لا يوجد أي دليل على صحة مزاعم رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن إيران، وبسبب برنامجها النووي وصواريخها، كانت تهدد وجود إسرائيل، وأن حرب الـ12 يومًا التي شنتها إسرائيل ضد إيران هي حرب وجودية. في المقابل، هناك أكثر من دليل على أن وقف إطلاق النار كان وجوديًا على نتنياهو شخصيًا من الناحية السياسية.
تطوير إيران برنامجًا نوويًا وصواريخ لم يكن سيؤدي إلى تفوق إيران عسكريًا على إسرائيل، التي طوّرت برنامجًا نوويًا بالسر، قبل أكثر من ستة عقود، ومنذئذ تملك ترسانة نووية هائلة، تشمل أسلحة نووية متنوعة، وتخضع لتعتيم عميق. وفي إسرائيل، صناعة أسلحة من بين الأكثر تطورًا في العالم، وهي من أكبر مصدّري الأسلحة، ومن أكبر مصدّري أخطر وأخبث الأنظمة الإلكترونية السيبرانية.
عبّر خبراء إسرائيليون، وكذلك مسؤولون أمنيون، خلال الحرب، عن تخوّف من استمرار الحرب لفترة طويلة، وتحولها إلى حرب استنزاف، من شأنها أن تُلحق أضرارًا أكبر بمدنها، وخاصة باقتصادها، والأهم بمجتمعها، الذي كان سيكتشف أكاذيب نتنياهو وغيره من القيادة السياسية والأمنية، وسيتساءل عن فائدة هذه الحرب.

فالإسرائيليون، بغالبيتهم، يتساءلون في الأشهر الأخيرة عن فائدة استمرار الحرب على غزة، رغم أن الإجماع عليها كان شاملًا في بدايتها. وهم يتساءلون بسبب ما يعتبرونه أضرار الحرب – عدم استعادة الأسرى في غزة ومقتل جنود هناك.
لم ترتفع شعبية نتنياهو خلال الحرب على غزة، وإنما تراجعت. وارتفعت شعبيته قليلًا بعد الحرب على إيران، بعد أن صدّق الإسرائيليون مزاعمه "الوجودية". لكن لو تحولت إلى حرب استنزاف، وتعالت التساؤلات حول فائدتها، لتراجعت شعبية نتنياهو إلى حضيض أعمق مما هي عليه، وكانت ستشكّل خطرًا حقيقيًا على وجوده السياسي.
لذلك كان نتنياهو في أشد الحاجة إلى دعم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. وثبت خلال الحرب مدى تأثير نتنياهو على ترامب، بعد أن فشلت جميع محاولاته بإقناع الرؤساء الأميركيين السابقين بشنّ حرب على إيران.
في هذه الأثناء، ليس واضحًا بعد تأثير الضربة الأميركية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، في نطنز وأصفهان وفوردو، وحجم الدمار الذي لحق بالأخيرة خصوصًا، باعتبارها المنشأة الأهم، بسبب التقديرات المتناقضة الصادرة عن الإسرائيليين والأميركيين. فتقديرات الاستخبارات الأميركية تقول إن فوردو لم يُدمَّر بشكل كبير، وإن البرنامج النووي الإيراني تراجع لعدة أشهر فقط، وبعد ذلك سيستأنف تطويره، بينما تقديرات إسرائيل، ومعها ترامب، تقول إن الدمار في فوردو شامل، وإن البرنامج النووي تراجع لسنوات.
سواء كان الدمار شاملًا أو ليس شاملًا، نتنياهو وترامب يتحدثان عن حرب أخرى ضد إيران في المستقبل القريب أو البعيد، بادّعاء منع إيران من تطوير برنامجها النووي وصنع القنبلة. ورغم أن إيران أعلنت مرارًا وتكرارًا، في السنوات الماضية، أنها لا تسعى إلى برنامج نووي عسكري، إلا أنه ليس مستبعدًا أن الحرب عليها، في الأسبوعين الماضيين، ستشكّل حافزًا على الإسراع نحو القنبلة. فالخبرة موجودة، والقدرة أيضًا.
