بوذا .. الحكيم الغامض قائد الملايين

تزوج بوذا من يازودارا وأنجب طفلا يدعى راحولا، حينئذ ظن والده أنه استطاع الاحتفاظ به نهائيا، وغدا ولي العهد المنتظر، لكن خلال إحدى جولاته في العربة خارج القصر أبصر أبشع مشاهد العذاب البشري التي فتحت أمام عينيه طريق الخلاص، أبصر أربعة أشياء

بوذا .. الحكيم الغامض قائد الملايين

(أ.ف.ب)

لا يزال الغموض الشديد يحيط بتعاليم بوذا، على الرغم من إيمان الملايين حول العالم بها وليس في آسيا فقط، فتعاليم بوذا التي تجاوزت شبه القارة الهندية وتحولت إلى عقيدة يدين بها الملايين في مناطق شتى من آسيا، تضاربت الآراء بشأنها، وتتالت الأسئلة حول حقيقة شخصيته هل هو نبي؟ أم مؤسس عقيدة؟ حكيم أم مصلح اجتماعي.

ووفقا للفكر الهندوسي كلمة “بوذا” تعني الحكيم أو المنتصر، أما اسم بوذا الحقيقي فهو غوتاما ويدعى أيضا تاتا غاتا، أي (الكامل)، ظهر بوذا حوالي سنة (566- 483)، وكانت ولادته وفق ما ورد في الكتب البوذية المقدسة عجابئية، إذ دخل إلى أحشاء أمه الملكة “مايا” على شكل فيل صغير “سوذودانا”، وقد ماتت الملكة مايا بعد سبعة أيام من ولادة بوذا، والحكمة من ذلك أن الرحم الذي احتوى بوذا لا يمكن أن يحمل أي جنين آخر.

النبوءة كانت من إحدى العرافات بأن تنبأت لوالده أن ابنه سيصبح ناسكا وأنه سيتناول عن العرش، وفي سبيل أن يحول والده دون تحقيق النبوءة أبعد من أمام ولده كل مشاعر البؤس والشقاء البشريين كي لا يبصر ما يعكر سعادته، يقول: “لقد دللت جدا، لم أكن أتعطر إلا بصندل بيناريس، وليلا ونهارا كانت تنشر مظلة بيضاء فوقي، وخلال الأشهر الأربعة لفصل الأمطار لم أكن أتراك القصر وكنت محاطا بعازفات الموسيقى”.

حياة بوذا

تزوج بوذا من يازودارا وأنجب طفلا يدعى راحولا، حينئذ ظن والده أنه استطاع الاحتفاظ به نهائيا، وغدا ولي العهد المنتظر، لكن خلال إحدى جولاته في العربة خارج القصر أبصر أبشع مشاهد العذاب البشري التي فتحت أمام عينيه طريق الخلاص، أبصر أربعة أشياء غيرت مجرى حياتة وهي: الشيخوخة – المرض – الموت – وراهب متنسك.

وقد ترافقت عودته من الجولة الرابعة، بعد أن أنجبت زوجته طفلا، والغريب في الحكاية هو مقاومته لغريزة الأبوة، إذ هرب في الليلة نفسها بعدما تأمل للمرة الأخيرة زوجته وابنه وهما نائمان، معتبرا أنه قد حقق أمنية والده في تقديم وارث للعرش.

تخلص بوذا من ثيابه الحريرية وارتدى ثوبا مصنوعا من قشور الأشجار، ومضى نحو غابة ليحيا مع راهبين ويمارس طقوس العبادات، لكنه اكتشف بأن تحقيق وحدة الذات والسعادة لا يكون من خلال وفرة القرابين وكثرة التعبد، لذلك ارتحل نحو غابة أخرى، وتفرغ للصوم الدائم، ومارس التقشف الشديد وتمارين التركيز الروحي ببقائه منتصبا على كعبي قدميه، والنوم على سرير من شوك، هدفه من ذلك كله قتل الروح الفردية وطرد جميع الأهواء ومتطلبات الجسد.

لكن بوذا بعد أن أمضى سبع سنوات على هذه الحال اكتشف أن جسدا بهيئة الهيكل العظمي وروحا غارقة في تركيز فارغ لا يساعدان على اكتشاف المعرفة، وفي إحدى الليالي التي أمضاها متأملا تحت شجرة (البانيان) وهي نوع من الأشجار التي تشبة  التين، قرر أنه يكتشف الإشراف من ذلك الموضع، وقف باتجاه الشرق حيث الأرض تبدو له ثابتة لا تتحرك حوله. كان معه باقات من العشب وضعها بشكل تاج الحكمة، وقال: “ليجف جلدي وأعصابي وعظامي، أنا لا أبالي، ليجف لحمي ودم جسدي لكني لن أتحرك من هذا الموقع قبل أن أبلغ الحكمة العليا لكن بوذا تعرض لأذى مارا (إله الشر) إذ رماه بالظلمات وأمطره بالصخور، لكنه تمكن من الانتصار وتوصل إلى الإشراق، وحصل على لقب “بوذا” بعد وصوله إلى مرحلة النيرفانا، أي الخلاص الروحي.

