28/10/2025 - 16:12

غزّة الجائعة... والعالم المتفرّج

بعد عامين من الحرب التي اتسمت بالعنف غير المبرر والمجاعة والعرقلة المنهجية للمساعدات، قد يحظى قطاع غزّة أخيرًا بفرصة لالتقاط الأنفاس. فتدفقٌ واسعٌ للمساعدات الإنسانية المنقذة للحياة ليس مجرّد واجبٍ أخلاقيٍّ فحسب، بل هو أيضًا ضرورةٌ إستراتيجية...

غزّة الجائعة... والعالم المتفرّج

(Getty)

من بين الأهداف العديدة لاتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر بين إسرائيل وحركة حماس، يُفترض أن يكون إغراق غزة بالمساعدات الإنسانية أحد أكثرها قابليةً للتحقيق. فوفقًا لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المؤلَّفة من 20 بندًا، ستُرسل «المساعدات الكاملة» إلى قطاع غزة فورًا عبر مؤسساتٍ دوليةٍ محايدة، «من دون تدخّل من أيٍّ من الطرفين». وقد نصّت المرحلة الأولى من الاتفاق على إدخال ستمئة شاحنة مساعدات يوميًا إلى القطاع دون عوائق؛ وعلى خلاف قضايا نزع سلاح حماس أو تحديد مستقبل الترتيبات الأمنية والإدارية لغزة، فإن تنفيذ هذا الإجراء يبدو - نظريًا على الأقل - أمرًا مباشرًا وواضحًا. على الورق، وبعد عامين من الحرمان المروع، والنزوح المتسلسل، والمجاعة المتزايدة، فإن هذا من شأنه أن يسمح أخيرًا للشعب في قطاع غزّة بالبدء في تلقي الإمدادات الكافية من الغذاء والدواء وسائر الاحتياجات الحيوية الأساسية.

غير أن الاتفاق فشل في تحقيق هذه الأهداف في أول أسبوعين له. فبعد أيام قليلة من التوصل إلى الاتفاق، أعلنت إسرائيل أنها ستؤجل إعادة فتح معبر رفح الحيوي - هو الشريان الرئيس لدخول المساعدات من مصر - وخفضت إلى النصف عدد شاحنات المساعدات المُقرّر السماح بدخولها، بحجة أن حماس تباطأت في إعادة جثث الرهائن المتوفين (وأوضحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن إعادة الرهائن المتوفين تمثل «تحديًا هائلًا» ويتطلب معدات خاصة وقد يستغرق أسابيع). وبعد ذلك بعدة أيام، هدّدت الحكومة الإسرائيلية بوقفٍ كاملٍ لتدفّق المساعدات ردًّا على ما وصفته بأنه «هجوم» شنّته حماس على جرافةٍ عسكريةٍ إسرائيلية في رفح؛ لكنها تراجعت تحت الضغط الأميركي بعدما تبيّن علنًا أنّ الجرافة على الأرجح اصطدمت بذخيرةٍ غير منفجرة. وفي الأثناء، تجمّدت أنشطة العديد من أكبر المنظمات غير الحكومية بسبب متطلبات التسجيل الجديدة التي فرضتها إسرائيل. وبسبب استمرار إغلاق المعابر في شمال القطاع، لا تزال المناطق الشمالية من غزة خارج نطاق الوصول الفعلي للمساعدات، رغم أنّ الطرق المؤدية إلى تلك المعابر قد فُتحت بالفعل. ونتيجةً لهذه الإجراءات، لا تزال معظم المساعدات محظورة، رغم بنود الاتفاق. بعد زيادة أولية عند توقيع وقف إطلاق النار، لا تزال تدفقات المساعدات أقل بكثير من الحد الأدنى اللازم لوقف المجاعة؛ اعتبارًا من 21 تشرين الأول/أكتوبر، أفاد برنامج الغذاء العالمي أنه تمكن من جلب أقل من نصف الحجم المطلوب من المساعدات الغذائية.

