خليل مطران وتجربة التجديد

انخرط مطران في صفوف المجاهدين بالكلمة وإبداء الرأي حتى يستنهض الضمير العالمي لنصرة القضية العربية

خليل مطران وتجربة التجديد

لُقب بشاعر القطرين (مصر ولبنان،) ولكن بعد وفاة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم لقب بشاعر الأقطار العربية، هو خليل مطران الذي ولد في عام 1872م وتوفي في عام 1949م، وهو من أوائل الرومانسيين العرب المجددين.

بين معابد وجدران بعلبك شبّ الفتى وتحيطه الطبيعة البكر والعبق التاريخي، وتتلمذ مطران على يد إبراهيم وخليل اليازجي، ليدخل إلى عالم الشعر، بينما وقائع الظلم والاستبداد تتراءى أمام عينيه، مما كان له الأثر في ميله إلى شعر الوطنية والحماسة يستنهض بها همم شعبه لمواجهة سطوة المحتل، فقد عانى عرب لبنان من وطأة الحكم العثماني، ولم يملك الشاعر الشاب سوى القصائد ليعبر بها عن رفضه لهذا الواقع المزدوج بين رومانسية الموطن وقسوة الاضطهاد، ولم يرض الأتراك عن الشاعر الثائر وقصائده الحماسية، فتعرض مطران لضغوط ومضايقات كادت أن تودي بحياته، حتى استحال له العيش في لبنان، وقرر الهجرة إلى فرنسا في عام 1890م.

رحلة الحرية

استقل مطران الباخرة في ليلة من ليالي الصيف، وحين رست في مدينة الإسكندرية بضعة أيام، التقى خلالها بسليم تقلا أحد مؤسسي جريدة الأهرام، وكان تقلا صديقًا لوالده، حيث بيّن مطران أنه لم يطلب الفرار خوفًا من بطش الأتراك، ولكن لمواصلة الجهاد من أجل الاستقلال والحرية، وفي باريس التقى مطران بإخوانه هناك من سوريا ولبنان والذين سبقوه في الهجرة والفرار من بطش الحكم التركي.

وانخرط مطران في صفوف المجاهدين بالكلمة وإبداء الرأي حتى يستنهض الضمير العالمي لنصرة القضية العربية، الأمر الذي دفع السفير التركي أن يؤلب عليه الحكومة الفرنسية، وتجددت الضغوط والمضايقات، فآثر مطران الهجرة إلى مصر وبقي فيها حتى رحيله في عام 1949.

يعتبر مطران من شعراء الموجة الثانية التي جنحت نحو التجديد مع الالتزام بالتقاليد الشعرية الراسخة، وفي هذا الإطار رأى البعض أن مطران شاعر كلاسيكي، تأثر بالرومانسية الفرنسية، ونقل حساسيتها إلى العربية الأصيلة التي كتب بها، كما نقل موضوعاتها وأساليبها، ولكنه بقي محافظًا على الشكل والأوزان الخليلية والقوافي، منطلقًا من منظوره الخاص للشعر كرؤية فنية للحياة، وضرورته للتعبير عن المشاعر الإنسانية والقضايا المصيرية، فقد كان شاعرًا منددًا بالظلم، داعيًا للحرية، بينما رأى البعض الآخر أن مطران كان شاعرًا أقرب إلى التراث والمحافظة أكثر مما هو شاعر للمستقبل.

الإحياء والتجديد

ويمكن القول إن شعر مطران يمثل عنق الزجاجة أو الحد الفاصل بين الإحياء والتجديد، ولهذا لم ينكر معاصروه دوره الرائد في الشعر والثقافة العربيتين، وكان لمطران تلاميذه الذين استفادوا من ثقافته وتجربته الإبداعية الرائدة، ومنهم مؤسس مدرسة أبوللو الشاعر أحمد زكي أبو شادي، تلك المدرسة التي ضمت كثيرًا من الشعراء الشباب في ذلك الوقت، مثل علي محمود طه، وصالح جودت، وشهدت صفحات مجلة أبوللو أخصب الإبداع الشعري لهؤلاء، وفي ذات الوقت الذي حفز فيه مطران الشعراء الشباب على الابتكار والتجديد، كان ولعه الشديد باللغة العربية يدعوه لحمايتها من التحريف والتهميش الذي كان يسعى إليه المحتلون من أجل إحداث الفرقة والتشتيت وفقدان الهوية للثقافة العربية، ولمقابلة حركة التتريك آنذاك واكبت حركة الإحياء الشعري ظهور إصدارات صحفية اهتمت بقضايا الثقافة والتعليم والسياسة، وعملت على نقل آراء المفكرين والعلماء في شتى مجالات المعرفة، ولذلك لم يكن غريبًا أن يقوم الأدباء وصفوة المفكرين بمهام صحفية متعددة، فقد ظهرت كتابات صحفية رائدة بأقلام الشيخ الإمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبدالله النديم وغيرهم.

