بن غوريون محذوفًا: عن "استذكار/ استعادة" لكمال الجعفري

دافيد بن غوريون في إحدى بيّارات يافا [من الشريط]

ما من اختلاف حول أهمّيّة الأرشفة والتوثيق للفضاء الفلسطينيّ وللإنسان فيه، قبل النكبة وبعدها، مرورًا بالتغييرات القسريّة التي تفرضها أدوات الاستعمار الاستيطانيّ على المكان والإنسان.

في استرجاع سينمائيّ خاطف، نلحظ أنّ غالبيّة هذه المحاولات اتّخذت منحًى كلاسيكيًّا وثائقيًّا، من خلال الأرشفة وحفظ الفضاء صوريًّا، للتدليل على الصهيونيّة مشروعًا ينخر جاهدًا، ومن دون توقّف، في الأرض والأفراد معًا.

خروج عن النسق التوثيقيّ

 يشكّل شريط 'استذكار/ استعادة' للمخرج الفلسطينيّ كمال الجعفريّ، الذي حلّ ضيفًا على الدورة الثانية لمهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2017، إحدى أكثر المحاولات اختلافًا وخروجًا عن النسق التوثيقيّ المعتاد، في تناولها لمدينة يافا التي عاش فيها المخرج جزءًا كبيرًا من طفولته.

جمّع الجعفريّ في شريطه عددًا مهولًا من الصور ومقاطع الفيديو، الملتقطة في يافا بين الستّينات والثمانينات من القرن العشرين، والتي اقتطعها من الأفلام الروائيّة الإسرائيليّة، مستعينًا بحيل تقنيّة بسيطة؛ إذ عمد إلى محو الشخصيّات الإسرائيليّة في المقاطع الأصليّة، لا سيّما المركزيّة منها، لنكتشف فضاءً كارثيًّا بامتياز في الخلفيّة: مدينة أشباح تشهد على جرم المستعمر في محاولته للتحايل على المكان وإعادة إنتاجه في سياق وسرديّة استعماريّين خالصين، يريان في الشرق فناءً مثيرًا (إكزوتيًّا)، وفي السكّان الأصلانيّين خلفيّة صامتة ومهمّشة، يتصرّفون وفق ما هو متوقّع منهم كـ 'كومبارس' سينمائيّ يختبئ وراء الجدران، يتلصّصون على شريط تدور أحداثه فوق أرضهم، وهم فيها خارج اللقطة.

RECOLLECTION Kamal Aljafari Trailer from aljafari films on Vimeo.

 

'بالفوكوس' المكتمل

لكنّ الجعفري بتأويله الذكيّ والمتّسق في فيلمه التجريبيّ، يسمح لنا بالتلصّص على أهل المدينة أنفسهم، وعلى أدقّ التفاصيل التي تتحوّل، فجأة، من جماد صامت إلى أحجار وبنايات متكلّمة، تمامًا كالفلسطينيّين الذين يظهرون بجودة رديئة وخارج 'الفوكوس'. وتدريجيًّا، يخلق المخرج ألفة معهم، لنراهم، رمزيًّا، بعين مختلفة و'بالفوكوس' المكتمل.

في ما يبدو أنّه تمرّد على 'الفنّ في عصر إعادة الإنتاج'، وفق مفهوم والتر بنيامين وآليّات الاستنتساخ الصوريّ، فكّك الجعفريّ السرديّة الصهيونيّة من خلال منتجها الفنّيّ ذاته، مستخدمًا أدوات ما بعد الحداثة، متمثّلة بالتعديلات التقنيّة ومحو الشخصيّة الرئيسيّة (البروتوجانيست)، رادًّا  الاعتبار إلى الفضاء والإنسان العربيّين المهمّشين في الأفلام الأصليّة، التي ينتمي قسم منها إلى ما يعرف في السينما الإسرائيليّة بـ 'أفلام البوريكس' التي أنتجت منذ السبعينات، وحاولت خلق وفاق إسرائيليّ شرقيّ – أشكنازيّ، عن طريق حبكات كوميديّة سطحيّة كان ضروريًّا لها إعادة إنتاج المكان المنكوب من جديد، ليتوافق مع السرديّة الصهيونيّة التي لم يكن فيها، بطبيعة الحال، مكان للفلسطينيّ، كما هي الحال في العديد من 'الأفلام الكولونياليّة' إن صحّ التعبير، حيث إسكات الأصلانيّين على الشاشة ومحوهم.

