المنمنمات الإسلامية .. جداريات الفن والحضارة

يمكن تقسيم التصوير في المنمنمات الإسلامية إلى قسمين رئيسيين، أولهما: وهو الأكثر رسوخا وشعبية، حيث يستفيد فيه من تراث الماضي الغابر باعتباره موروثا ثقافيا شاملا وصل إلى ذروته اللونية والتقنية في محاكاة المواضيع التاريخية والإنسانية والأسطو

المنمنمات الإسلامية .. جداريات الفن والحضارة

المنمنمة.. هي تلك الرسوم والأشكال التصويرية الدقيقة التي عكف المسلمون على الاستعانة بها في تزيين ما تركوه من مخطوطات علمية وأدبية، إضافة إلى تلك القطع الأثرية الموجودة في بعض المباني المعمارية القديمة كالمساجد الشهيرة والقصور الملكية.

فقد ظهر هذا الشكل من الفن التراثي في فترة مبكرة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وكان يسمى قديما “التزاويق”، وقد طور الفنان المسلم هذا الفن الذي ورث أصوله من الحضارت السابقة على الإسلام.

وتعد هذه المنمنمات جزءا مهما من الكيان الكبير الذي يطلق عليه الفن الإسلامي، ذلك الذي يبدو جليا في العمارة والزخرفة والخط الإسلامي. تلك المنمنمات التي ازدهرت كأداة تجميلية فنية، فمن المسلمين إبان القرن الثاني والثالث والرابع عشر من الميلاد مع ازدهار الحضارة الإسلامية، وانتعاش حركة التأليف والترجمة، والانفتاح على مختلف الحضارات الأخرى، حيث استمد هذا الفن جذوره وروافده من أصول هذه الحضارات السابقة على الحضارة الإسلامية، وخاصة الحضارة الهندية والفارسية والصينية.

مقامات الحريري

وتعد مخطوطة “مقامات الحريري” التي قام على تنفيذها الفنان المسلم “يحيى بن محمود الواسطي” عام 1237م، والتي تضم نحو مائة منمنمة تعد من روائع التصوير الإسلامي من جهة تنوع موضوعاتها التي تنبض بالحيوية، وتعبر بواقعية ملموسة عن عادات وتقاليد المجتمع الإسلامي العربي وغير العربي في تلك الحقبة من الزمن، ففيها ما يعكس جليا حياة المسلمين اليومية، وكذا الحياة الدينية بما فيها من حراك ثقافي تولى فيه الخطباء في مساجدهم دورا مملوسا، ومنها ما ينقل ملامح الحياة القضائية بما فيها من متهمين وقضاة وشهود، وفيها أيضا ما يدلل على عبقرية المعماري المسلم في هذه الآونة، وما أفرزه من أعمال متميزة في شكلها الخارجي ومحتواها الداخلي.

موروث ثقافي

ويمكن تقسيم التصوير في المنمنمات الإسلامية إلى قسمين رئيسيين، أولهما: وهو الأكثر رسوخا وشعبية، حيث يستفيد فيه من تراث الماضي الغابر باعتباره موروثا ثقافيا شاملا وصل إلى ذروته اللونية والتقنية في محاكاة المواضيع التاريخية والإنسانية والأسطورية والدينية، في محاولة لفهمها واستيعاب أسرارها وأبعادها وروابطها الروحية في حياة الواقع الاجتماعي، وثانيهما: ذلك التصوير الذي ينطلق من محاكاة الطبيعة بواقعية تتسم بالحرص على نقل أدق التفاصيل فيها، من أجل الانتقال إلى الطبيعة الإنسانية الأكثر تعقيدا، وذلك من خلال التركيز على الرؤية والاستقراء الديني والتأمل الروحاني.

واحتل الإنسان مكانا كبيرا في المنمنمات التي ازدهرت خلال هذه الفترة، يتضح ذلك عند مقارنة حجم الإنسان بالنسبة إلى حجم العمائر المرسومة، تلك التي يبدو الإنسان فيها أكبر حجما منها، للإشارة إلى أنه هو الموضوع الرئيسي والمركزي في اللوحة، وكذا في رسم إحدى الشخصيات الأكبر حجما من الأخريات للدلالة على أهمية هذه الشخصية الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، كأن يكون أميرا أو ملكا أو شاعرا، وهي إحدى مميزات مدرسة بغداد في التصوير، كما أعلنت دقة الرسوم المعمارية المؤرخين على معرفة المدينة المرسومة فيها من خلال شكل الأقواس والعناصر الزخرفية التي تزينها.

