ليس واضحًا حجم الضغط الذي يمارسه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، من أجل وقف الحرب على غزة، بالرغم من التقارير التي تتحدث عن ضغوط أميركية كهذه.
والادعاء الذي نقلته صحيفة "واشنطن بوست"، الإثنين الماضي، عن مصدر في البيت الأبيض بأن إدارة ترامب حذّرت نتنياهو من أن الولايات المتحدة ستتخلى عن دعمها لإسرائيل إذا لم يُنهِ الحرب، لا يدل على أن هذا تهديد حقيقي، لأنه صدر عن مصدر مجهول "طلب عدم ذكر هويته"، ولأن تخلّي الولايات المتحدة عن إسرائيل يتعارض مع المبدأ الأساسي للسياسة الأميركية في المنطقة. إذ من شأن تخلٍّ كهذا أن يدفع دولًا أوروبية باتت تنتقد إسرائيل بشدة بسبب الحرب إلى وقف دعمها لإسرائيل. وهذه تهديدات فضفاضة، لأنها تعني تنازل الغرب عن مصلحته في وجود إسرائيل في المشرق، وبدء أفول إسرائيل، وهذا أمر مستبعد.
وإسرائيل كدولة تصاعدت عدوانيتها كثيرًا خلال الحرب الحالية، متعلّقة بالغرب وبالولايات المتحدة خصوصًا، من ناحية الدعم العسكري وإمدادات الأسلحة، وكذلك من الناحية السياسية والاقتصادية. ومن دون هذا الدعم، الأميركي خصوصًا، ما كانت لتصعّد عدوانها بهذا الشكل، ليس في غزة فقط، وإنما في سورية ولبنان أيضًا.
بل إنّ نتنياهو لم يكتفِ بهذه العدوانية، وإنما سعى لإقناع إدارة بايدن، وبعد ذلك إدارة ترامب، بشن هجوم واسع ضد إيران يستهدف منشآتها النووية. ولم يطلب نتنياهو مشاركة أميركية في هجوم كهذا، وإنما أن تدافع عن إسرائيل من رد إيراني يتبع الهجوم. فخلال الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل، في نهاية نيسان/ أبريل من العام الماضي، اعترضت الجيوش الأميركية والبريطانية والفرنسية الغالبية العظمى من الصواريخ الإيرانية. ومن دون هذا الدفاع الغربي، لكانت إسرائيل في وضع صعب جدًا.
وترددت تقارير خلال الأسبوع الجاري عن أن نتنياهو ما زال يفكر بشن هجوم ضد إيران، فيما تجري الأخيرة مفاوضات مع إدارة ترامب حول اتفاق نووي جديد، وكذلك في الوقت الذي يطالب فيه ترامب بوقف الحرب على غزة. فهو لا يجد من يردعه عن عدوانيته.
وفيما يجري الحديث عن ضغوط غربية على إسرائيل كي توقف الحرب على غزة، بدا نتنياهو خلال مؤتمر صحافي نادر، عقده الأربعاء الماضي، أنه ليس متأثرًا بهذه الضغوط. فقد أعلن خلاله أنه سيوافق على إنهاء الحرب "بشروط واضحة: إعادة جميع المخطوفين، نفي قيادة حماس من القطاع، ونزع سلاح الحركة، والبدء بتنفيذ خطة ترامب في قطاع غزة"، أي خطة الترانسفير وتهجير سكان القطاع.
ويكرّر نتنياهو هذه الشروط منذ بداية الحرب، وحماس رفضتها. ولا يوجد سبب يدعو إلى الاعتقاد أن حماس ستوافق عليها الآن. ولا شك في أن نتنياهو يدرك ذلك جيدًا. فالمحللون العسكريون الإسرائيليون يكادون يجمعون على أن حماس لن تستسلم.
ووفقًا للمحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، فإن "الضغط العسكري الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي الآن في القطاع فقد الكثير من تأثيره، والإنتاجية الهامشية لأي جهد عملياتي من جانبنا تتراجع باستمرار".
وأضاف أن "الضغط الذي تمارسه علينا إدارة ترامب وأوروبا خصوصًا، وصل إلى ذروات تشكل خطرًا على المصالح الحيوية الأمنية والاقتصادية والسياسية الإسرائيلية. لقد تحوّلنا إلى مثيرين للاشمئزاز في الساحة الدولية من الناحية السياسية، ونفقد الشرعية الدولية للدفاع عن أنفسنا". وحذّر من أن إسرائيل "ستدفع أثمانًا باهظة مع مرور الوقت في جميع المجالات، وستشمل عقوبات اقتصادية وحظر أسلحة".