استشراق سينمائيّ

في 'استذكار/ استعادة' الذي استغرق خروجه إلى النور ما يقارب ثمانية أعوام، ينجح الجعفري، وعلى نحو مذهل، في التعرّف على مدينته وشخوصها، من خلال أرشيف المدينة الذي جمّعه ممّا يزيد عن الخمسين شريطًا روائيًّا إسرائيليًّا، وأحيانًا أمريكيًّا، من خلال سلسلة أفلام تشيك نوريس، 'دلتا فورس'، على سبيل المثال،  التي اتّخذت يافا مكانًا شبيهًا ببيروت، للقضاء فيها على 'الإرهابيّين' العرب، الأمر الذي اقتضى تفجير بناية حقيقيّة في يافا لم تعد إلى ما كانت عليه بعد التفجير، وفق ما جاء على لسان الجعفري في 'درس الخبير'، الذي قدّمه بعد عرض شريطه في مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام، موضحًا أنّ هذا النسق من التعامل البصريّ مع المكان العربيّ، دلالة على الاستشراق السينمائي العنصريّ.

طفل من يافا، كما يظهر في خلفيّة أحد مشاهد الأفلام المستخدمة في 'استذكار/ استعادة'

 

إعادة إنتاج سرديّة المهمّش

من النماذج المثيرة والدالّة على تعامل الجعفري مع هذا النسق البصريّ المتعجرف، على نحو طريف يداعب فلسفة الصورة، استعماله، مثلًا، لمادّة أرشيفيّة نادرة، وهي الوثائقيّة الوحيدة في الشريط، والتي ظهر في نسختها الأصليّة دافيد بن غوريون في حديقة ما، وقد أزال الجعفري بن غوريون ليغرس مكانه شجرة، قائلًا إنّ ما دفعه إلى فعل ذلك، أنّ بن غوريون عبّر عن كرهه لمدينة يافا عندما وصل إليها أوّل مرّة لأنّها تذكّره بمكان ولادته ونشأته في بولونيا، أي 'بشتاته'. وكأنّ عمل الجعفري يقدّم خدمة مجّانيّة لرمز الحركة الصهيونيّة بحذفه من المشهد، مؤكّدًا على عدم انتمائه للمكان!

يشكّل شريط 'استذكار/ استعادة' الجزء الأخير من ثلاثيّة ابتدأها الجعفري في عمليه السابقين: 'السطح' (2004)، و'ميناء الذكريات' (2009)، تناول فيها الفضاء الفلسطينيّ شخصيّة محوريّة لا تقلّ أهمّيّة عن الإنسان. ولعلّ أهمّ ما يطرحه على المستوى الفكريّ في شريطه الأحدث، قدرته على 'المناورة' الفنّيّة والخروج  بقيمة فنّيّة عالية بأقلّ التكاليف المادّيّة، فيما يقترب من النموذج الأمثل لما يستحبّ أن يقوم عليه الفنّ السياسيّ، وعماده الأساس فلسفة التحكّم بالصورة وإعادة إنتاج سرديّة المهمّش ووضعها في المركز.

***

بطاقة الفيلم:

استذكار/ استعادة (2015).

إخراج: كمال الجعفري.

وثائقيّ، 70 دقيقة.

ألمانيا.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

أفلام روائيّة إسرائيليّة وأمريكيّة، صوّرت ابتداءً من الستّينات حتّى التسعينات في مدينة يافا، تشكّل أساسًا لرواية قصّة حلم. لقد أُخرج كلّ الأبطال من المشاهد، لتبقى مواقع المدينة خالية، ويصبح اللا ممكن ممكنًا من منظور الـ 'أنا'، حيث يلتقط مشاهد من الماضي، ويؤلّف صور ألبوم مصنوع من الذكريات.

 

ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام.

 
صالح ذبّاح

 

 

باحث سينمائيّ وصحافيّ ثقافيّ، يكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة. يهتمّ بالسينما والدراما والموسيقى العربيّة، وتقاطعات السياق السياسيّ مع التعبير الصوريّ. معدّ ومقدّم برنامج 'كلاكيت فلسطين' على التلفزيون العربيّ.