"ما إن يبدأ مفعول أفيون البنج بالعمل في رأسه حتى يصبح قادرًا على رؤية بلاد الهند من الكرمل..." كان هذا ما قاله الرحالة الفرنسي لوران دارفيو في رحلته إلى جبال الكرمل عن الأمير محمد طراباي "تُرابي"، زعيم الإمارة العربية الحارثية على ساحل فلسطين في أواسط القرن السابع عشر.
على ما يبدو، فإن البنج الذي كان الأمير وحاشيته يتناولونه لم يكن في حينه يُعتبر تعاطيًا، ولا من الممنوعات على سفوح جبل الكرمل في ساحل فلسطين، بحسب صاحب الرحلة، الذي سمّاه في نص رحلته "البيرج"، تمامًا كما كان البطيخ الذي اعتاد أبناء عربان الإمارة الحارثية تناوله أو تقديمه لضيوفهم كمرطّب من المرطّبات.
بعنوان "الحياة على جبل الكرمل – حيفا: رحلة الفارس لوران دارفيو إلى الإمارة الفلسطينية الحارثية في حيفا سنة 1664"، يصدر قريبًا بطبعته الأولى عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كتابُ رحلة التاجر الفرنسي دارفيو إلى جبل الكرمل، ترجمة جمال أبو غيدا، وقدّم له الدكتور جوني منصور.
ما انفك أبو غيدا، بدوره، منذ سنوات، عن اقتفاء أثر الرحّالة الأوروبيين إلى فلسطين، إذ ترجم من قبل عدّة رحلات تعود لأواسط القرن التاسع عشر، منها: "الحياة في بيوت فلسطين" لماري إليزا روجرز، و*"أزمنة مثيرة"، و"دروب غير مطروقة في فلسطين"* للقنصل البريطاني جيمس فِن، وكذلك رحلة "بعثة مشاة البحرية الأميركية (المارينز) لاستكشاف نهر الأردن والبحر الميت" للبحّار الأميركي وليام فرانسيس لينش.
غير أن ما يميز كتاب التاجر الفرنسي دارفيو، أنه عن رحلة إلى فلسطين القرن السابع عشر، حيث نزل دارفيو ضيفًا لدى الأمير الحارثي أحمد طراباي "تُرابي" في جبل الكرمل على ساحل فلسطين.
قليلة هي المراجع والأبحاث وكتب الرحلات المنقولة إلى العربية عن تلك المرحلة من تاريخ فلسطين في أوج عثمانيّتها، فضلًا عن أن كتاب الرحلة ظلّ على طول صفحاته مقيمًا في مضارب
الإمارة الأعرابية الحارثية على سفوح الكرمل جنوبي حيفا، الأمر الذي يُسلّط للقارئ الفلسطيني والعربي عمومًا الضوء على دور واحدة من أبكر وأشهر الأسر العربية المحلية التي حكمت لواء اللجون ما بين الساحل ومرج ابن عامر شمال فلسطين (1480–1677م)، بتفويض رسمي من السلاطين العثمانيين في حينه.
كان الدافع الأساس وراء اختيار المترجم لهذه الرحلة، أنها تتناول منطقة جنوب حيفا، حيث قرية أبو غيدا المهجّرة، طيرة الكرمل أو طيرة اللوز؛ حنينٌ للوطن ومدبّ الرأس، وفر لنا كتابًا آخر في رفّ مكتبة أدب الرحلة الأوروبية إلى فلسطين.
صاحب الرحلة
لم يأتِ لوران دارفيو إلى الكرمل مستكشفًا، إنما موكّلًا بمهمة من البلاط الملكي الفرنسي في عهد لويس الرابع عشر (1638–1715)، وهي مهمة دبلوماسية متصلة بحماية الرهبان الكرمليين، على أثر الاتفاقية التي أبرمها الأب بروسبير، مؤسس عودة الرهبان الكاثوليك إلى جبل الكرمل، مع ديمتريوس سكرتير الأمير الحارثي الأب أحمد طراباي سنة 1631م، والتي اقتضى بموجبها منح الرهبان مغارة النبي إلياس والأراضي وحجارة الخرائب المحيطة بها في جبل الكرمل من أجل بناء كنيستهم وديرهم فيه، مقابل مبلغ من المال، وحمايتهم في الوقت نفسه.
