عن كتاب "هجمات مرتدة" للصحفي أدهم حبيب الله

جاءت حساسية حبيب الله من ذلك عالية، إلى حدّ قسوته على نفسه ونصّه، ما جعل هذا الأخير يبدو لقارئه مثقلاً بالتوتر والانفعال، مثل كلّ انفعالٍ تثيره أيّ هجمةٍ مرتدة في صفوف المشجّعين على المدرجات...

عن كتاب

في حوارٍ مع خورخي لويس بورخيس، سأله المحاور: هل قرأت كتب بابلو نيرودا؟
"لا، لأن نيرودا صديقي"، أجاب بورخيس مبتسمًا...

كنتُ وأدهم دائمًا ما تحدّثنا عمّا تقوله الكتب، وها هو أدهم يكتب كتابًا، ورغم صلتي بهِ الأقرب مما هي مجرّد صِلة قرابة، إلا أني تحمّست لقراءة كتاب أدهم، كي أحدّثه عنه.

يُحيل عنوان كتاب "هجمات مرتدة: يوميات صحافي في مونديال قطر" الذي كتبه الصحفي المتوثّب أدهم حبيب الله ونُشر مؤخرًا، إلى دلالته المتّصلة بعالم كرة القدم وملاعبها، هذا ما يبدو للوهلة الأولى. غير أنّ النص سرعان ما يفلت من عنوانه منذ أولى صفحاته بسلاسة، متجاوزًا الرياضي نحو الاجتماعي والسياسي وحتى القومي، ليجدل ما بين التقصّي والتأسي معًا.

تقصٍّ يقتضيه العمل الصحفي لصحافي حطّت كاميرا رحالهِ في العاصمة القطرية الدوحة، المستضيفة لنهائيات كأس العالم 2022. فيما التأسي قادم من هاجس سؤال الهوية لعربي فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية، في تناقضٍ أيقظه وجوده في بلدٍ عربي قرّر العرب الاجتماع فيه في حدثٍ مثل المونديال.

هل يغسل الرياضي ما خلّفته السياسة؟ أم أنّ الرياضة بذاتها استدعاء دائم للسياسي؟

جدلٌ يحاول صاحب الكتاب الاشتباك معه في كتابه، أكثر مما أراد الإجابة عليه، منذ أن استوقفه نفير الجزائريين في شوارع الدوحة إسنادًا وتشجيعًا لمنتخب المغرب، غسلاً وتجاوزًا لأزمة الصحراء السياسية بين البلدين. فيما ملاقاة المنتخب الإيراني لنظيره الأميركي في المونديال كانت بمثابة مواجهة أخرى من صراع البلدين، على أرض الدوحة هذه المرّة، تلاقٍ انبعث منه دخان السياسي وصراعه، وقد خصّه صاحب الكتاب بعنوان فرعي في كتابه.

غير أنّ الغمز في هوية صحافي فلسطيني لمجرّد حمله الجواز الإسرائيلي، أو عمله ضمن واقع صمّمته الدولة العبرية بنفسها للفلسطيني في الداخل عن نفسه، سيجعل منه محلّ "شبهة"، سرعان ما سيدفع إلى تقريعه حدّ مهاجمته أو الانفضاض من حوله بأحسن الأحوال. ولما كانت الهجمة المرتدة في عالم كرة القدم ليست إلا كسرًا للإيقاع والمتوقّع معًا، فأن تتوقّع احتضانك لأنك فلسطيني، ثمّ الارتداد عليك لمجرّد أنك من حملة الجواز الأزرق، فهذا ما جعل أدهم يستدخل ويستعير من حيّ تجربته في عالم ملاعب الكرة تعبير "الهجوم المرتد"، بعد أن رزح بجِلده تحت سياط ردود وارتداد دائمين عليه وعلى بعض زملائه الصحفيين، من قبل بعض المشجّعين العرب، خصوصًا المغاربة منهم، على مدار شهر كامل.

جاءت حساسية حبيب الله من ذلك عالية، إلى حدّ قسوته على نفسه ونصّه، ما جعل هذا الأخير يبدو لقارئه مثقلاً بالتوتر والانفعال، مثل كلّ انفعالٍ تثيره أيّ هجمةٍ مرتدة في صفوف المشجّعين على المدرجات. فيما فكرة الكتاب، على فم قلم صاحبها، تقول: "لا تُحاسَب الشعوب على واقعها، إنما على أدائها فيه يمكن محاسبتها"، وعلى هذه المسطرة يجب قياس حال الفلسطينيين داخل أراضي عام 48. ولا أظنّ أن صاحب كتاب "الهجمات" كان يحتاج إلى توضيح ما هو أكثر من ذلك، لأنّ التفسير يوقع صاحبه في فخّ التبرير أحيانًا.

