20/01/2025 - 11:42

كيف يمكن لسورية ما بعد الأسد أن تُؤسس لنظام إقليميّ جديد؟

في غياب الإجماع الإقليمي، من المرجح أن نشهد ظهور تحالف واسع النطاق من الدول العربية التي ستحاول تقويض أي نوع من التحول السياسي الديمقراطي، كما كانت الحال بعد انتفاضات الربيع العربي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين...

كيف يمكن لسورية ما بعد الأسد أن تُؤسس لنظام إقليميّ جديد؟

(Getty)

تستطيع تركيا أن تهدئ الدول العربية التي تخشى من سيطرة الإسلاميين على السلطة من خلال دعوة جيران سورية ودول الخليج إلى الاضطلاع بدور مركزي في عملية الانتقال السياسي.

في الساعات الأولى من يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر، انتهت فترة الحكم الوحشي لعائلة الأسد في سورية، والتي استمرت أكثر من نصف قرن. لم يتغير النظام السياسي المحلي في سورية، مع فرار بشار الأسد من البلاد، بين عشية وضحاها فحسب، بل تغيرت هويتها الجيوسياسية أيضًا. لم تعد سورية الآن جزءًا من «محور المقاومة» الإيراني أو واحدة من أقدم حلفاء روسيا في العالم العربي، حيث كان لموسكو أعمق بصمة إستراتيجية في شكل قواعد جوية وبحرية.

ينشغل الكثيرون بإعلان الفائزين والخاسرين في هذه اللحظة المحورية. إعداد قائمة بالخاسرين في هذه المرحلة أمر سهل نسبيًا. ومن بينهم النظام نفسه، وإيران، وروسيا، وحزب الله. وعلى النقيض من ذلك، فإن رسم قائمة الفائزين ليست بالأمر السهل. وعلى الرغم من أن سقوط الأسد عزز نفوذ تركيا ومكانتها في سورية وفي الجغرافيا السياسية الإقليمية الأوسع تعزيزا كبيرًا، فإن هيئة تحرير الشام، الفصيل المتمرد الذي قاد الهجوم الذي أطاح ببشار الأسد، ليست وكيلًا لتركيا. ومع تبيين ذلك، ظلت أنقرة ملتزمة بدعم جماعات المعارضة السورية خلال الأوقات الصعبة، ولديها الآن نفوذ كبير على هيئة تحرير الشام والقدرة على التأثير على أفعالها وقراراتها.

أثمر هذا الالتزام في نهاية المطاف بإزالة الأسد، مما شكّل تحولًا محوريًا في المشهد الإقليمي. ظهرت قوات المعارضة في شمال سورية، مدعومة بسنوات من الخبرة العسكرية والإدارية والمساعدة من تركيا، وقدرات حوكمة معززة. وأصبح هذا التحول واضحًا ليس فقط في تنفيذ الهيئة المتماسك للعملية التي أدت إلى سقوط الأسد، ولكن أيضًا في الأسلوب المنضبط والمنهجي الذي اتبعته في أعقاب ذلك. وتشير هذه التطورات إلى تطور جوهري في قدرة المعارضة السورية على الحكم، مما يعكس فوائد الدعم الخارجي المستمر والقدرة الذاتية لهذه الجهات الفاعلة على التكيف في التعامل مع التضاريس السياسية الصعبة والمتغيرة باستمرار في سورية.

إلا أن هيئة تحرير الشام والجماعات المتمردة الأخرى قد تكتشف قريبًا أن بناء سورية جديدة قد يكون أكثر صعوبة وتعقيدًا من إسقاطها. نحن نعلم ما سقطَ في سورية، ولكننا لا نعلم ما الذي ينتظرها. إن منع المزيد من إراقة الدماء والتشرذم والحروب بالوكالة في البلاد أمر ضروري لتضافر الجهود بين الأطراف السورية والإقليمية والدولية.

لا بد أن يبدأ هذا الجهد بتشكيل حكومة مؤقتة غير طائفية في دمشق وتشكيل كتلة إقليمية ودولية جديدة للمساعدة في العملية السياسية وإعادة الإعمار وإعادة البناء، كتلةٌ تحلّ محل وسطاء السلطة القدامى المؤيدين للأسد في موسكو وطهران بمجموعة تضم تركيا وجيران سورية العرب وقطر والمملكة العربية السعودية، فضلا عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وفي سورية، فإن أحد أخطر المخاطر قد يكون انزلاق انهيار النظام إلى انهيار الدولة، كما حدث في ليبيا. لن يؤدي مثل هذا الانهيار إلا إلى المزيد من الفوضى وإلى مستقبلٍ قاتم للبلاد. ومن ثم لا بد من الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وآلياتها. التحول السياسي وتشكيل الحكومة مترابطان، ولكن من الممكن الفصل بينهما. كما أن الانتقال السياسي عملية شاقّة وتستغرق وقتًا طويلًا. ولكن هناك حاجة ماسة إلى تشكيل حكومة مؤقتة جديدة على الفور لتوفير الخدمات الأساسية، والحفاظ على مؤسسات الدولة ووظائفها، ومنع ظهور فراغ السلطة والفوضى.