وبحكم عمله في التجارة، ورحلاته المتكرّرة إلى أراضي الدولة العثمانية، خصوصًا بلاد الشام، أمضى دارفيو سنوات عدة في سورية وفلسطين إلى أن أتقن اللغتين التركية
والعربية، وكذلك السريانية، فضلًا عن معرفته وإلمامه بطباع وعادات سكان المنطقة، مما سهّل عليه إقامته في مضارب الأمير وتواصله مع عربان الإمارة من جانب، وفهمه لطبيعة حياة الأمراء الحارثيين من آل طراباي وعربانهم من داخلها، من دون أي حمولة استشراقية مسبقة عن المنطقة وأهلها من جانب آخر. فمن أهم ما تُبيّنه رحلة دارفيو إلى الكرمل، أنها بعيون صاحبها، بعيدًا عن هواجس بعث الخريطة "الدينية – التوراتية" لفلسطين، كما سيفعل م عظم الرحّالة الأوروبيين لاحقًا، وربما لأن دارفيو كان كاثوليكيًا، وتاجرًا أوكلت إليه مهام دبلوماسية، كما لم يكن سؤال "إعادة" اليهود إلى فلسطين قد تشكّل في أوروبا بعد. طبعًا، لم يخلُ نص الرحلة من ملاحظات نقدية لاذعة سجّلها دارفيو عن إيقاع حياة الأمراء وعربانهم على سفوح الكرمل.
في سنة 1679، عُيّن لوران دارفيو قنصلًا في طرابلس وحلب، واستمر في منصبه حتى العام 1686، وعاد نهائيًا إلى فرنسا في العام 1689، وتوفي فيها سنة 1702 عن عمر ناهز الثمانين عامًا.
الرحلة
بعد أن أرخى لحيته على طريقة أهل البلاد، وبلباسٍ عربي، ومعه بعض أفراد حاشيته المسلحين بالمسدس وبنادق "المسكيت"، انطلق لوران دارفيو إلى جبل الكرمل من مدينة صيدا الساحلية، في يوم 16 آب/أغسطس 1664، محمّلًا كما يذكر، بقوارير نبيذ "روزا سوليس"، والتبغ البرازيلي، والخرز المصنوع من المرجان، هدايا للأمير. وقد بقي ضيفًا في كنف الأمير محمد بن أحمد طراباي "تُرابي" حتى مطلع العام التالي.
لم يُعْنَ دارفيو بجغرافيا الكرمل ومنطقة حيفا، بقدر ما عنته حياة الأمير طراباي وباقي الأمراء وعربانهم في خيام مضاربهم الحارثية على سفوح الكرمل، لناحية عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. فكان أفيون البنج، الذي تناوله الأمير وحاشيته وقدّمه لضيفه في أول ليلة من وصوله، أكثر ما استوقف صاحب الرحلة، حيث وصف الطريقة التي كان يتم فيها تناوله: "فقام الأمير بأخذ قدر صغير منها، ووضعها في فمه، ثم شرب وراءها فنجانًا من القهوة، ثم أخذ نفسًا عميقًا من دخان غليونه".
كما أشار دارفيو إلى ظاهرة "إراقة النبيذ"، أي احتسائه بنهم في مضارب الأمراء الحارثيين، مع حفاظهم على وقارهم في سكرهم. وقد تعوّد أهالي ساحل فلسطين العرب خزن النبيذ في جرار الفخار، وليس في براميل الخشب كما هي عادة تعتيقه في الغرب، بحسب صاحب الرحلة.
كما لم يترك دارفيو جانبًا ولا تفصيلًا اجتماعيًا إلا وقد جاء عليه في حياة الأمراء وإمارتهم في الكرمل: الزيّ واللباس، الطعام والمطبخ، الموسيقى والغناء، طقوس الزواج والموت، الألعاب ووسائل الترويح عن النفس، حُليّ النساء وزينتهن. واللافت إشارة دارفيو إلى خيام منفصلة عن خيام مضارب الأمير لبنات الهوى "البغايا"، كان يأتي بهنّ الأمير من دمشق "لإرضاء وإشباع رغبات أولئك الشبان الذين يفتقرون إلى الوازع الأخلاقي أو الديني الذي يساعدهم على أن يحيوا حياة تمتاز بالعفّة والطهارة... فقد قام الأمير بفرض ضريبة واجبة السداد على كل من كان يتردد على خيامهن، وقد حدد تلك الضريبة بمبلغ خمسة عشر بنسًا على الزيارة الواحدة...".
