادر عسكرية أن الجيش انسحب من المقرّ قبل وصولهم وأعاد نشر قواته داخل المدينة لبدء هجوم مضاد، ما يعني أن السيطرة المعلنة لم تكن كاملة بعد. ومع ذلك، فإن تفوّق الدعم السريع في العتاد والتحرك السريع داخل المدينة يشير إلى أن المعركة دخلت مرحلتها الأخيرة، وأن الفاشر باتت محاصرة من جميع الجهات، فيما يعيش المدنيون تحت نيران القصف، وانقطاع الاتصالات، وانهيار الخدمات. حتى مساء الأحد، بقيت هذه المعلومات صالحة ومنطقية، إلى أن وصل إعلان دخول المدينة والسيطرة عليها، وانسحاب الجيش منها مع إعلان الدعم السريع "تطهير المدينة بالكامل"، وانتقالهم للسيطرة عليها.
المنظور السياسي للعملية
في العمق، يمكن قراءة ما يجري في الفاشر بوصفه نتيجة منطقية لمسار الحرب خلال العامين الماضيين؛ إذ إنه منذ انهيار اتفاق جوبا للسلام وتفكّك التحالفات بين المركز والحركات المسلّحة، نجحت قوات الدعم السريع في بناء شبكة تحالفات قبلية وسياسية في دارفور، مكّنتها من فرض نموذج إداري موازٍ للحكومة المركزية. هذه التحالفات منحتها غطاءً اجتماعيًا لتجنيد المقاتلين وإدارة الموارد، خصوصًا في ظل غياب الدولة وتهالك مؤسساتها. ومع انشغال الجيش بحماية الخرطوم والمناطق الشمالية، تحوّلت دارفور تدريجيًا إلى مسرح نفوذ حصري للدعم السريع، الذي استفاد من الحدود المفتوحة مع تشاد وليبيا لتأمين الإمدادات اللوجستية والأسلحة والوقود، ما سمح له بالتحرك بحرية غير مسبوقة.
وبينما تجري في واشنطن محادثات غير مباشرة بين ممثلين عن الجيش والدعم السريع بوساطة أميركية، تسعى الأخيرة إلى تحسين موقعها التفاوضي عبر فرض أمر واقع ميداني قبل الدخول في أي تسوية محتملة؛ لذلك فإن العملية العسكرية لم تكن مجرد ردّ فعل ميداني، بل جزءًا من استراتيجية سياسية لإعادة رسم خريطة السيطرة، واستخدام دارفور كورقة تفاوض في أي حلّ سياسي قادم. ويبدو أن مشاركة عبد الرحيم دقلو، شقيق قائد الدعم السريع حميدتي، في قيادة الهجوم تعكس الأهمية الرمزية التي توليها القيادة لهذه المعركة باعتبارها فاصلًا بين مرحلتين: تتمثّلان بمرحلة الصمود العسكري ومرحلة التأسيس السياسي.

مع ذلك، فإن السيطرة على الفاشر لا تعني نهاية الحرب، بل بداية فصل أكثر تعقيدًا منها؛ فإدارة مدينة بهذا الحجم، تضم نحو تسعين حيًا وقرابة المليون نسمة بين سكان ونازحين، تحتاج إلى قدرات تنظيمية وإدارية ليست متوافرة بعد لدى الدعم السريع؛ كما أن البنية القبلية والاجتماعية المتشابكة في شمال دارفور، ووجود مجموعات مسلّحة صغيرة موالية للجيش، قد يجعل من السيطرة تحديًا مستمرًا يفتح الباب أمام مقاومة محلية أو تمردات فرعية. وإلى جانب ذلك، فإن فقدان الجيش لآخر معاقله في دارفور سيجعل خطوط دفاعه في كردفان أكثر هشاشة، ما يهدد بامتداد الصراع نحو الوسط، ويحوّل الحرب من مواجهة ثنائية إلى حرب متعددة الجبهات والمصالح.
ربما سيؤدي هذا التحوّل إلى إعادة تموضع إقليمي ودولي حول طبيعة الصراع؛ إذ إن الدول المجاورة، وعلى رأسها تشاد وليبيا، ستتعامل مع الدعم السريع باعتباره القوة المسيطرة فعليًا على غرب السودان، بينما ستجد القوى الدولية نفسها أمام واقع جديد يفرض إعادة التفكير في وحدة السودان ومصير حدوده، وإمكانية تقسيمه أكثر مما هو عليه الحال الآن. ومن المرجّح أن تحاول واشنطن وشركاؤها استثمار هذا الواقع لدفع الطرفين نحو تسوية سياسية، إلا أن ميزان القوة الميداني سيجعل أي مفاوضات غير متكافئة، خصوصًا بعد أن أصبحت دارفور بثرواتها وممراتها الحدودية تحت سيطرة طرف واحد.
تعميق المأساة الإنسانية
على الصعيد الإنساني، تحوّلت الفاشر إلى واحدة من أسوأ بؤر الكارثة في السودان؛ فالحصار المستمر منذ أكثر من عام جعل الحياة اليومية شبه مستحيلة، إذ إن المستشفيات تعمل بطواقم محدودة، والدواء نادر، والغذاء يُهرّب بكميات ضئيلة عبر طرق ترابية محفوفة بالمخاطر. وقد أعلنت شبكة أطباء السودان مقتل أحد كوادر التمريض وإصابة ثلاثة من العاملين أثناء قصف استهدف مستشفى الفاشر خلال الهجوم، فيما تحدثت منظمات أممية عن مخاطر مجاعة وشيكة تهدد مئات الآلاف من النازحين في المدينة ومحيطها. ومع اقتراب الدعم السريع من إحكام السيطرة، تتزايد المخاوف من موجات انتقام وفوضى قد تُضاعف المأساة الإنسانية. وفي خضم هذا كله، يظل المدنيون الحلقة الأضعف. فالمعركة التي بدأت بشعارات “الحرية والعدالة” تحوّلت إلى صراع نفوذ قاسٍ تُستخدم فيه المدن رهائن والمواطنون دروعًا بشرية. وبينما تُعلن البيانات عن “تحرير” المدن، يهرب سكانها من تحت الأنقاض، في مشهد يلخّص مأساة حرب لا منتصر فيها. إن سقوط الفاشر، إن تمّ، لن يكون مجرد انتصار عسكري لقوة على أخرى، بل علامة على انكسار فكرة الدولة نفسها، وتحوّل السودان إلى فسيفساء من السلطات المحلية والمليشيات التي تتقاسم الأرض وتعيد إنتاج المأساة.
عمومًا، في الأيام المقبلة سيتضح ما إذا كانت الفاشر ستتحوّل إلى مقرّ جديد لسلطة أمر واقع في الغرب، أم ستظل ساحة مفتوحة لصراع طويل يستنزف الجميع. لكن المؤكد أن السادس والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2025 سيُسجَّل بوصفه يومًا مفصليًا في الحرب السودانية، وربما سيكون اليوم الذي تغيّرت فيه ملامح دارفور، وربما خريطة السودان بأكملها.
التعليقات