وفي هذا الصدد، يشير القرار الأخير الذي اتخذته هيئة تحرير الشام بعقد أول اجتماع مشترك لمجلس الوزراء مع وزراء من عهد الأسد إلى الالتزام بعملية انتقالية، ويمكن تفسيره على أنه تطور واعد. ليس تحقيق الاستقرار في سورية بضرورة محليةٍ فحسب، بل ضرورة إقليمية أيضًا.

وكان تعيين رئيس وزراء مؤقت مكلف بتشكيل حكومة مؤقتة بعد يوم واحد فقط من سقوط دمشق خطوة في الاتجاه الصحيح. وباعتبارها المجموعة التي قادت المسيرة نحو العاصمة، فمن المتوقع أن يكون لهيئة تحرير الشام رأي مهم في عملية الانتقال السياسي وتشكيل الحكومة. ولكن من أجل اكتساب الشرعية المجتمعية والقبول الدولي، يتعين على هذه الحكومة الجديدة أن تكون شاملة وتعكس تنوع البلاد. ولا يمكن أن تكون هذه هي «حكومة الإنقاذ» التابعة لهيئة تحرير الشام والتي كانت مقرها في إدلب سابقًا.

وعلى نحو مماثل، في سياق الصراع، عادة ما تؤدي المظالم إلى ظهور الميليشيات والعنف والتطرف، وخاصة إذا كانت هذه المظالم قائمة على الهوية. يشكل العراق، الدولة المجاورة لسورية، مثالًا واضحًا على ذلك. إذ أدّى إسقاط نظام صدام حسين السني في عام 2003 إلى ظهور تشكيلة جديدة من السلطة في بغداد بقيادة الشيعة والأكراد. وقد أدى هذا الإقصاء والضغائن تجاه المجتمع السني الأوسع إلى تأجيج موجات التطرف في العراق وخارجه، بدءًا من ظهور تنظيم القاعدة في العراق وصولًا إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

ولتجنب مثل هذا الاحتمال في سورية، لا ينبغي أن يكون هناك تهميش أو تجريم للمجتمعات العلوية أو الشيعية. منع الضغائن الطائفية ليس أمرًا حاسمًا لتحقيق انتقال سياسي منظم وحكومة أكثر شرعية في دمشق فحسب، بل هو أيضًا أمر مُهم لكبح نفوذ إيران والشبكات الطائفية في سورية.

وعلى المستويين الإقليمي والدولي، وبدلًا من عملية جنيف التي تقودها الأمم المتحدة ويدعمها الغرب، فإن عملية أستانا، التي أطلقت في الأيام الأخيرة من عام 2016 بقيادة تركيا وروسيا وإيران، هي التي رسمت مسار الصراع في سورية بصورة أساسية. كان يهدف تنسيق أستانا إلى تجميد الصراع، وليس تسهيل الانتقال السياسي، مع مساعدة أنقرة وموسكو وطهران في إدارة مصالحها في سورية.

ولكن عملية أستانا وصلت الآن إلى نهايتها، وخاصة أن اثنين من أعضائها الرئيسيين دعما نظامًا لم يعد موجودًا، وقد انخفض وجودهما في البلاد بشكل كبير الآن. وبعبارة أخرى، لم تعد موسكو وطهران تملكان النفوذ، أو الشرعية، لأداء دور رئيسٍ في مستقبل سورية. وفي الأمد القريب، قد تحتفظ روسيا بقدر من النفوذ على التطورات في سورية. ومع ذلك، فإن هذا التأثير سيكون على أرض متزعزعة. ويبدو موقف إيران أكثر خطورة. وربما ترغب دول الثلاثي في أستانا في الحفاظ على هذه المنصة لبعض الوقت، ليس فقط من أجل راحتها، بل وأيضًا من أجل تمكين تركيا من إدارة استياء طهران وموسكو جزئيًا من الإطاحة بالأسد. لكن هذه المنصة غير صالحة للنقاش والتوافق بشأن عملية الانتقال السياسي الداخلي.

