عندما تصدر تهديدات متناغمة من الولايات المتحدة الأمريكية ضد سورية، وبعد أن استكمل التيار اليمينيّ في البنتاغون انتصاراً في(القتال) بهذا الثمن البخس، فإن تلك التهديدات تستحق –فعلاً- أن تُعطى أهمية، ولا يجوز عدم الالتفات إليها، ولكن وبنفس الوقت، لا يجوز تضخيمها.
صحيح أن الحسابات الأولية قد توحي أن هنالك من يريد أن يكمل إنجازه في(القتال) بمزيد من تداعي الدول لأمره تحت تهديد القوة المنفلتة من عقالها، إلا أن هذه الحسابات(ستاتيكية) ساكنة، أو(خام) لا تخضع لمجموعة حسابات أخرى يمكن اجمالها على النحو التالي:
1. هذه الحسابات تحسب حساب(الفعل) الأمريكي، وتنسى أن أهم قانون في الفيزياء الكلاسيكية، هو قانون رد الفعل. ولا نقول هنا أن رد الفعل سيساوي ويعاكس الفعل تماماً وبنفس الصورة والآلية، لكنه قد ينوع في الأدوات ـ التي ليس لها –بالضرورة- أن تكون عسكرية ـ ،وبالتالي يمكن امتصاص القوة الفاعلة، بطريقة أو بأخرى. وهذا هو دور السياسة الفاعلة التي لا ترتهن لأدوات الضغط ونوعيتها العسكرية، والتي تعرف أن السياسية تمتص(الهيجان) العسكري أحياناً. وبالتالي ، فحتى على مستوى الحسابات الاستاتيكية ثمة حسابات الطرف الآخر الذي كثيراً ما غيبّته التحليلات السياسية التي وصلت إلى حد(الرعب والصدمة) وبعضها الآخر تناول التصريحات الأمريكية وكأنها(إنذار غورو).
2. على مستوى حسابات أخرى، يُغفل الكثيرون حسابات الفعل الديناميكي، فالسياسة الأمريكية متحركة وكذلك السياسة السورية، وكلاهما تتبادلان المواقع والوضعيات أثناء الحركة ـ وهذا بالتالي ـ يستدعي هذا رؤية الأمور في وضعية الحركة لا في وضعية السكون.
ووضعية الحركة تتمثل على الضفة الأمريكية بحرب لم تنتهِ ـ حسب تعبيرهم ـ وحكومة لا يستطيعون فرضها، و حريات أطلقوها ويطلقون النار عليها، والأهم من هذا وذاك أنهم ربحوا القتال ولم يربحوا الحرب.
الحرب شيء والقتال شيء آخر. الحرب هي تأمين ظروف القتال من مناخ دولي ووضع إقليمي ومصادر تمويل وطرق اسناد وتموين والأهم أن يكون لديك هدف سياسي لهذه الحرب، وهذه كلها تقريباً غير مؤمنه :
فلا هم قد أمنّوا الظرف الدولي ولا يزالون حتى هذه اللحظة في وضعيّة انتهاك لشرعة الأمم المتحدة، ولا يمكن تسميتهم إلا بمحتلين. صحيح أن الظرف الدولي يتعامل اليوم مع نتائج القتال باعتبارها أمراً واقعاً(وهذا هو سَّر قول الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأنه سيكون واقعياً في شأن العراق)، لكنه لم يضف ـحتى الآن ـ شرعية قانونية ودولية على هذه الحرب بدليل الاختلاف حول التعامل مع الحكومة العراقية الانتقالية ومدى إعطائها شرعية إبرام الصفقات أو التمثيل الدولي.
كما أن الأمريكيين لم يستطيعوا أن يضمنوا وضعاً إقليمياً لصالحهم، وهم، بمتابعة التصريحات المعادية لسورية، قد خلقوا مناخاً من التحرك العربي المضاد الذي يبدو أنه قد بات يربط ـ ولو بالحد الأدنى ـ بين القول الأمريكي بأن أن لحرب لم تنتهِ وتلك التهديدات، بمعنى أنها ستعني امتدادها إلى دول أخرى.
والأهم من هذا وذاك هو ضياع الهدف السياسي للحرب بين أسلحة دمار شامل لم يجدوها، ولم تستعمل ، مما بدّد مصداقيّة هذه(الاسطوانة ـ الذريعة)، وبين القضاء على نظام تبخرت أغلبية قيادته في عمل من المؤكد أنه لم يكن(عادياً)، وهو ما يُفسر السقوط السهل لبغداد، في وقت يُدفع فيه ثمن بخس هو300 ألف دولار للعثور عليه!.