ثبت منذ أكثر من عقد أن إيران لا تتأثر كثيرًا بالضربات المتتالية التي تعرضت لها، داخل إيران وفي سورية خاصة، في إطار ما يسمى في إسرائيل بـ"المعركة بين حربين". وهذه "المعركة" لم تؤدِّ إلى انسحاب قوات إيران من سورية، ولم توقف نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان، إلا بعد سقوط نظام الأسد.
رغم نتائج حرب الـ12 يومًا، لكن التقديرات في إسرائيل هي أنه ليس متوقعًا أن تتنازل إيران عن تطوير برنامجها النووي. والتخوّف الإسرائيلي من إيران نووية لا ينبع من تخوّف من دعم إيران للفلسطينيين، وإنما التخوّف الأساسي هو من التأثير الإيراني على المنطقة كلها، ومصالح إسرائيل فيها، وسعيها إلى البقاء كقوة إقليمية وحيدة مهيمنة على الدول العربية الغنية في الخليج. والفلسطينيون هم شماعة فحسب تعلّق إيران عليها شرعيتها في المنطقة، لكنها تريد حصة كبيرة، وليست أقل من حصة إسرائيل في الهيمنة الإقليمية.
إبادة مستمرة في غزة وتصعيد دائم في الضفة
العدوانية هي جزء مركزي في الجينات الإسرائيلية. وهذه ليست عدوانية عادية. إنها عدوانية دائمة بوتيرة ثابتة. حرب الإبادة على غزة مستمرة دون توقف ولو لساعة واحدة، باستثناء هدن تبادل الأسرى. خلال الحرب على إيران، أبادت إسرائيل عشرات الفلسطينيين في غزة يوميًا. غالبيتهم الساحقة مدنيون، وبينهم أطفال ونساء، لا علاقة لهم، لا من قريب ولا من بعيد، بهجوم 7 أكتوبر أو حتى بمقاومة إبادتهم هم أنفسهم.
تتعالى في إسرائيل تساؤلات حول استمرار هذه الحرب، حتى من داخل الائتلاف. رئيس كتلة "يهدوت هتوراة"، موشيه غفني، قال في الكنيست، أول من أمس، على خلفية مقتل سبعة جنود بتفجير ناقلة جند مدرعة في خانيونس، إنه "لا أفهم حتى الآن من أجل ماذا نحارب، ومن أجل أي غاية. وماذا سنفعل هناك فيما يُقتل جنود طوال الوقت". ودعا إلى وقف هذه الحرب من أجل منع مقتل جنود آخرين.

يعتبر البعض أن الحرب على إيران ووقف إطلاق النار فيها من شأنهما أن يؤديا إلى اتفاق تبادل أسرى ووقف الحرب على غزة، وأنه إذا تمكّن نتنياهو من وقف الحرب على إيران، فإن بإمكانه وقفها في غزة، من أجل إعادة الأسرى الإسرائيليين المتبقين هناك. لكن الحكومة الإسرائيلية ترفض هذه الفكرة، وتسعى إلى مواصلة الإبادة والتجويع، مدعومة بقيادة الجيش. وبعد وقف إطلاق النار مع إيران، أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، أن "التركيز يعود الآن إلى غزة"، وكأنه تم إهمال الحرب على غزة أو تخفيفها.
الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وحزباهما، ممن يُوصفون بـ"المتطرفين"، رفضوا وقف الحرب بسبب مخططات تهجير الغزيين والاستيطان في غزة، معتبرين أن ذلك يبرر استمرار الإبادة، ويهددون بإسقاط الحكومة إذا توقفت الحرب.
والادّعاء السائد في إسرائيل هو أن نتنياهو يستسلم لتهديدات هؤلاء "المتطرفين"، ويواصل الحرب كي يمنع سقوط حكومته، ويعتبر أن هذا أيضًا يبرر استمرار الإبادة. لكن حتى لو افترضنا أن هذا الادعاء صحيح، فما الفرق بين سموتريتش وبن غفير وبين نتنياهو؟
لا فرق. نتنياهو رضع أفكار اليمين المتطرف منذ ولادته، من والده، أحد مؤرخي الحركة الصهيونية، بن تسيون نتنياهو، الذي كان سكرتيرًا شخصيًا لزعيم "الحركة التصحيحية" الصهيونية اليمينية المتطرفة، زئيف جابوتنسكي، الذي وضع عقيدة "الجدار الحديدي"، التي تقضي بعدم التوقف عن مهاجمة "العدو" حتى لو استسلم.