يشير هذا إلى مشكلة أعمق كانت موجودة طوال الحرب وحتى قبل اندلاعها بوقت طويل. فرغم أنّ القانون الدولي يضمن وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين بغض النظر عن حالة النزاع بين الأطراف المتحاربة، فقد استُخدِمت المساعدات إلى غزة باستمرار كورقة مساومة بين إسرائيل وحماس أو جرى تقييدها أو حظرها من جانب إسرائيل لأسباب تعسفيّة. وما هو أخطر من ذلك، أن اعتماد اتفاقيات وقف إطلاق النار إلى معادلة المساعدات مقابل الرهائن، أعطى المفاوضون ضمنيًا شرعية لإستراتيجية إسرائيل في استخدام العقاب الجماعي للمدنيين في قطاع غزة كوسيلة لكسب النفوذ أو ممارسة الضغط على حماس. ويمتد نمط العرقلة إلى السيطرة والإشراف على إيصال المساعدات نفسها. منذ الأشهر الأولى للحرب، رفضت إسرائيل التعاون مع وكالة الأونروا، وهي أكبر وأكفأ جهة إغاثة في القطاع، وتعد داعمًا أساسيًا لمنظمات الإغاثة الفلسطينية والدولية. ومنذ الاتفاق، رفضت إسرائيل إعادة التعاون مع الوكالة، مما أعاق جهود الإغاثة واسعة النطاق.

رغم هذه التحديات الهائلة، لا يزال من الممكن عكس مسار الأزمة الإنسانية في قطاع غزّة. فقد أنشأت الولايات المتحدة مركزًا جديدًا للتنسيق المدني العسكري بقيادة البنتاغون، يُعرف باسم مركز تنسيق المساعدات المدنية والعسكرية (CMCC)، يتولّى الإشراف على توسيع نطاق المساعدات. إ وإذا ما اضطلع هذا الكيان بدورٍ قياديٍّ قوي، وشكّل سَدًّا في وجه العرقلة الإسرائيلية للمساعدات، فقد يصبح عاملًا حاسمًا في إنجاح العملية. غير أنّ فعاليته على الأرض تتطلّب أن يكون داعِمًا لمنظومة التنسيق الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة، لا بديلاً عنها. وسيتعين على الجهات الضامنة للاتفاق - بما في ذلك القوى الإقليمية والدول الأوروبية إلى جانب الولايات المتحدة - العمل عن قرب لدعم البنية التحتية للمساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة، وضمان تنفيذ البنود الإنسانية الإغاثية في الاتفاق، والاستعداد للضغط الأميركي والدولي بسرعة في مواجهة أي تراجع أو تدخل. ونظرًا لكثرة الأرواح المهددة في حال تعثر المساعدات الإنسانية، فإن تحقيق هذا الهدف يجب أن يكون أولويةً لضامني الاتفاق بقدر أولوية العناصر الأمنية فيه. ومع استمرار المجاعة واقتراب فصل الشتاء، فإنّ كلّ تأخيرٍ ستكون له كلفةٌ باهظة.

من الحصار إلى التجويع

بعد عامين من الحرب، يعيش سكان قطاع غزّة حالة من الحرمان الشديد. شكّل الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على القطاع بدءًا من آذار/مارس نقطة تحول، وفي آب/أغسطس، أعلن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) التابع للأمم المتحدة رسميًا أن المجاعة قد بدأت بالفعل في بعض مناطق قطاع غزّة. وأُجبر أكثر من 1.9 مليون شخص - أي ما يقارب مجموع سكان القطاع - على النزوح (وفي كثيرٍ من الحالات النزوح المتكرر) بسبب أوامر الإخلاء المتكرّرة التي يصدرها الجيش الإسرائيلي، والقصف المستمر للمناطق المدنية. وحتى مع وقف إطلاق النار، لا يزال الكثيرون بلا منازل يعودون إليها؛ إذ قدّرت الأمم المتحدة أنّ 80 في المئة من المساكن في القطاع، و89 في المئة من منشآت المياه والصرف الصحي، قد تضرّرت أو دُمّرت بالكامل. أما النظام الصحي الذي كان قائمًا قبل الحرب، فقد دُمِّر فعليًا؛ إذ أفادت منظمة الصحة العالمية في أيار/مايو 2025 بأنّ 94 في المئة من المستشفيات في قطاع غزة قد تعرّضت للضرر أو دُمّرت كليًا.

