من فلسطين: في رحيل الشاعر طليع حمدان

هو سليل الحمدانيين، العائلة التي يعود أصل موطنها إلى نواحي حلب قبل أن تنداح منذ قرون جنوبًا إلى كل رقعة وبقعة في جغرافيا دروز الشام ما بين سورية ولبنان...

من فلسطين: في رحيل الشاعر طليع حمدان

الشاعر طليع حمدان (Getty)

في واحدة من أحلى وأخشن مباريات تحدّي الزجل الشعبي اللبناني، دارت بين كلٍّ من الشاعرين زين شعيب وطليع حمدان في ثمانينات القرن الماضي، معروفة بـ"حفلة بيت الدين"، عاب فيها الثاني على الأول برَدّة معنّى قائلًا له:

دينك دينارك ما بتعرف غير دين
ومن شان تربح كم ليرة يا فطين
الـ بتقولهن بالشوف برعاية وليد
بتقـولهـن بالمتن برعاية أمين...

عن وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، وأمين الجميّل زعيم حزب الكتائب كان يقصد طليع، ضمن اصطفاف الاحتراب السياسي – الطائفي في لبنان وقتها. ضحك جمهور المباراة يومها ومعه زين شعيب "أبو علي" نفسه، والذي ردّ على طليع برَدّةٍ من جملة ما جاء فيها:

مش عيب اقبض حق شِعري يا طليع
دخلك أنت كيف عايش وشو عم تبيع؟

لم يعش طليع من شعر الزجل بقدر ما عاش له، طليع حمدان "أبو شادي" ابن ضيعة عين عنوب في قضاء عاليه من جبل لبنان، قرية العنب في أصل تسميتها، والتي استوحى أبو شادي من قطوف دواليها ذات مرة رَدّة موشّح تقول:

ما كان الصيف بـ حبّو
إسوَد العنقود
لوما حبّاتو يحبوا
عينيكِ السود...

وهو سليل الحمدانيين، العائلة التي يعود أصل موطنها إلى نواحي حلب قبل أن تنداح منذ قرون جنوبًا إلى كل رقعة وبقعة في جغرافيا دروز الشام ما بين سورية ولبنان. كانت نفسها العائلة التي أسّست لأول وجود درزي في جبل حوران، الذي سيظل في سورية جبل العرب عربيًّا رغمًا عن أنف الجميع، وفي جبال شوف لبنان حيث كاغى فيها شاعرنا الراحل طفلًا، ليقول:

تـأسكن بين جفونك
وعيونك شوف
هني الـ خلوني عيونك
أسكـن بالشوف...

رحل طليع حمدان أمس، بعد سيرة شعرية كانت أطول من عمره الذي تجاوز الثمانين. طليع الملقّب بـ"أمير المنبرين" و"شاعر الربيع" يرحلُ كآخرِ حجرٍ في مدماك جوقة زغلول الدامور للزجل الشعبي، والتي انطلق منها طليع برفقة الزغلول وزين شعيب وخليل شحرور وإدوار حرب وغيرهم إلى لبنان مُشعرن يلوّنهُ نيسان الربيع ولسان طليع معًا. وذلك قبل أن يؤسّس أبو شادي لجوقته الخاصة به، جوقة الربيع، ليتكثّف لبنان كله ربيعًا في قصائد من بنت المعنّى والقرّادي، شروقيات وموشّحات، زجل وغزل. ومن هذا الأخير كان أجمل ما سمعناه من فقيدنا:

ضايع ورحت امشي تـ الاقيكي
وخفت من كُتر ما أنا جايع
لهفة الجايع تلتقي فيكي
وتضيع مني لهفة الضايع...

يضيع من لبنان وشِعره بغياب طليع، الذي كنّا نحن من جيل "الكاسيت والتسجيل" في جليل فلسطين، قد تعرّفنا إلى بُحّة صوته قبل أن نتعرّف إلىملامح وجهه. كانت أول مرة استمعتُ فيها إلى صوته في حفلة "الغازية" مسجّلة عبر شريط الكاسيت، وأذكر صاحب الصوت الرخيم الذي افتتح بقصيدة يقول مطلعها: أنا ابن العرين الجنلاطي... ع دربك يا جنوب العز خاطي... ثم أردف يناجي جنوب لبنان المُحتلّ في حينه، إلى أن قال مخاطبًا إيّاه:

شو بعطيك شو بجبلك هدية
ومثل ما الشوف عاطي انت عاطي
جبت شمخة جباله السرمدية
تـ مرقت البحر من تحت اباطي
ومن شحّارنا جايب تحية
لـ محمد سعد ع هالشواطي...

