في ما يزيد على 550 صفحة، تُرجم مؤخرًا إلى العربية كتاب الباحث البريطاني وأستاذ السياسة الدولية في قسم الاقتصاد السياسي بجامعة كينغز لندن، جوناثان ليدر ماينارد، بعنوان "الأيديولوجيا والقتل الجماعي: السياسات الأمنية المُردكلة للإبادات الجماعية والفظائع المميتة". صدر الكتاب بطبعته الأولى عن دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر لعام 2025، بترجمة محمد الدخاخني.
ولما كان القتل الجماعي مجمعًا عليه بوصفه فظائع ناتجة عن حملات منسّقة وواسعة النطاق من العنف المميت، تستهدف المدنيين بشكل منهجي، في سياقات مختلفة: من الإبادات الجماعية إلى الحملات الإرهابية الكبرى، ومن القصف الجوي إلى المذابح التي تنفذها منظمات شبه عسكرية، فإننا إذا ما قاربنا هذه المظاهر المختلفة للقتل الجماعي، نجدها تتكثّف كلها، أو معظمها على الأقل، في الحرب الدائرة اليوم على قطاع غزة.
ينطلق ماينارد في كتابه المطوّل من سؤال أساسي مفاده: لماذا تحدث عمليات القتل الجماعي؟ وكيف يبدأ البشر في ارتكاب هذه الفظائع، ويشاركون فيها، ويدعمونها ضد رجال ونساء وأطفال عزل؟ لا يُحيلنا سؤال ماينارد إلى سياسات جيش الاحتلال الإسرائيلي بقدر ما يدلّنا على اصطفاف المجتمع الإسرائيلي اصطفافًا عصبيًا وعُصابيًا خلف ممارسات جيشه، حتى بعد أكثر من ٢٠ شهرًا على بدء الإبادة في غزة.
قبل محاولته الإجابة، يستعرض الكاتب ثلاث وجهات نظر شاعت في القرن العشرين لتفسير ظاهرة القتل الجماعي:
الأولى ترى أن الجناة غالبًا ما يُقدّمون كمجانين، سيكوباثيين وساديين، أو كأشخاص استُفزّوا عمدًا نحو ضرب من الجنون الجماعي، كغضبٍ وكراهية عامّين.
الثانية تعتقد أن القتل الجماعي يفضح الطبيعة العدوانية والمدمرة للفطرة البشرية، خصوصًا عندما تُزال قيود القانون والنظام، فيُطلق عنان الميل الفطري للعنف.
أما الثالثة، فتقترح أن الجناة يتصرّفون مكرهين، باعتبارهم أعضاءً في مجتمعات توتاليتارية أو منظمات عسكرية قاسية، يقتلون لأنهم يواجهون تهديد الموت إذا عصوا الأوامر.
لكن أبحاث العقود الخمسة الأخيرة، برأي الكاتب، تدحض هذه التفسيرات الثلاثة، ببساطة لأن "الناس العاديين، مثلك ومثلي، هم من يرتكبون الإبادات الجماعية وعمليات القتل الجماعية"، كما يقتبس ماينارد عن عالم النفس جيمس والر.
ولطالما شبك الكاتب بين القتل الجماعي والأيديولوجيا، منذ عنوان الكتاب، فقد رأى أن تفسير ظاهرة القتل الجماعي، أو الإبادة بنسختها الغزّية، يستوجب استدعاء مفهوم الأيديولوجيا بوصفه: "تصورًا متمايزًا للأفراد والجماعات والمنظمات، يوفّر مجموعات من الأفكار التفسيرية والتقييمية لتوجيه الفكر والعمل السياسيين". فالأيديولوجيا تلعب دورًا مركزيًا في تحديد كيفية تفكير المجتمع تجاه عمليات القتل الجماعي، وشرعنتها وتنظيمها علنًا، ما يجعل القتل الجماعي، رغم كارثيته الأخلاقية والاستراتيجية، يبدو مفيدًا من الناحية الاستراتيجية وقابلًا للدفاع عنه أخلاقيًا.
ولأن هناك من يشكّكون في دور الأيديولوجيا وأثرها، يتناول ماينارد حججهم:
- الحجة الأولى تقول إن قلّة من الجناة تبدو مدفوعة فعليًا بالتزامات أيديولوجية عميقة، كما توحي بذلك المنظورات التقليدية.
- والثانية ترى أن الأيديولوجيات الراديكالية، حتى لو أثّرت في الجناة، فهي في حد ذاتها أعراض لأسباب اجتماعية أو سياسية أكثر جوهرية، كالحروب أو الأنظمة السلطوية أو الاضطرابات المجتمعية.
يتحدى ماينارد هذين التوجهين، لا ليقف بينهما موقفًا توليفيًا، بل ليعيد النظر في الأيديولوجيا من منظور جديد، يسميه "المنظور الأيديولوجي الجديد". ووفق هذا المنظور، فإن الأسس الأيديولوجية الحاسمة للقتل الجماعي ليست الطموحات اليوتوبية أو الكراهية الاستثنائية، بل الأفكار المرتبطة بالأمن والحرب والنظام السياسي. فبدلًا من التخلي عن البراغماتية الاستراتيجية، يتم دمجها داخل بنية أيديولوجية.
تمامًا كما لا تلغي فكرة "إسرائيل الكبرى" أو "من البحر إلى النهر" – التي باتت اليوم أكثر حضورًا في وعي قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي – الاعتبارات الأمنية، فإن الأخيرة تشكّل بحد ذاتها عقيدة أيديولوجية. وهذا ما يفسّر اصطفاف المجتمع الإسرائيلي خلف جيش الاحتلال وحربه الإبادية على غزة، بأقل تكلفة ممكنة من تأنيب الضمير. فيغدو كل من الأمن والضبط والانتقام، ليس مجرّد سياسات، بل سرديات تبريرية للقتل الجماعي، يتبناها المجتمع كممارسات أيديولوجية حيوية، لا يمكن فصلها عن سياقاتها الفكرية والسياسية.
يخلص ماينارد إلى أن الإبادة الجماعية تُفهم بشكل أفضل بوصفها "سياسات أمنية مُردكلة أيديولوجيًا"، أي كنهج متجذر في البنية الأيديولوجية والمؤسسية، لا كحدث طارئ أو استثناء. ويصف الفاعلين المركزيين في هذا القتل – من القادة السياسيين إلى المجتمع الأوسع – بأنهم "متشددون أمنيون"، يروّجون لعنف هائل ومخطط ضد مدنيين عُزّل، بدعوى تعزيز أمن المجتمع أو النظام أو الجماعة.
ورغم أن الكتاب كُتب قبل حرب الإبادة الجارية على غزة، وقد تُرجم إلى العربية أثناءها، فإن مقولة مؤلفه والتجارب التاريخية التي يسردها، تقدّمان إجابة غير مباشرة عن سؤال الإبادة في غزة، وتوفّران إطارًا تفسيريًا لفهم انخراط الدولة والمجتمع في إسرائيل في تبرير القتل الجماعي، عبر قناعة عصابية مفادها: "القتل هو المسار الصحيح الذي يجب اتخاذه".
التعليقات