أطفال في انتظار الطعام، غزّة (Getty)

هذا الوضع المزري ليس نتيجة عرضية للقتال، بل هو نتيجة مباشرة للسياسات والتكتيكات الإسرائيلية. ففي أعقاب هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، هدد يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، علنًا بـ «حصار كامل» للقطاع، بما في ذلك قطع تام للغذاء والماء والوقود والكهرباء. ووصف متحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت تكتيكات إسرائيل بأنها تهدف إلى "إلحاق أقصى قدر من الضرر». وكما أظهر مجريات الحرب، فقد حققت الحكومة الإسرائيلية العديد من هذه الأهداف. حتى قبل أن تبدأ حصارها الكامل في آذار/مارس 2025، شددت إسرائيل القيود بصورةٍ متكررة على تدفق المساعدات وصعدت القصف للضغط على حماس وإجبار سكان قطاع غزّة على مغادرة مناطق معينة. وفي الوقت نفسه، قوضت حملة إسرائيل ضد الأونروا البنية التحتية اللوجستية التي سمحت لفترة طويلة لوكالات الإغاثة الدولية بالوصول إلى المحتاجين في جميع أنحاء القطاع. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2024، أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا يحظر على السلطات الإسرائيلية أي اتصال بالوكالة، التي يُزعم أنها مُخترقة من قِبل حماس. وبعد تحقيق، فصلت الأمم المتحدة تسعة موظفين فقط من أصل ثلاثين ألفًا في الأونروا بسبب صلاتٍ مزعومةٍ بحماس، لكنها لم تجد أي دليل على وجود نفوذٍ واسع للحركة داخل الوكالة كما تدّعي الحكومة الإسرائيلية. وفي عهد إدارة بايدن، حثّت الولايات المتحدة إسرائيل على السماح للوكالة بمواصلة عملها.

في الواقع، فإنّ تقييد المساعدات وعرقلتها ليسا سلوكًا جديدًا، بل نهجًا راسخًا في تعامل إسرائيل مع غزة، يمتدّ إلى الحصار الطويل الأمد الذي فرضته على القطاع منذ تولّي حركة حماس السلطة عام 2007. فمن عام 2007 إلى عام 2010، حددت إسرائيل واردات الغذاء إلى عتبة سعرية أعلى بقليل من مستوى المجاعة، ومنعت دخول مواد البناء ومستلزمات البنية التحتية وغيرها من السلع الأساسية إلى القطاع، بذريعة أنّها «ذات استخدام مزدوج» - أي يمكن أن تُستعمل لأغراضٍ عسكريةٍ كما لأغراضٍ مدنية. ولسنوات، رفضت الحكومة الإسرائيلية توضيح قائمة المواد التي تعتبرها مزدوجة الاستخدام، ولم تتراجع إلا بعد طعنٍ قانوني قدّمته منظمة «غيشا» الإسرائيلية لحقوق الإنسان. منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2025 وبدء الحرب في قطاع غزّة، أفادت وكالات الإغاثة العاملة في القطاع بأنّها تواجه رفضًا غامضًا وتعسّفيًا مماثلًا من مفتّشي الجيش الإسرائيلي، يشمل معدات طبية ومستلزماتٍ حيوية أخرى. وحتى لو استمرّ وقف إطلاق النار الحالي، فمن المرجّح أن تستمرّ مثل هذه العوائق البيروقراطية والسياسية.

إلى حد ما، فرضت عدة إجراءات قانونية دولية جارية ضغوطًا جديدة على إسرائيل لضمان وصول المساعدات. ففي مارس/آذار 2024، خلصت محكمة العدل الدولية بالإجماع إلى أن على إسرائيل اتخاذ «جميع التدابير اللازمة والفعَّالة دون تأخير، وبالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة، لضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية العاجلة على نطاقٍ واسع ومن دون عوائق». ورغم أن الحكومة الإسرائيلية تجاهلت هذا الحُكم فعليًا، إلا أنّه أكد وجود إجماع دولي واسع على أن عرقلة المساعدات تُشكل انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي (حتى القاضي الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية، أهارون باراك، الذي عارض جميع الإجراءات الأخرى التي اتخذتها المحكمة في هذه القضية، أيّد هذا البند تحديدًا). كما شكلت جرائم التجويع جزءًا رئيسًا من لوائح الاتهام التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغالانت، الذي استقال من منصب وزير الدفاع في يناير/كانون الثاني الماضي. وقد برزت عرقلة المساعدات وجرائم التجويع والتهجير القسري والهجمات على الخدمات الصحية بوصفها عناصر محورية في لجنة التحقيق الأممية الصادر في أيلول/سبتمبر 2025، الذي خلص إلى أنّ إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. ورغم أن الحكومة الإسرائيلية رفضت كل هذه الأحكام، فإنها قد تجعل من الصعب على إسرائيل التنصل كليًا من مسؤولية الحفاظ على تدفقات كافية من المساعدات مع استمرار تنفيذ الاتفاق.