يعيدنا أدهم حبيب الله في كتابه إلى ما سبق وكتبه الروائي والكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو في كتابه "كرة القدم: بين الشمس والظل"، عندما قال بما معناه: "نكتب عن كرة القدم أملًا بالأقدام النظيفة، بعد أن فقدنا الأمل بالأيدي النظيفة" – أي السياسيين – وذلك ما جعل وجدان شعوب القارة اللاتينية كلها، على مدار القرن العشرين، يتكثّف في الملاعب لا في البرلمانات. لقد حمل المستعمرون الإنجليز كرة القدم إلى أميركا اللاتينية في أواخر القرن الثامن عشر، يوم لم تكن الشعوب اللاتينية تعرف عن عالم الكرة شيئًا. ولأنّ كرة القدم قد بدأت لعبة استعمارية، أتقنها اللاتينيون لاحقًا إلى حدّ احترافها، فكانت الأقدام السمراء – البرازيلية منها والأرجنتينية – بمثابة هجمة لاتينية مرتدة على الأيدي البيضاء الأوروبية، وما اقترفته استعمارًا بحق اللاتينيين...

وهذا ما يحاول أدهم في كتابه وصفه وقوله عن مونديال قطر 2022: حضور عربي شعبي من المحيط إلى الخليج في الدوحة، للرد على سؤال الأوروبيين ورهانهم على قدرة العرب تنظيم حدث عالمي مثل المونديال، من جهة. ومن جهة أخرى، يمثّل حضور الشعوب العربية ارتدادًا على مساعي النظام العربي الرسمي للمصالحة والتطبيع مع إسرائيل، عبر رفع علم فلسطين واستدعاء قضيتها من دكّة الاحتياط، وإعادتها عبر المونديال كلاعب أساس في تاريخ شعوب الأمّة ووجدانها.

لم يمنع انهمام أدهم في سؤال الهوية والانتماء من اهتمامه بالتقاط واعتقال كلّ تفصيل ممكن من يوميات المونديال، وتأبيده بذكاء في نص كتابه: وجه الدوحة في ساحة اللؤلؤة وسوق واقف، حسن الضيافة والتنظيم اللذين جعلا منها – كما يصف الكاتب – العالم يبدو أصغر منها، الزيّ الشعبي، أغاني شمال أفريقيا، المطبخ المشرقي، الحواضر الفلسطينية: يافا وعكا والناصرة حاضرة، الأخبار القادمة مع القادمين من الداخل. ومع ذلك، وكما يُقال في أدب الرحلة: "يتعرّف الإنسان إلى العالم من بيته، وحين يخرج يتعرّف إلى نفسه".

يظلّ كتاب "هجمات مرتدة" نبيلاً في نصه، من نُبل صاحبه وشفافيته. قالت ذات يوم نازك الملائكة: "أشعر بعروبتي أكثر مما أُجيد تعريفها"، وهذا هو حال الصحفي المهلاوي في كتابه عن الانتماء وواقع تناقضه، بوصفهما شعورًا قبل أن يكونا مفهومًا. أعرف أدهم، وقد تربّينا معًا في بيتٍ ما يزال يجتمع كلّ أبنائه وأحفاده فيه للجدل في هموم الوطن العربي، وقوفًا على الأقدام وفي المطبخ تحديدًا. "مطبخ وِحدة".
و"وِحدة" أو "وِحدي"، كما صار عليه اسمها، هي عمّتنا التي سمّاها جدّنا خالد "أبو أحمد" رحمه الله، يوم ولادتها، على أثر انهيار الوحدة العربية بين سورية ومصر عام 1961. كانت تسميتها بمثابة ردّ على الارتداد عن الوحدة...

تبدّدت أحلام الوحدة العربية بلا رجعة، ورحل جدّنا الخالد خالد مبكرًا، وانفضّ أفراد البيت كلٌّ إلى بيته، وما تزال عمّتنا وحدة – أطال الله عمرها – في البيت إلى يومه هذا، تجمعنا فيه، ولا نظنّنا موحّدين إلا عندها...

التعليقات