"بونبونة": أن تقاوم بالسائل المنويّ

من فيلم "بونبونة"

 

محاولات التحرّر والخلاص من الاحتلال الإسرائيليّ، ما يصوّره فيلم "بونبونة" (2017)، الفلسطينيّ اللبنانيّ، منذ أوّل مشاهده؛ أسرى فلسطينيّون يغتسلون ممّا علق بهم من آثار الأعمال الشاقّة. وهو الفيلم الثالث للفنّان الفلسطينيّ راكان مياسي، تأليفًا وإخراجًا، وبطولة الفنّان الفلسطينيّ صالح بكري، والفنّانة اللبنانيّة رنا علم الدين، والفنّانة الفلسطينيّة نادرة عمران، وإنتاج "غراوند غلاس 235"، بالاشتراك مع " ذي بوست أوفيس، ماد4 فيلم"، وتوزيع "ماد سوليوشن" و"سالودي موريست".

 

 

عُرض الفيلم أوّل مرّة في مهرجان توريتنو السينمائيّ العالميّ، حيث كان منافسًا على جائزة أفضل فيلم قصير، وقد حصل على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان ألمريّة السينمائيّ العالميّ في إسبانيا، وجائزة "غولدن إيج" لأفضل فيلم قصير في مهرجان كوستندورف السينمائيّ الموسيقيّ العالميّ في صربيا.

كوميديا سوداء

تدور أحداث الفيلم، ضمن 15 دقيقة، حول قضيّة تهريب نُطَفْ الأسرى الفلسطينيّين لزوجاتهم خارج الأسر، من خلال رغبة أسير شابّ (صالح بكري) وزوجته (رنا علم الدين) بإنجاب طفل، في ظلّ اعتقال الزوج في معتقلات الاحتلال، بالإضافة إلى القيود الاحتلاليّة المفروضة على الفلسطينيّين، وتدخّله في كلّ تفاصيل حياتهم العامّة والخاصّة، ومعاناتهم جرّاء ذلك.

وقد اعتمد الفيلم شكلين من أشكال الدراما السينمائيّة، كانت مترافقة طيلة أحداث الفيلم، التراجيديا والكوميديا السوداء؛ فتقولبت الأحداث ضمن إطار تراجيديّ يتمثّل بالظروف الاحتلاليّة، كما ظهرت الكوميديا السوداء تحديدًا في الحوار الذي دار بين الأسير الفلسطينيّ وزوجته من وراء عازل زجاجيّ، وإتمام زوجة الأسير لعمليّة تلقيح النُّطَفْ في ظروف صعبة أثناء عودتها من الزيارة، وداخل الحافلة التي تقلّ عائلات الأسرى. كذلك استخدم تقنيّات تصوير عالية الجودة، بلمسات إخراجيّة إبداعيّة ولافتة، وموسيقى تصويريّة جميلة، دمجت بين القالبين الدراميّين المذكورين بطريقة مذهلة.

حبّ

يحكي الفيلم الصراع الوجوديّ القائم بين الشعب الفلسطينيّ والحركة الصهيونيّة، بأسلوب شائق ومبدع؛ فالقضيّة تتعدّى موضوع تهريب النُّطَفْ وما واجهه الزوجان من صعوبات لإنجاز العمليّة بنجاح، لتشمل ما يواجهه الفلسطينيّ يوميًّا في سياقات حياته المختلفة.

 

نادرة عمران

 

كما يسلّط الضوء على حالة العجز التي قد تصيب الإنسان الفلسطينيّ، من خلال عجز الزوج الأسير عن إنتاج النُّطْفَة بادئ الأمر، إلّا أنّ عزمه يشتدّ كلّما باغته الحنين، وأمام الإغراءات وجرعة العواطف من زوجته، على الرغم من ظروف الزيارة في المعتقل والحاجب الزجاجيّ الفاصل بينهما.

وتظهر في الفيلم القدرة الفلسطينيّة على الحبّ، فكلّ ما قام به الزوجان كان من أجل استمرار الحالة العشقيّة بينهما، ومن أجل استدامة الحياة.

ثغرة صغيرة

لم ينس الفيلم إظهار مدى القيود المفروضة إسرائيليًّا على الشعب الفلسطينيّ، فكان السياج الشائك الذي رافق الزيارة إلى المعتقل، والتفتيش الدقيق الذي يطال تفاصيل جسد زوجة الأسير.

لكنّ ثقبًا صغيرًا في زاوية سفليّة من الحاجب الزجاجيّ، جاء ليقول، على ما يبدو، إنّ زوال الاحتلال الإسرائيليّ قد يكون جرّاء إحداث ثغرة صغيرة في جسد هذا الكيان؛ إنّها البساطة الفعّالة في المقاومة، القويّة بضعفها على الرغم من ضعف إمكانيّاتها.

كما يظهر الفيلم سبلًا للتحرّر من الاحتلال، في مقدّمتها ضرورة حضور الذكاء والوعي لرسم خطط التحرير بالطريقة الأفضل؛ فلقد طلب الزوج من زوجته الاستعجال في إتمام العمليّة حتّى لا تفقد النُّطْفَة صلاحيّتها التي تنتهي بعد ستّ ساعات من قذفها خارج جسده، وذلك ما دفع الزوجة إلى إجراء علميّة التلقيح في الحافلة لدى عودتها من الزيارة، إذ إنّ الوقت المحدّد شارف على الانتهاء خلال الرحلة جرّاء الحواجز العسكريّة الإسرائيليّة على الطريق.

 

الفنّانة رنا علم الدين

 

يعكس المشهد الأخير من الفيلم مدى طول الطريق التي تسلكها الحافلة، في إشارة إلى طول الصراع بين الفلسطينيّين والاحتلال، الذي يرافقه إصرار فلسطينيّ على الانتصار، وإن في اللحظات الأخيرة، وهو ما دلّل عليه تلقيح زوجة الأسير لنفسها بنُطْفَتِهِ قبل دقائق من انقضاء مدّة صلاحيّتها.

من رحم الاعتقال

"بونبونة" عمل إبداعيّ استثنائيّ في تصويره جانبًا من النضال الفلسطينيّ دراميًّا، طارحًا تفاصيل كثيرة عن المعاناة الفلسطينيّة والكفاح من أجل التحرّر، ولعلّ في عدم منح شخصيّات الفيلم المركزيّة أسماءً دلالة على شمول النضال، وانتقاله من جيل إلى جيل، كما يبيّنه مشهد إحدى زوجات الأسرى في الحافلة (الفنّانة نادرة عمران) تحكي لإحدى النساء الصغيرات قصّتها أيضًا حول الحمل والإنجاب من زوجها الأسير، ثمّ الانتقال بعدها إلى مشهد زوجة الأسيرة الشابّ تلقّح نفسها.

من رحم الاعتقال الصغير، حيث الأسير الزوج، وكذلك الاعتقال الكبير، حيث الزوجة، تنبت الحرّيّة، كما العشب من قلب الصخور.

 

غسّان فايز القيسي

 

 

كاتب فلسطينيّ يقيم في الأردنّ. يهتمّ بالشأن الفنّيّ والسينمائيّ والسياسيّ. يدرس الإذاعة والتلفزيون في جامعة 'البترا'.

 

 

 

تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام 2018.