الدعم الأميركي

حتى لو سمحت إسرائيل بتحسين وصول المساعدات، فإن التحديات تبقى هائلة. ولإحداث تأثير حقيقي في مواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزّة، فلا بدّ أن يُعزَّز النظام الإغاثي الذي تقوده الأمم المتحدة بدعمٍ دبلوماسيٍّ فعّال يحول دون العرقلة أو التحويل السياسي للمساعدات. ويجب السماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الكبرى بتوزيع المساعدات دون تدخل، قدر استطاعتها تمامًا كما حدث بعد وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير 2025، والذي استمر حتى آذار/مارس. وسواء من خلال الأونروا أو من خلال بنيةٍ أمميةٍ مختلفة للقيادة والتنسيق، فإنّ الأمم المتحدة هي الجهة التي يجب أن تتولّى قيادة وتنفيذ جهود الإغاثة والتعافي. فلا يوجد بديلٌ عمليٌّ قابلٌ للحياة عن هذا النظام، كما يبدو أنّ خطة ترامب نفسها تُقرّ بذلك، وكما أكّدته محكمة العدل الدولية مؤخرًا في رأيٍ استشاريٍّ جديدٍ ألزم إسرائيل بالسماح لوكالات الأمم المتحدة بإيصال المساعدات إلى غزة. فقد عملت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في غزة لعقودٍ طويلة، وتمتلك من القدرة، والانتشار، والثقة المجتمعية ما لا يملكه أي كيانٍ آخر.

في هذا الصدد، يمتلك مركز التنسيق المدني العسكري الأميركي الجديد، المدعوم من 200 جندي أميركي، القدرة على أداء دور حاسم في الرصد والدعم، وضمان عدم عرقلة إيصال المساعدات. لكن ينبغي ألّا يسعى هذا المركز إلى إحلال نفسه محلّ القيادة والتنسيق الأمميّين أو يسمح لإسرائيل بفعل ذلك. فمحاولة إسرائيل في وقتٍ سابقٍ من هذا العام التحايل على الأمم المتحدة واستبدالها بـ «مؤسّسة غزة الإنسانية» —وهي منظمة يديرها متعاقدون عسكريون خاصّون تحت إشراف الجيش الإسرائيلي— تحوّلت إلى كارثةٍ دموية أدّت إلى مقتل آلاف الفلسطينيين الذين كانوا في أمسّ الحاجة إلى الغذاء. ورغم أنّ هذه المؤسّسة أوقفت نشاطها الآن، فمن المرجّح أن تحاول إسرائيل مجددًا إيجاد وسائل أخرى للسيطرة على عمليات الإغاثة أو تقييدها. طوال الحرب، فرضت الحكومة الإسرائيلية قيودًا مشدّدة على نوعية المواد المسموح بإدخالها وعلى الجهات التي يُسمح لها بذلك، إلى حدٍّ بلغ أحيانًا حدّ العبث. وأفادت منظمات الإغاثة أن المفتشين الإسرائيليين رفضوا قوافل مساعدات لأنها تضمن حقنًا طبية مع مواد إغاثة أخرى، ورفضوا مجموعة متنوعة من إمدادات الإغاثة الأساسية، مثل المخدّرات الجراحية، والخيام، ومعدات معالجة المياه. وأخبرني أحد الأطباء أن حرس الحدود الإسرائيلي صادروا زجاجة أسبرين منه عندما دخل في مهمة طبية. إلى جانب فترات وقف إطلاق النار القصيرة، فرضت الحكومة الإسرائيلية أيضًا سيطرةً مُحكمةً على الحركة الداخلية لمنظمات الإغاثة داخل قطاع غزّة، ورفضت طلبات التنقل مرارًا أو وجهت القوافل عبر مناطق غير آمنة أو غير سالكة.