الاستنارة البوذية

تهدف البوذية لوصول الفرد إلى مرحلة “النيرفانا” والكلمة لغويا تعني التلاشي أو الانطفاء، وفلسفيا اختلفت الشروحات بشأنها، لكنها تشير إلى فكاك الروح وإحلالها من أغلال المادة، ومن الطبيعي أن الإنسان لا يصل إلى هذه الحالة إلا بالموت، لأن وجود الإنسان مرتبط بالشهوات الدنيوية، لكن تعاليم بوذا تجعل إمكانية الوصول إليها خلال حياة الفرد، حيث تتحقق أعلى درجات السمو.

لكن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب معرفة حقائق أربع، الحقيقة الأولى: تكشف أن حياة الإنسان عبارة عن مجموعة من الآلام منذ لحظة الميلاد حتى الموت مرورا بالمرض والشيخوخة والغضب والشهوات التي تجعل الإنسان أكثر دنيوية.

أما الحقيقة الثانية، فإنها تبحث في أصل الألم وهي تحصر الألم بكلمة الظمأ إلى الوجود والاستمرار الذي يعذبنا دائما لأنه لا يرتوي ويجسد شهوة الحياة، ويرى بوذا أن أحسن طريقة للوصول إلى الهدف هي طرد كل رغبة من قلبه، أي نزع  فكرة “أنا موجود”.

الحقيقة الثالثة تتعلق بإلغاء الرغبة الفردية لأنها تؤدي إلى إلغاء الألم، لأن الرغبات التي لا تتحقق تظل تؤرق الإنسان حتى موته، وتؤدي إلى الميلاد من جديد، أي إعادة التناسخ واستمرار المعاناة، والحيز الأشمل يكمن في خلاص الروح ووصولها إلى النيرفانا.

المرحلة الرابعة تشير إلى الطريق الذي على الفرد أن يسلكه بغية إبعاد الألم، ويلخصه بوذا بمبادئ ثمانية هي: الإيمان النقي، الإرادة الصحيحة، العمل الجيد، الكلام الطيب، وسائل العيش الصافية، الجهد الصائب، الانتباه الدقيق، والتأمل الكامل، إلى جانب ذلك تؤمن البوذية بفكرة التناسخ، انطلاقا من قانون الكارما وهي كلمة سنسكريتية تعني (العمل)، فحياة الفرد في زمن ما هي نتيجة لعمله في حياة سابقة، ومدى خضوعه لشهواته ونزواته في ما سبق له أن عاش وحين لا يقترف الخطايا ويسير في الطريق المعتدل، ويصل إلى النيرفانا فإنه يتحرر من دائرة الميلاد والتناسخ ويستقر في الجنة الأبدية.

العالم الواقعي

لم تتعرض البوذية للقضايا الفلسفية الكبرى، وانصب اهتمامها على العالم الواقعي، فلم يتطرق بوذا لفكرة الألوهية بالإثبات أو النفي، إنما أشار إلى وجود الروح والمادة، وأوضح أن النفس عبارة عن مجموعة مركبات تتداخل فيها الصفات الجسمية مع الإدراكات الحسية والإرادة والفكر والقول والعمل، ومن خلال اتحاد كل ذلك يكون الفرد وفي انفصاله يحدث الموت.

ولم يضع بوذا أي نظام لرهبانه، واعتمدوا على تلقي التعليم منه شفهيا، وعلى التجوال في البلاد لهداية الناس وتعليمهم، ومن هنا بدأت البوذية في الانتشار خارج الهند خصوصا، وأنها تحمل في مضمونها دعوة للحب الشامل للعالم كله ولكل الموجودات عبر تنقية القلب والطمأنينة الداخلية.

وفي مطلق الأحوال لقد حملت البوذية رؤية كونية للإنسان تجعله جزءا من الوجود، وحولت الألم إلى رؤية خاصة للتخلص من الألم نفسه، لكن الطابع السلبي الذي يطغى في هذه الفكرة هو التعامل مع الألم بوصفه سيد الكون المسيطر، وكأنه حتمية لا بد منها، يقول: “ها هي الحقيقة المقدسة عن الألم: الولادة ألم الشيخوخة ألم – الداء ألم –  الموت ألم الوحدة مع من لا نحب ألم – الانفصال عن من نحب ألم – وعدم حصول الرغبة ألم – والحل هو إلغاء الألم بالقضاء الكامل على الشهوات التي يجسدها، وهذا التعامل مع فكرة الألم، وربطه بالوجود الإنساني ككل يحمل نزعة انسحابية تصادر إلى حد ما قدرات الإنسان، وتعمل على محاصرة طاقاته بالتخوف الدائم من فكرة الألم، على اعتبار أن ظمأ الوجود مرفق باللذة والشهوة والاضطهاد.

التعليقات