في نفس السياق الديناميكي تمتلك دمشق أدوات وخيارات عديدة. قد لا تبدو للناظر الخارجي بعين ستاتيكية أنها كافية، لكن ترابطاتها الإجمالية تخلق للسوريين فرصة لممارسة ضغط موازٍ.
بمعنى آخر ـ وقبل سرد هذه الخيارات ـ لابد أن يميّز من يتعامل مع هذه الخيارات بين وضعها رصفاً بجانب بعضها البعض، وبين فهم مدى تأثيراتها مجتمعة وهي:
1ـ علاقات عربية ـ سورية متميزة:
فسورية كانت عنصر توازن بين عدد من الدول العربية والإسلامية ذات الأوضاع الخلافية: مصر ـ السودان، المغرب ـ الجزائر، البحرين ـ إيران، الإمارات ـ إيران… وهذا الرصيد يمكنه أن يستخدم في هذه الفترة.
صحيح أن العرب قد ضيّعوا وزنهم الإقليمي عندما اعتبروا أنفسهم تحصيل حاصل، لكن سرعة التجاوب مع سورية يعطي انطباعاً بأن(سورية) الوزن الإقليمي لهم تختلف(اليوم) عما كانت عليه(البارحة)، و عموماً يجب التذكر دائماً أن سورية ليست العراق. وإرث الرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد من العقلانية والرصانة يختلفان عن إرث اللاعقلانية لصدام حسين.
2ـ علاقات دولية متميّزة:
مع فرنسا تمثلت نتائجه في تطابق الموقفين السوري والفرنسي منذ القرار1441 وحتى اليوم، ومع بريطانيا التي ترى في هذه العلاقة التي انطلقت لأول مرة في تاريخ البلدين، فرصة كي تطوي صفحة من الغياب عن الساحة الشرق أوسطية، ومع روسيا، حيث أن الميراث لا يمكن له أن يُطوى بسهولة أو يُلغى بجرّة قلم، رغم أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي من حيث التحالفات والقوة والأداء الديبلوماسي… إلا أن ذلك كله لا يلغي أثرها.
وإذا ما توغلنا قليلاً في تحالف الراغبين: أمريكا ـ بريطانيا ـ اسبانيا، نستطيع التوقف ملياً عند تصريحات رئيس الوزراء الاسباني ووزيرة الخارجية والتي لم تكن موالية لنزعة التشدد ضد دمشق.
هذه الخيارات وغيرها كثير لا يجوز النظر إليها بصورة ستاتيكية، ولا يمكن التعامل معها من منظار أن(الغول) الأمريكي يأكلها. بل على العكس من ذلك؛ إذ كلما ذهبنا بعيداً في دراسة الأثر السياسي المترتب على ذلك القتال، وبعد أن نتأكد ـ معاً ـ أن لا حرب للحرب، سيكون علينا أن نفهم مدى حاجة الولايات المتحدة الأمريكية ـ بعد قليل! ـ لكل الدول الإقليمية للخروج من المأزق وإخراجه سياسياً؛ فالحكومة العراقية المقبلة بدون اعتراف (جواري) لا معنى لها وستكون عبئاً على الولايات المتحدة، بل و بدون إخراج وضع جديد على المستوى السياسي والإداري في العراق يكون موضع تقاسم مع الجوار، لا يمكن أن ينتهي الوضع في العراق إلى استقرار.
والأهم من هذا وذاك أن(التركيبة) العراقية الأثنية والدينية والطائفية والإيديولوجية وحتى(المزاج الخاص للعراقيين) ، لا يمكن أن تسمح بالحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً وتوفير استقرار يؤدي إلى استقرار في التعامل الدولي مع ثروته النفطية، ما لم يكن للجوار دور ما… وهذا ما يستدعي خفض التوتر في العلاقة بين دمشق وواشنطن.
مرة أخرى لا يجوز، ولا بأي حال من الأحوال، التعامل مع التصريحات الأمريكية باعتبارها(صرخة المارد) أو(نهاية الدنيا) فالتشابك في المصالح والتعاملات لا يفسح في المجال أمام خيار(إما… أو) أو خيار(أبيض… أو أسود) فثمة دائماً ظلال رمادية… وغداً ستكون هنالك ألوان أخرى. فالعقلانية عندما تواجه حمق اللاعقلانية لا تتعامل معها دائماً(بارتجاج) و(خوف وصدمة) بل تستوجب أحياناً ترويضها لأن سمة العقلانية الاستمرار أما سمة اللاعقلانية أنها… طفرات وزفرات وهيجانات… مؤقتة.
31/10/2010 - 11:02
سورية وأمريكا(1): أهمية رؤية ما هو أبعد من السكون/د.عماد شُعيبي

التعليقات