تقدّم الأزمات السابقة دروسًا مهمّة حول كيفية التعامل مع هذا النوع من العرقلة. وأوّل هذه الدروس أنّه لا بدّ من وجود جهة تحكيمٍ موثوقةٍ تمتلك سلطةً فعلية تضمن ألّا يُعرقل أحد أطراف النزاع وصول المساعدات الإنسانية. وهناك سوابق عديدة على ذلك. بصفتي رئيسًا لمكتب الإغاثة من الكوارث الخارجية في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، توسطتُ في آلية من هذا القبيل تتعلق بحصار المملكة العربية السعودية لليمن عام 2015، والذي تسبب في إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث. بدلًا من منح السعوديين —وهم طرف في النزاع— حق النقض على عمليات تفتيش المساعدات، عملت الولايات المتحدة على تحويل المسؤولية إلى آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM) المحايدة. وخلال الحرب الأهلية السورية، أقر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة نموذجًا مشابهًا، حيث تقوم الأمم المتحدة بتفتيش المساعدات المتجهة إلى شمال سوريا الذي تسيطر عليه المعارضة. إن مثل هذا النهج —الذي يسمح بتدفق المساعدات بطريقة آمنة ويمكن التحقق منها وخالية من تدخل أي من الأطراف المتحاربة في حالة الصراع أو ما بعد الصراع— مطلوب بصورةٍ عاجلةٍ في قطاع غزة أيضًا.

بغض النظر عمّا إذا سمحت إسرائيل لوكالات الأمم المتحدة بالعمل في قطاع غزّة أم لا، فمن غير المرجّح أن توافق على أن تتولّى الأمم المتحدة دور الجهة المُحكِّمة الكاملة في عملية الإغاثة. لكن إسرائيل أظهرت قدرتها على التعاون مع الولايات المتحدة ومع شركائها في الخليج. وعليه، يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدّة لفضح أيّ انتهاكٍ للاتفاق من أيٍّ من الطرفين، وأن يستخدم مركز التنسيق المدني العسكري الأميركي الجديد (CMCC) موقعه لدعم وتسهيل عمل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، لا لتوجيهها أو السيطرة عليها. وهناك سابقة يمكن البناء عليها: أنشأت إدارة بايدن رصيفًا عسكريًا مؤقتًا لتوصيل المساعدات إلى قطاع غزّة العام الماضي. ورغم فشل المشروع في النهاية وإزالته لاحقًا، فإنّ قدرة الجيش الأميركي على التنسيق مع الجيش الإسرائيلي والإشراف على توزيع المساعدات ساعدت على الحدّ من العرقلة الإسرائيلية. وانطلاقًا من تلك التجربة، يمكن أن يشكّل كيانٌ رقابيٌّ مستقلٌّ تشرف عليه الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون آليةً فعّالةً لمحاسبة الأطراف وضمان التزام إسرائيل بآليات إيصال المساعدات التي نصّ عليها الاتفاق.

غير أنّ الدعم الأميركي لعملية الإغاثة يجب ألّا يقتصر على مجرّد «عدّ الشاحنات»؛ فالكميات الكبيرة من الغذاء والدواء وحدها لن تجعل غزة صالحة للعيش مرة أخرى. وينبغي لجهود الإغاثة الدولية أن تضع حدًّا لحالة التجويع المستمرة، وتعيد خدمات الصحة العامة والمياه والصرف الصحي إلى كامل القطاع، وتؤمّن للغزيين مياهًا نظيفة ومأوى آمنًا. يحتاج قطاع غزّة بشدة إلى مواد ظلّت الحكومة الإسرائيلية تعرقل دخولها مرارًا، مثل مستلزمات الإيواء الطارئ، ومواد إعادة إعمار البنية التحتية، والمستلزمات الطبية، والوقود، ومعدات توليد الطاقة. وإلى جانب توسيع نطاق المساعدات وإمدادات التعافي، يجب السماح لمنظمات الإغاثة بالعمل بأمان ودون عوائق. وسيتطلب ذلك زيادة كبيرة في التمويل من الدول المانحة، والذي ما يزال بطيئًا حتى الآن، فضلًا عن قدرٍ أكبر من الاستقرار داخل القطاعِ للحدّ من عمليات النهب الواسعة التي تفاقمت خلال العام الماضي.