سوف يتطلب الانتقال السياسي وجود مجموعة مختلفة من الأطراف حول الطاولة. ويجب أن تشمل المنصة الجديدة جيران سورية الرئيسيين وأن تكون مدعومة عربيًا. وتتمتع العراق والأردن وقطر والمملكة العربية السعودية بمكانة جيدة للانضمام إلى هذا التكتل.

ويعتبر إدراج الدول العربية في هذه الجبهةِ أمرا حيويا لسببين. أولًا، كان ثلاثي أستانا يتألف من دول غير عربية. وبما أن سورية دولة ذات أغلبية عربية، فإن الشكل الجديد لا بد أن يكون بدعمٍ وفاعلية عربية. وثانيًا، بينما يراقب المستبدون العرب ما يحدث في سورية، فمن المرجح أن يشعروا بالرعب. ورغم الاختلافات السياقية، فإنهم يرون أن الميزتين الرئيسيتين للانتفاضات العربية حاضرتان في سورية: إسقاط النظام، والإسلاميون هم الأبطال الرئيسيون. وسوف يؤدي هذا إلى إثارة حالة من الجنون والخوف في هذه الدول بشأن أمن أنظمتها.

وينبغي لتركيا وجماعات المعارضة السورية أن تسعى إلى تخفيف مخاوف هؤلاء القادة ودفعهم إلى التعاون بشكل أكبر من أجل تحقيق انتقال سياسي منظم في دمشق من خلال جعلهم جزءًا من هذه المنصة الإقليمية الشاملة. وعلى نحو مماثل، يتعين على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حث الدول العربية على التعاون، وليس التعطيل، خلال هذه الفترة الانتقالية السياسية.

وفي غياب الإجماع الإقليمي، من المرجح أن نشهد ظهور تحالف واسع النطاق من الدول العربية التي ستحاول تقويض أي نوع من التحول السياسي الديمقراطي، كما كانت الحال بعد انتفاضات الربيع العربي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والانقلاب الذي هندسته دول الخليج في مصر مثالٌ واضح على ذلك. ولن يكون مفاجئًا أن نرى إيران والعديد من الدول العربية تعارض النظام الجديد في دمشق على نحو مماثل، ما لم يُدَارُ بشكل جيد.

وقد تصبح سورية بمثابة اختبار لعملية التطبيع الإقليمي التي بدأت في السنوات الأخيرة، بما في ذلك بين تركيا والدول العربية وكذلك بين إيران ودول الخليج. إن التحول السوري ينبغي أن يدعم وليس أن يقوّض عملية التطبيع الإقليمي الجارية.

وأخيرا، لا ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يظل متفرجا ــ كما كان الحال ــ أو أن يكونَ غير مبالٍ بالتحول الذي تشهده سورية. إن المشاركة المبكرة مع هيئة تحرير الشام والجماعات المتمردة والجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة، بدءًا بتركيا، أمر ضروري لمساعدة عملية الانتقال. وينبغي أن يحفز ذلك عملية انتقال منظمة من خلال تقديم مساعدات مختلفة وحزم إعادة الإعمار. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول العربية الرئيسة عقد حوار منتظم ومنظم بشأن الانتقال السياسي وإعادة الإعمار وإعادة بناء سورية.

في أغلب الأحيان، ما يطلق عليه الكثيرون «الواقع الجديد» ما هو إلا لقطة خاطفة من لحظة ما في الزمن. إن المشاهد الدرامية في دمشق قد تؤدي إلى مزيد من الفوضى، أو قد تؤدي إلى خلق حكومة جديدة تتمتع بشرعية حقيقية في دمشق. إن التعاون الوثيق بين سورية والدول العربية والقوى الدولية أمر ضروري لمنع الوصول إلى نتيجة فوضوية والسماح ببناء حكومة جديدة شرعية في دمشق.

هذه لحظة فاصلة. لقد أدى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 إلى كسر الشرق الأوسط القديم، وبعد ذلك برزت إيران ومحورها الإقليمي، وبدأت القوى العربية تتراجع. وقد أدت انتفاضات الربيع العربي في عام 2011 إلى إضعاف هذا النظام الإقليمي السابق. وعلى النقيض من ذلك، بعد بدء الحرب بين إسرائيل وحماس وسقوط الأسد، أصبحت إيران وشبكتها الإقليمية في حالة تراجع، وبدأ ميزان القوى يتغير بشكل كبير. إن التوصل إلى توافق في الآراء حول سورية من شأنه أن يشكل الأساس لنظام إقليمي جديد.


** المقال مترجم عن فورين بوليسي، ولا يعبّر بالضرورة عن وجهة نظر عرب48

التعليقات