في نهاية حياته، ادعى نتنياهو الأب أن "لا حل سوى حل القوة". وزعم، في مقابلات صحافية في أعقاب الإعلان عن خطة فك الارتباط عن غزة، في العام 2005، التي عارضها بشدة، أنه "لا توجد دولة فلسطينية أو شعب فلسطيني، ولذلك هم يريدون دولة لشعب متخيّل".
هذه العقيدة المتطرفة لا تُطبّق في غزة فقط، وإنما في الضفة الغربية، وبضمنها القدس أيضًا، وتُنفذ يوميًا فيها، من خلال قتل الفلسطينيين على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، نهب أراضيهم من أجل توسيع المستوطنات وإقامة أخرى جديدة، تقييد حركة الفلسطينيين، ومحاصرة مدنهم وقراهم بشكل تعسفي. والقانون الذي تطبّقه إسرائيل في الضفة هو القانون العسكري، وتعتبر أنه يتيح لها انتهاك كافة حقوق الفلسطينيين، ولذلك فإن الوضع في الضفة يتجاوز بكثير حالة الأبارتهايد.
تسعى إسرائيل باستمرار إلى تغذية أي توتر في الضفة من جراء ممارساتها. وإذا لم يحدث توتر، ترسل المستوطنين لإشعال توتر، مثلما حدث في بلدة كفر مالك قرب رام الله، التي اقتحمها مستوطنون، مساء أول من أمس، وأطلقوا النار، وأشعلوا ممتلكات، واستُشهد 3 أشخاص، وقال الجيش الإسرائيلي إن قواته أطلقت النار عليهم.
سقوط حكومة نتنياهو ليس حلًا
كانت حكومة نتنياهو مهددة بالسقوط، قبل أسابيع قليلة، بسبب قانون إلغاء إعفاء الحريديين من التجنيد للجيش، لكن نتنياهو نجا من السقوط، في أعقاب عدم مصادقة الكنيست على مشروع قانون حلّ الكنيست، بتأييد أغلبية أعضاء الكنيست الحريديين. وأحد أسباب ذلك كان استعدادات إسرائيل لشنّ الحرب على إيران، في اليوم التالي.

في حينه، ترددت تقارير تفيد بأن نتنياهو ورئيس حزب شاس، أرييه درعي، توصّلا إلى تفاهمات تقضي بالاتفاق على موعد لانتخابات عامة مبكرة. كما أن القانون ينصّ على أنه ليس بالإمكان إعادة طرح مشروع قانون حلّ الكنيست إلا بعد ستة أشهر من إسقاط مشروع قانون سابق، أي أن طرح مشروع قانون كهذا قد يتم في نهاية العام الحالي.
في هذه الأثناء، تتواصل الضغوط من أجل سنّ قانون يُلزم الحريديين بالتجنيد، على خلفية الحرب على غزة خصوصًا، مقابل ضغوط الأحزاب الحريدية من أجل سنّ قانون يُعفي جمهورهم من التجنيد. والتقديرات هي أن هذه القضية ستنفجر خلال الأشهر المقبلة، على شكل حلّ الكنيست، وبالتالي سقوط حكومة نتنياهو والتوجّه إلى انتخابات مبكرة.
لكن سقوط حكومة نتنياهو، في نهاية العام الحالي أو بداية العام المقبل، لا يعني الكثير بالنسبة للفلسطينيين. فالحرب على غزة قد تستمر في ظل انتخابات إسرائيلية، بينما ممارسات إسرائيل في الضفة أصبحت ممأسسة، بمعنى سياسة رسمية، منذ وقت طويل، ولا يُتوقّع أن تتغير في ظل حكومة جديدة يشكّلها نتنياهو أو غيره.
التعليقات