تشهد العملات الرقمية – وتحديدًا "العملات المستقرة" (Stablecoins) – تحولًا لافتًا في المشهد الاقتصادي العالمي، إذ باتت تقترب من موقع محوري في النظام المالي، مدفوعة بارتفاع أحجام التداول وتنامي الاهتمام المؤسسي، إلى جانب تطورات تنظيمية متسارعة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وبينما يُنظر إليها كأدوات واعدة للابتكار المالي، فإنها تثير في الوقت ذاته قلقًا متزايدًا لدى الجهات التنظيمية بسبب ضعف الرقابة واحتمالات الاستغلال غير المشروع.
طفرة في التداول: الأرقام تتحدث
بحسب تقرير نشره موقع "ماركيت ووتش"، بلغ إجمالي حجم التداول العالمي للعملات المستقرة حتى نهاية مايو 2025 ما يقارب 247 مليار دولار، وهو ما يعادل تقريبًا 10% من إجمالي النقد الأميركي المتداول.
وتُستخدم هذه العملات، التي تكون عادة مربوطة بالدولار الأميركي، كوسيلة لتسوية المعاملات الرقمية بسرعة وبتكاليف منخفضة، خصوصًا في الأسواق التي تعاني من ضعف في البنى المصرفية أو قيود على السيولة.
هذا النمو في اعتماد العملات المستقرة – وعلى رأسها "USDT" التابعة لشركة Tether و"USDC" التي تصدرها Circle – يشير إلى انتقال هذه العملات من هوامش الاقتصاد الرقمي إلى صلبه، وسط تزايد استخدامها في مجالات تمتد من التجارة الإلكترونية إلى تحويلات الأموال العابرة للحدود، وحتى تمويل الشركات الناشئة.
تنظيمات جديدة في واشنطن ولندن: من الفوضى إلى الانضباط؟
في الولايات المتحدة، يتقدّم مشروع قانون جديد يعرف باسم "GENIUS Act" يهدف إلى إخضاع العملات المستقرة لقواعد أكثر صرامة، تتضمن الإفصاح الإلزامي عن احتياطاتها، متطلبات رأسمالية للمُصدِرين، وتدقيق دوري من مؤسسات مالية مستقلة.
وعلى الرغم من الترحيب بهذا التوجّه من قِبل بعض الأطراف المالية، إلا أن نقّادًا أشاروا إلى ثغرات في المشروع، خاصة فيما يتعلق بحماية المستهلكين، وآليات فرض الامتثال الفعلي.
في المقابل، اتخذت المملكة المتحدة خطوة مفاجئة بالإعلان عن نيتها رفع الحظر المفروض على بيع المنتجات المالية المرتبطة بالعملات الرقمية للمستثمرين الأفراد – مثل الصناديق المتداولة في البورصة (ETNs) – وذلك بعد ست سنوات من التجميد.
واعتبرت هيئة الرقابة المالية البريطانية (FCA) أن البيئة التنظيمية أصبحت أكثر نضجًا، وأنّ الوقت قد حان لإدماج العملات الرقمية ضمن الإطار المالي الرسمي، وإن بشروط صارمة.
ثقة الأسواق ترتفع... ومعها المخاوف
إلى جانب التفاؤل الذي صاحب هذه الإجراءات، ظهرت مخاوف حقيقية حول تأثير هذا الدمج على استقرار النظام المالي التقليدي. إذ أن جزءًا كبيرًا من احتياطات العملات المستقرة يُستثمر في أدوات قصيرة الأجل مثل سندات الخزانة الأميركية، وهو ما قد يزيد من الضغط على البنوك، ويؤثر بشكل غير مباشر على أدوات السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي.
كما أن ضعف الرقابة على عمليات التحويل والتداول في بعض الشبكات غير المركزية يجعل العملات المستقرة بيئة خصبة لعمليات غسل الأموال، وتمويل الجرائم السيبرانية، ما يفرض ضرورة تطوير أدوات تتبّع ومراقبة أكثر تطورًا، دون خنق الابتكار.
إلى أين تتجه العملات المستقرة؟
يرى الخبراء أن مستقبل العملات المستقرة يتوقف على التوازن بين الابتكار المالي والرقابة التنظيمية. ففي حين تتيح هذه العملات حلولًا فورية وفعالة لأنظمة الدفع والتحويل، فإن افتقارها لإطار قانوني متماسك قد يعرّض الأسواق لمخاطر غير محسوبة.
ويشير المحللون إلى أن الدول التي ستنجح في وضع قواعد ذكية – تمنح الشركات المرونة وتحمي المستخدمين في الوقت ذاته – ستقود الجيل الجديد من الاقتصاد الرقمي.
وفي هذا السياق، تبقى تجارب واشنطن ولندن تحت المجهر، مع ترقّب عالمي لما إذا كانت هذه المبادرات ستشكّل نموذجًا يُحتذى، أم أنها ستنكشف لاحقًا عن مشكلات لم تكن بالحسبان.
التعليقات