كان نتنياهو يُوصَف في الماضي بأنه قيادي براغماتي، لكنه أصبح عكس ذلك بعد أن شكّل حكومته الحالية التي أصبحت تحاصره بشدة بالغة. فإذا اتّجه نحو البراغماتية، وأوقف الحرب لأنها لا تعود بأي فائدة على إسرائيل، فسيسقطه حلفاؤه عن الحكم. لكنه كيميني متطرّف، يطبّق أفكار الفاشيين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ويفضّل مصلحته الشخصية، لأن هؤلاء فقط يقدّمون الدعم له، بعدما التصقت به تُهَم الفساد، وبات منبوذًا من غالبية الأحزاب الصهيونية.
الفلسطينيون غير مرئيين بالنسبة لإسرائيل
الإسرائيليون عمومًا، باستثناء قلة منهم، لا يرون إلا أنفسهم، حتى إنهم لا يرون الإسرائيليين الذين لا ينتمون إلى الإجماع في القضايا السياسية والأمنية، لذلك، بدت السياسة الخارجية والأمنية لحكومة بينيت - لَبيد التي تشكّلت في منتصف عام 2021 واستمرّت ولايتها سنة ونصف السنة، أنها استمرار لسياسة حكومات نتنياهو، رغم أن الأخير كان في المعارضة.
بالنسبة للإسرائيليين، الفلسطينيون غير مرئيين، كأنهم شفافون. وهم يرفضون رؤية الإبادة في غزة، وأنهم هم الذين يرتكبون هذه الجريمة، أو أنها تُرتكَب باسمهم. بل إنهم يستهجنون الذين يرون في ما يجري في غزة جريمة إبادة، ويهاجمونهم. وبعد إطلاق النار في واشنطن ومقتل اثنين، أحدهما إسرائيلي، خارج متحف يهودي، صباح الخميس، اعتبر الإسرائيليون أن هذه العملية ناجمة عن معاداة السامية، رغم أن منفذها صرخ: "الحرية لفلسطين".
بالمناسبة، هذا لا يسري على الفلسطينيين فقط، إذ ترفض إسرائيل حتى الآن الاعتراف بمذبحة الأرمن، على سبيل المثال. وبنظرهم، لا توجد جريمة إبادة في التاريخ سوى الهولوكوست التي ارتكبها النازيون، وإحدى أكبر جرائم الإبادة في التاريخ. لكن الإسرائيليين يواصلون تقمّص دور الضحية والتذرّع بمعاداة السامية في جميع جرائم الإبادة التي ارتكبوها ضد الفلسطينيين، منذ النكبة وحتى اليوم.
حتى إن وزراء إسرائيليين اتهموا رئيس حزب "الديمقراطيين"، يائير غولان، بأنه السبب وراء عملية إطلاق النار في واشنطن، بعد أن انتقد استمرار الحرب على غزة خلال مقابلة أجرتها معه الإذاعة العامة الإسرائيلية "كان"، الثلاثاء الماضي، وقال إن"إسرائيل في الطريق لتصبح دولة منبوذة بين الشعوب، مثلما كانت مرة جنوب أفريقيا (إبان نظام الفصل العنصري)، إذا لم تعد لتعمل كدولة عاقلة. ودولة عاقلة لا تخوض قتالًا ضد مدنيين، ولا تقتل أطفالًا كهواية، ولا تضع لنفسها أهدافًا لطرد السكان".
ورد غولان على الاتهامات ضده قائلًا إن "حكومة ’كهانا حي’ برئاسة نتنياهو تزوّد الوقود لمعاداة السامية وكراهية إسرائيل، والنتيجة هي عزلة سياسية غير مسبوقة وخطر على أي يهودي في أي بقعة في الكرة الأرضية".
لطالما تعالت في إسرائيل تحذيرات من تأثير جرائمها - وهي جرائم ضد الفلسطينيين بغالبيتها الساحقة - على الإسرائيليين والجاليات اليهودية في العالم، واستهدافهم. وصدرت مئات المقالات والكتب التي تحذّر من تقمّص دور الضحية، وفي الوقت نفسه تؤكّد استحالة ارتكاب إبادة جديدة ضد اليهود.
ولا يمكن التعويل على أن ترامب سيمارس ضغطًا جديًّا على إسرائيل، ولو أراد ذلك لفعل. لقد قال ترامب إن على هذه الحرب أن تتوقف، وصرّح ضد القتل والمجاعة في غزة، لكنه طرح أيضًا خطة طرد سكان غزة. وإسرائيل لم تأبه بأقوال ترامب حول قتل الفلسطينيين وتجويعهم، لكنها تمسّكت بخطّة طردهم، كأن المسألة هي طرح موقف وحسب، دون حاجة إلى فعل حقيقي وجاد.
التعليقات