ريادة صحافية

في عام 1900م أصدر خليل مطران مجلة نصف شهرية بالقاهرة (المجلة المصرية)، وقد استمر صدور هذه المجلة عشر سنوات، وتميزت المجلة بطابعها الأدبي إلى جانب الدراسات الفلسفية والتاريخية، وقد اشتغل مطران مراسلا لجريدة الأهرام من القاهرة، حيث مقرها في الإسكندرية، وذلك حتى عام 1899م ليتفرغ بعدها لعمله في (المجلة المصرية) لمدة ثلاث سنوات، ويصدر مطران في عام 1903 جريدة يومية (الجوائب المصرية)، ولذلك فقد شهد معاصروه بإسهاماته في تطوير الصحافة العربية، حيث وجه اهتمامه لمواكبة الحدث اليومي وأخبار المال والتجارة والاقتصاد، ونشر الروايات المسلسلة والقصائد والدراسات النقدية، وقد شارك في النشر بتلك الجريدة كوكبة من كبار الشعراء والمفكرين، من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأنطون الجميل وأحمد محرم وغيرهم، وقام مطران بترجمة مجموعة كبيرة من المسرحيات والروايات العالمية، فصنع جسرًا بين الثقافتين العربية والغربية من خلال انتقائه لكنوز الأدب العالمي.

وقد اختار مطران أن يترك الصحافة بعد 17 عامًا من ممارسته لها ليتفرغ لعطائه الشعري والأدبي بصفة عامة، رغم نجاحه في رئاسة تحرير (الجوائب) وتأسيس نهضة صحفية استفادت منها الأجيال اللاحقة، وظل مطران عبر سنوات عمره السبعة والسبعين يؤدي رسالته الأدبية بين الكتابة النثرية والشعرية، فكتب الشعر القصصي والملحمي والرواية التمثيلية، كما عمل مديرًا للفرقة القومية المسرحية والتي شهدت ازدهارًا للفن المسرحي، فكان ينأى بمسرحه عن الابتذال والسقوط الفكري، فتحققت النهضة المسرحية عبر العديد من الأعمال التي جسدت معاناة الشعب العربي وهمومه وأفراحه ورغبته في التخلص من قيود الاستعمار، كما شغل مطران منصب السكرتير المساعد للجمعية الزراعية الخديوية، حيث ترجم مع الشاعر حافظ إبراهيم خمسة أجزاء عن اللغة الفرنسية لكتاب “موجز علم الاقتصاد”.

في عصر مطران تعددت الألقاب، فهناك شاعر السيف والقلم، وشاعر النيل وأمير الشعراء، ولقب مطران بشاعر القطرين تقديرًا له على عطائه الشعري، وكانت تجمعه صداقة حميمة بشوقي ولم تكن تمر مناسبة دون أن يكتب قصيدة لشوقي أو أولاده، ومع ذلك فقد كان يستشعر اضطهادًا ما وإحساسًا بالمرارة ربما لابتعاده عن وطنه لبنان، فقد عاش حياته في مصر كلها، رجلًا هادئًا وقورًا لا يجد غضاضة أن يكون عضوًا في مدرسة أبوللو التي يترأسها تلميذه أبو شادي، وبذلك ابتعد مطران عن المماحكات النقدية، أو الرغبة في تمجيد الذات، أو افتعال المعارك الشخصية ويكفي أن قال عنه شوقي: “هو صاحب المنن على الأدب العربي”، لم يكن مطران شاعر (القطرين) فقط بل شاعر العرب وأول الرومانسيين الكبار.

الجدير بالذكر أن مطران ولد في 1 يوليو عام 1872  ورحل عن عالمنا في 1 يونيو عام 1949.

اقرأ/ي أيضًا| النكسة في الدراما العربية

 

 

التعليقات