الفضائيّات: اصطناع الواقع خارج الواقع 

مويس ثيودور | Needpix

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يدأب واضعو التقارير الإخباريّة على تصميم تقارير تتمتّع بدرجة من التفصيل، يغطّي الواحد منها واقع الحدث أو "الحدث هنا والآن" على نحو تامّ. لكن، وبتلاشي الواقعة أو "الحدث الواقعيّ"، يتوارى التقرير ويتلاشى تدريجيًّا لينتهي إلى التلف والاختفاء. إنّه منطق الجيفة؛ إذ يعود الجسد بعد موته إلى التراب، على غرار النسخة الّتي تصير إلى أصلها مع تقادم الزمن وتحلّل المادّة.

 

الحقيقة "المولَّدَة"

لم يعُد التعامل مع الواقع أو ما أسميناه "الحدث هنا والآن"، في أيّامنا هذه، من باب التجريد أو الاستنساخ، كما هو حادث مع الخرائط الّتي تسعى إلى مطابقةٍ ما مع الجسد، بدءًا من المكان والجغرافيا ووصولًا إلى جسد الإنسان ذاته، من غير أن تكون الخريطة عين المكان والجغرافيا والجسد، أيًّا كان وصفه. ولم يعُد التعاطي مع الواقع مجرّد اصطناع simulation لـ "الحدث هنا والآن"، بوصفه مرجعًا ضروريًّا أو مادّة للتقرير لا غنى عنها، كما أنّ المسألة في بُعدَيها التجريديّ والاصطناعيّ، لم تعُد مقتصرة على التقرير الإخباريّ في علاقته بالحدث، بل تنجرّ إلى مساحات أوسع من صناعة أجندة الميديا على أنواعها وبرامجها، لكن تخطّت المنهجيّة عمليّات التجريد والاصطناع إلى مرحلة التوليد؛ توليد واقع بلا أصل وبلا واقع، من خلال نماذج مصمّمة سلفًا: إنّنا في عصر صناعة واقع "فوق واقعيّ - Hyperreal" حسب تعبير جان بودريار.

تخطّت المنهجيّة عمليّات التجريد والاصطناع إلى مرحلة التوليد؛ توليد واقع بلا أصل وبلا واقع، من خلال نماذج مصمّمة سلفًا: إنّنا في عصر صناعة واقع "فوق واقعيّ - Hyperreal" حسب تعبير جان بودريار.

هنا، تنسحب صناعة التقارير الإخباريّة، بوصفها المادّة الإعلاميّة الأكثر ارتباطًا بالواقع، والأكثر اعتناء به للوهلة الأولى، تنسحب على "البرنامج التلفزيونيّ" الّذي - هو كذلك - يسبق الواقع/ الحدث؛ هنا، صناعة حقيقة البرامج التلفزيونيّة تسبق أيّ حقيقة أخرى أصلانيّة [ونقصد بالأصلانيّة هنا: كلّ حقيقة مُعنى بها، سابقة في وجودها للواقع المُنتَج في وسائل الإعلام]، لكن الأهمّ أنّ هذه الـ "حقيقة" المولَّدة، الّتي باتت تسبق الحقيقة الأصلانيّة لموضوعها، لا تستمرّ إلى ما بعد "الحدث هنا والآن"، أو ما بعد الحقيقة الأصلانيّة، وكأنّ بنا نقول: الخريطة هنا باتت الأصل، والمكان هنا بات النسخة، لكنّنا بتنا، منذ الآن، نتحدّث عن مكان وُلِّدَ وهو غير قائم في الواقع السابق لعمليّة التوليد هذه، وبالتالي، ليس مهمًّا بقاؤه بعد نفاد الحاجة إلى استخدام الخريطة، وفي هذه العلاقة تحديدًا يختبئ معنى هذه الـ "حقيقة" المولَّدة.

 

صور مدار الابتذال

"الحدث هنا والآن" أو "الحقيقة الأصلانيّة"، بل الواقع ذاته أيضًا، لم تعُد موجودة الآن في الحدث التلفزيونيّ - وعامّة الميديا - إلّا بوصفها صورة مساريّة للمُصطنَع simulacra، وسوف أُطلق على هذه الآليّة الّتي تُنتج هذه النماذج اسم "صور مدار الابتذال"، وهو اسم أُطلقه مجازًا وأستعيره من علم الرياضيّاتTrivial Orbit Portraits، وهي آليّة، حتّى في علم الرياضيّات نفسه، توصَف بأنّها ذات طبائع مَرَضيّة في بعض حالاتها.

ما يحدث عمليًّا أنّ الواقع أو "الحقيقة هنا والآن" يتحلّلان في مسار من التمزّق البطيء على امتداد الحدث التلفزيونيّ أيًّا كان، من خلال ضغط المشاهد الواقعيّة المتعدّدة العناصر والتركيب، والتعبير عنها أو استبدال مشهد مختزَل أُحاديّ العنصر بها، على أن يصبح الواقع، لا الحدث التلفزيونيّ، هو مَنْ يستمرّ وجوده الممزّق هنا وهناك، مشكّلًا زوايا منكسرة في مدار متاهات الحقيقة: حقيقتنا نحن البشر، بعد أن صرنا متاهة الواقع عينها.