ستكون إعادة إرساء الأمن أمرًا أساسيًا لنجاح أيّ جهدٍ إنساني فعّال. فقد تفاقمت الجريمة المنظمة في مختلف أنحاء القطاع خلال الحرب، ويُعزى جزءٌ من ذلك إلى الدعم العسكري الإسرائيلي لعصاباتٍ عشائرية قامت بشكلٍ منهجيٍّ بنهب قوافل المساعدات الإنسانية. كما أن حملة حماس الانتقامية ضد بعض هذه العصابات منذ وقف إطلاق النار خلقت تحديات جديدة. إنّ غياب الأمن وحالة اليأس القصوى بين السكان يعنيان أنّ الأسابيع الأولى من تدفّق المساعدات ستشهد على الأرجح عمليات نهبٍ واسعة النطاق وعمليات «توزيعٍ ذاتي» مجتمعية للمساعدات. وقد سُجّل هذا النمط أيضًا خلال الأسابيع الأولى من وقف إطلاق النار السابق بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس من هذا العام؛ لكن حين بلغت المساعدات مستوىً متوازنًا مع احتياجات السكان، تراجعت أعمال النهب تدريجيًا. ومن المرجّح أن يتكرّر المشهد نفسه الآن، وهناك مؤشّرات أوليّة تدلّ على انحسارٍ نسبيٍّ في النهب بالفعل.

ويجب أيضًا منع تحويل المساعدات الإنسانية أو التلاعب بها من جانب حماس، على الرغم غياب الأدلة على حدوث ذلك على نطاق واسع. فقد دأبت إسرائيل على الادعاء بأن حماس تنهب المساعدات لتتخذ منها ذريعة لتقييدها إيصالها للقطاع، لكنها لم تقدم قط أدلة تدعم هذه الادعاءات، التي دحضتها المراجعات الدولية المتتالية، وكذلك من قبل مسؤولين أميركيين سابقين، بمن فيهم جاكوب لو، الذي شغل منصب السفير الأميركي لدى إسرائيل في عهد بايدن.

المنظمات جاهزة وعلى أهبة الاستعداد

بعد عامين من الحرب التي اتسمت بالعنف غير المبرر والمجاعة والعرقلة المنهجية للمساعدات، قد يحظى قطاع غزّة أخيرًا بفرصة لالتقاط الأنفاس. فتدفقٌ واسعٌ للمساعدات الإنسانية المنقذة للحياة ليس مجرّد واجبٍ أخلاقيٍّ فحسب، بل هو أيضًا ضرورةٌ إستراتيجية بحكم بنية اتفاق السلام نفسه. إذا عجز ضامنو الاتفاق عن ضمان إيصال المساعدات، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار وقف إطلاق النار نفسه. وحتى لو صمد الاتفاق، فإن الإخفاق في تحقيق الأهداف الإنسانية سيدفع المزيد من الفلسطينيين إلى المجاعة ويفاقم الخسائر البشرية المروعة أصلًا.

يمكن تجنب هذه السيناريوهات الأسوأ. ولكن للاستفادة من مساحة التنفس التي أتاحها الاتفاق، سيتعين على الضامنين حماية عمليات الإغاثة من التلاعب السياسي الذي عانت منه منذ بداية الحرب. ستكون الرقابة والمساءلة أمرًا بالغ الأهمية، وسيتحقق ذلك على أفضل وجه إذا أنشأت الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون والأوروبيون آلية تنسيق ورقابة موثوقة وقوية لدعم تطبيق البنود الإنسانية في الاتفاق. وقبل كل شيء، عليهم أن يسمحوا للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية العديدة، التي تتمتع بسنوات من الخبرة في قطاع غزّة وتمتلك الموارد والأدوات اللازمة، بأداء عملها أخيرًا من دون عوائق. بوضعها المساعدات في صميم اتفاقها، أحيت إدارة ترامب الأمل في إمكانية تجاوز الأزمة أخيرًا. لكن هذا لن يتحقق إلا بمنح العاملين في المجال الإنساني حرية الوصول الآمن والأمان والدعم الذي يحتاجونه.


* جيريمي كونينديك: رئيس منظمة اللاجئين الدولية والرئيس السابق لمكتب مساعدات الكوارث الخارجية في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)

التعليقات