وساهم الفنان العربي المسلم بفاعلية في تطوير فن الزخرفة، وذلك من خلال توظيفه للعناصر الهندسية والنباتية، التي تداخلت في تشكيلات زخرفية على قدر كبير من الروعة، والتي زينت بها جدران وقباب المساجد من الداخل والخارج، والتي اشتهرت عند الغرب تحت اسم “أرابيسك”، وقد ساعد على تطوير هذا الفن وانتشاره تحريم الإسلام تصوير الأشكال الروحية والحيوانية.

أما أشهر المنمنمات الإسلامية، فتوضح المصادر أنها “الفارسية” التي انطلقت في القرن الرابع عشر الميلادي، بعد أن اعتنق القائد “الإيليخان غازان” الديانة الإسلامية الحنيفية عام 1295، حيث طلب من وزيره “رشيد الدين” أن يكتب تاريخ القبائل المغولية وغزواتها، فألف “رشيد” كتاب “جامع التواريخ” ثم عهد إلى مجموعة من الفنانين إنجاز رسوم ملونة لكتابه، فانجزوا له أكثر من عشرين منمنمة لم يبق منها إلا اثنتين فقط، وتكشف كل منهما عن تنوع باهر في الأساليب، إذ تمتزج فيهما المؤثرات العربية الفارسية والصينية، مؤكدة على الطابع الخاص للمنمنمات الإيلخانية التي مهدت لولادة مدارس فنية جديدة، بدأت تطالعنا في رسوم المخطوطات المنفذة في ظل الحكم “الجلائري”، الذي حكم العراق وجزءا من إيران بعد انهيار الدولة الإيلخانية، وتميز الجلائريون برعايتهم الفائقة للآداب والفنون، وخاصة فن المنمنمات، حتى أن السلطان الجلائري “عويس” كان رساما بارعا لفن المنمنمات.

ومن الزاوية الفنية تأتي العديد من المنمنمات العربية لتدلل على الخصائص المعروفة للفن الشعبي العربي، والذي يتمثل في إعادة تصوير الأبطال الإسلاميين أو الشخوص الشعبيين، وهم في حالة صراع مع أعدائهم من بشر وحيوانات خرافية، وهي إحدى الموضوعات الأثيرة في الفن الشعبي الإسلامي، ومن ثم تعد تقاليد رسم الأبطال والأولياء مع أعدائهم تقاليد راسخة منذ القرن الخامس عشر في كل من إيران والعراق ومصر، وهذه الأفكار مستعارة بدورها من أدب وتواريخ مكتوبة في فترات أبعد، بعضها مستلهم من تاريخ “الواقدي وفتوحاته المعروفة”، والمشحونة بشطحات أقرب للخرافة منها إلى الواقع الحقيقي، وبعضها الآخر يمكن أن نجده في قصص “ألف ليلة وليلة”، وقصصها المثيرة التي أعاد الرسم الشعبي تمثيلها على طريقته الخاصة.

ومنذ نهاية القرن السابع عشر عادت المنمنمة إلى تألقها لتختصر مسيرة الفنون الإسلامية عامة، بعد أن تمكن العديد من الفنانين العرب والمسلمين من ابتكار لغة تشكيلية خاصة بهم، تقوم على منطق جمالي متكامل، باستخدام اللون وشكل الحرف العربي كوسيلة تعبير أساسية، والتي بهرت كبار فناني الغرب.

ويقول طارق الكحلاوي، الباحث في تاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية: إن مرحلة الدولة الأموية شهدت ما يمكن اعتباره تأسيسا عربيا لفن عربي خاص فيما يتعلق بالمنمنمات. ويشير في هذا الصدد إلى ما تمثله فسيفساء المسجد الأموي في العاصمة السورية دمشق، بالإضافة إلى العديد من نماذج المنمنمات التي يصفها بالأكثر إثارة، والموجودة في القصور الأموية التي يرجع تاريخ بنائها للنصف الأول من القرن الثامن الهجري، خاصة قصر خربة المفجر، وقصر عمرة، وقصر الحير الشرقي، لافتا إلا أنها بالرغم من أن هذه المرحلة من مراحل التأسيس لفن المنمنمات العربية، إلا أن هذه المنمنمات استفادت من التقنية المعروفة باسم “الفريسكو”، وهي تقنية فنية ظهرت ملامحها بجلاء في لوحات المنمنمات الموجودة في جدارية خربة المفجر في سوريا.

اقرأ/ي أيضًا| بوذا .. الحكيم الغامض قائد الملايين

التعليقات