ما إن ذكر الشاعر اسم محمد سعد، حتى هبّ جمهور الحفل مستنفرًا، صفيرٌ ونفيرٌ وتصفيق، وفجّة زغاريت من كل فج عميق. كان سعد، مناضلًا في صفوف حركة أمل اللبنانية، وقائدًا لمقاومة ما عُرف بـ"قوس المقاومة أو مقاومة القرى السبع" في قضاء صور الشرقي، في ظل الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني مطلع ثمانينيات القرن الماضي. استُشهد سعد يوم الرابع من آذار/مارس 1985 ومعه بعض رفاقه، بعبوة ناسفة زرعها جيش الاحتلال له في حُسينية قريته "معركة". كنت قد تعرّفتُ إلى صرخة الشهيد محمد سعد وصوت الشاعر طليع حمدان في يومٍ واحد.

وعلى سيرة جنوب لبنان واحتلاله، حيث حباه الشاعر الراحل بقوافي الحب والحرب، فكان من أجمل ما نظمه، أبياتًا متصلة بيوم أن قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي لجسر الأولي على الطريق الذي يصل مدينة صيدا ببيروت العاصمة في مطلع الثمانينيات، إذ قال:

ع جسر الأولي بصيدا الجميلة
مرق جيش إسرائيل بثقل عارو
ولمّا دمرو بضربة ثقيلة
صار الجسر مبسوط بدمارو
وتـينظف من دنس هالإسرائيلي
نزل بالنهر تـيغسل حجارو...

لم يترك طليع حمدان ساحة في لبنان إلا وحضر فيها، ولا مساحة إلا ونظم وغنّى عنها، عن السلم الأهلي والحب، وضد الطائفية والحرب، ولبني معروف عرب، وخيط متين وأمين في نسيج الهوية العربية – الإسلامية أصرّ طليع على ذلك شعرًا. ولسلطان باشا وكمال، لرفض الظلم والنضال، للشعراء ودماء الشهداء، للمرأة والإنسان، للقهر والصبر والإيمان، للصِبا والصلاة والهيام، للزهر والنهر، للأطفال والسلام ولأكمام الورد والخزام، للأرز والسنديان والصمغ وشتلة التبغ، للقهوة والخمر، للجبال والمروج والوديان، للجليل والجولان ومجدل شمس في هذا الأخير، قال لها طليع مرة:

يا شمس المجد الحرة
فيكِ تغيبي بالمرة
وعن حرية مجدل شمس
ما فيكِ تغيبي مرة...

ما لم تجبه قدما طليع في المشرق العربي، جابته قوافيه بالتأكيد، وفلسطين حاضرة لا تحتضر في شعره بالطبع. أساسًا كان من آخر ما نظمه أبو شادي في آخر أيامه لفلسطين وأطفالها، في ظل إبادتهم في غزة:

وجيل لحجارة كان يخزي العين
تقلو الحجارة عجّل ارميني
يا طفل وحدك عم تقاتل بين
حُكّام للسهرات والزينة
وتقلب حجار النهر ع الميلين
تصرخ يا واد السحر لمّيني
نهرين نزلوا من الجبل طفلين
عم يضربوا حجارة بلا إيدين
تيساعدوا الطفل الفلسطيني...

من يرثي طليع حمدان في رحيله، وكان مِن أشجن مَن رثى صديقًا وأبّن رفيقًا، ففي تأبين رفيق دربه الشاعر خليل شحرور ودّع هذا الأخير على أنه فلسطيني بقدر ما هو لبناني، لأن شحرور من مواليد قرية هونين المهجّرة في أعالي الجليل عام 48. وظلَّ يُذكّر في رحيل زين شعيب في كل محفل نادبًا إياه، كما كان لرثائه الزغلول جلال وجمال معًا، بقوله:

زغلول يا غالي عليّ كتير
بالقبر دفن الشاعر بـ يجرح
دخلك بـ هالمطرح حرام تصير
يا ريت فيي غير المطرح
وادفنك بحوض ورد صغير
تـ اقشعك لو غمّض وفتّح
بين الورد والقبر فرق كبير
إن دقيت ع الوردي بفتحلي
إن دقيت باب القبر ما بيفتح.

يرحلُ طليع حمدان لينكّس أرز لبنان برحيله شلوحهِ، بينما يلملم سنديان الجنوب جروحه، وفي الجولان والجليل، وكذلك في غزة النخيل... يرحل أبو شادي والبيوت مركومة في كل جنوبٍ من برّ الشام، وقد غنّى لها طليع مرة أبياتًا:

إن هدّوا بيتك يا مقاتل
غنيلك بيت
البيت حجارو بتقاتل
مع أهل البيت...

سلامٌ على طليع حمدان إلى أن يعود ويُكاغي شِعرًا في جبلٍ ما، ومن فلسطين سلام.

التعليقات