وكذلك الهرمية الاجتماعية في مضارب الإمارة: من الأمير الأكبر، مرورًا بالأمراء التابعين له من آل طراباي، نزولًا إلى الفرسان، ثم الحاشية والخدم، وأخيرًا العبيد، ثمّ فلاحو القرى المحيطة بالمضارب. إذ أشار دارفيو إلى قرية أم الزينات، في جنوب الكرمل، كقرية – مركز تتبع للإمارة الحارثية، معظم سكانها فلاحون مسيحيون. غير أن السياق الذي أشار فيه صاحب الرحلة إلى قرية أم الزينات، حيث كان يذهب إليها لإقامة قدّاس الأحد، جاء في سياق حديثه عن حسن الميورقي، الذي أقام في أم الزينات أسيرًا في كنف الأمير طراباي.
وحكاية حسن الميورقي تُحيلنا إلى ظاهرة في حينه، أكثر ممّا تُقصّ علينا حكاية شخص وقع في أسر الأمير. منحه الأمير اسمه "حسن" بعد أسره كقرصان إسباني، ومن هنا لقبه "الميورقي" نسبة إلى مايوركا الإسبانية، ومعه قرصان فرنسي آخر، وقعا في أسر فرسان الأمير على شاطئ البحر. وقد خيّرهما الأمير بين العبودية واعتناق الإسلام وختانهما. وافق الفرنسي على اعتناق الإسلام، لكنه توفي بعد شهور بسبب حُمّى ألمّت به إثر ختانه. غير أن حسن الميورقي رفض اعتناق الإسلام، ومع أن الأمير أمر بختانه مُرغمًا، إلا أنه ظلّ على ديانته، مما زاد الأمير طراباي إعجابًا به، فزوّجه من عبدة زنجية تُدعى "عيشة"، وظلّ سنوات يقيم ما بين أم الزينات ومضارب الأمير في الكرمل، إلى أن تمكن من الفرار والعودة إلى بلاده مطلع عام 1665م.
كانت مراقبة البحر والقادمين منه، وهاجس تعدّيات القراصنة، ظاهرة من إرث الحملات الصليبية التي ظلّ السلاطين العثمانيون يهجسون بها على ساحل المتوسّط. فكانت حماية أبواب البحر واحدة من المهام الموكلة للأمير الحارثي وعربانه. فقد أشار دارفيو إلى قرية الطنطوره باسم "الطرطورة"، غربيّ الكرمل على شاطئ البحر، بوصفها بلدة مرفئية ترسو فيها السفن، وفيها برج مراقبة، قبل أن يتم استحداث أي ميناء آخر على ساحل شمال فلسطين. كما أشار دارفيو في السياق ذاته إلى دور الرهبان الكرمليين في جبل الكرمل، وتطوّعهم لافتداء كل قرصان أوروبي يقع أسيرًا في قبضة الأمير، مقابل مبلغ من المال.
في المقابل، يشير صاحب الرحلة إلى الأمير طراباي الحارثي بوصفه متسلّمًا يجمع الضرائب المستحقة من فلاحي منطقة لواء اللجون ومرج ابن عامر شرقيّ الكرمل لصالح السلطان العثماني. وقد جاء دارفيو على ذكر الحملة التأديبية التي جردها الأمير طراباي على فلاحي المرج وقرى نابلس، في خريف عام 1664، بعد أن تخلّف الفلاحون عن دفع الضريبة بسبب أسراب الجراد التي جاءت على محاصيلهم، وحتى القطن في المخازن، ما أدّى إلى مجاعتهم في ذلك العام. ومع ذلك، هاجم فرسان الأمير، وعلى رأسهم الأمير نفسه، قراهم. وقد وصف دارفيو الطريقة التي كان يُستنفر فيها فرسان الأمير طراباي وعربانه، عبر ربط مناديل بيضاء على أسنّة الرماح كإشارة استنفار واستعداد للحرب.
في الأخير
تظلُّ رحلة دارفيو إلى الكرمل، وإقامته في مضارب الأمير محمد بن أحمد طراباي "تُرابي"، واحدة من أهم الرحلات التي تُنقل إلى العربية عن تاريخ الإمارة الحارثية وآل طراباي، ونفوذهم المحلي في اللجون وعلى ساحل فلسطين. فضلًا عن زخم التفاصيل المتصلة بالجانب الاجتماعي من حياة عربان الإمارة في مضاربهم، والقرى المحيطة بهم في فلسطين القرن السابع عشر.
التعليقات