 

فيمَ تكمن الخطورة؟

خطورة المسألة لا تكمن في المشاعر الجماعيّة، الّتي تُصمَّم أو تُوجَّه أو تُستثمَر مسبقًا، ضمن خطط مدروسة بعناية و"سرّيّة" في مطابخ الإعلام وكواليسه المعتمة. ليست الخطورة في "الفرح الجماعيّ" الناجم عن الحدث التلفزيونيّ الفضائيّ وإثارات الفوز والخسارة الاستيهاميّة؛ هذا الفرح الّذي يغلّف فراغ معانيه، فيستحيل فُقاعة في الأثير فحسب [مثل برامج صناعة النجوم على أشكالها وأنواعها، المتلاشية ضمن عمليّة تعاقبيّة تمحو ذاتها بذاتها؛ فتُقتل غزّة وتُستنفَذ من حيث هي قيمة إثنو - سياسيّة، عبر استثمار هذه القيمة وطاقتها التجييشيّة ذاتها، فلا يعود ممكنًا استثمارها مرّة ثانية]. وليست الخطورة أيضًا في "الحزن الجماعيّ" المتأتّي عن صناعة الحدث التلفزيونيّ الفضائيّ، الّذي يُقفِل تاركًا للتماهي الجماعيّ أن يصهر الأحزان الفرديّة في قالب حزن واحد محكم الإقفال، إلى أن يُفرغه في مصبّه الخاصّ أو منه [مثل تغطية مقتل رفيق الحريري في بيروت، وعدّاد الحزن الزمنيّ المتعاقب والمتلاشي في آن معًا؛ إذ استبدل العدّاد الرقميّ، الّذي يُفترض أن يرسّخ معنى الحدث والذكرى، استبدل الحدث والذكرى في عمليّة امتصاص بطيئة إلى حدّ التلاشي والجفاف التامّ].

وليست الخطورة أيضًا في "الحزن الجماعيّ" المتأتّي عن صناعة الحدث التلفزيونيّ الفضائيّ، الّذي يُقفِل تاركًا للتماهي الجماعيّ أن يصهر الأحزان الفرديّة في قالب حزن واحد محكم الإقفال ... مثل تغطية مقتل رفيق الحريري في بيروت...

كذلك، ليست الخطورة في "التماهي الخدريّ" الحاصل عند جمهور "برامج الواقع"، [مثل "ستار أكاديمي"، الّذي يُحِلّ واقعًا بديلًا استيهاميًّا بدل الواقع الحيّ الفاعل للمُشاهد، عبر آليّة التعاقب والتلاشي ذاتها]. أحد القواسم المشترَكة لهذه البرامج أنّ جميعها عابر، لا للزمن، بل عابر في الزمن.

ربّما لا تكمن خطورة المسألة الأكثر تأثيرًا ضمن النقاط الّتي سجّلناها حتّى الآن، بل في أنّ صنّاع هذا الاصطناع الفاعل داخل مدار الابتذال، وبنزعة تسلّطيّة استلابيّة مُثابرة، يسعون حثيثًا إلى المطابقة الكاملة بين الواقع، بكُلّيّته، وبين نماذج - موديلات - اصطناعهم.

 

الإجهاز على معنى الجمال

ما الّذي يحدث عند هذا المفترق في حقيقة الأمر؟ والإجابة، في رأينا، أنّه بعد تلاشي الفارق بين الحدث الواقعيّ والتقرير المُصطنَع، أو بين الواقع الحيّ والحدث التلفزيونيّ المولَّد [الفضائيّ خاصّة، وبحكم سعة انتشاره وتأثيره]، وبحُكم هذه المطابقة التعسّفيّة المُصطنَعة، يختفي معنى الجمال، ويُجهَز عليه كلّيًّا؛ الجمال الّذي يُفترض أن يكون وليد هذا الفارق بين المكان المحسوس وخريطته المجرّدة، هكذا في أقلّ تقدير.

إنّ خيال التصميم الّذي يتمادى نحو ذرواته وإلى هاويته في آن معًا، داخل المشاريع العبثيّة الّتي يقوم بها صانعو هذه البرامج الفضائيّة، في سبيل تحقيق تمادّ مثاليّ مشترك بين الحقيقة الأصلانيّة والحقيقة المُصطنَعة، إنّما يزول ويختفي في مسار الاصطناع ذاته.

في مختبر الفضائيّات التجاريّة العملاقة يكون، على مدار الساعات، إنتاج الواقع وإنتاج "الإنسان" انطلاقًا من الخلايا الصغيرة، وانطلاقًا من القوالب المُعَدّة سلفًا لمستقبل يُعَدّ له باستمرار حثيث

في تصاميم هذه البرامج، تُقتَل الميتافيريقا/ يُقتَل الله، لا بالمعنى النيتشويّ فحسب، بل بمعنى فقدان مرآة الوجود واستدلاليّة المفاهيم والمظاهر الأنطولوجيّة. هنا، في مختبر الفضائيّات التجاريّة العملاقة يكون، على مدار الساعات، إنتاج الواقع وإنتاج "الإنسان" انطلاقًا من الخلايا الصغيرة، وانطلاقًا من القوالب المُعَدّة سلفًا لمستقبل يُعَدّ له باستمرار حثيث. هنا، لا تكون أيّ مشكلة بَعْدُ في عمليّة إنتاج وإعادة إنتاج متكرّرة بقدر الحاجة، وقد يُنتَج الواقع مكرّرًا طبق الأصل أحيانًا، أو مع تنويعات ما إن اقتضى الأمر ذلك، لكنّ المهمّ أن يكون واقعًا سابقًا للسيطرة، وللترسيخ، وللتعديل، وللتنويع، وللتطويع، أو حتّى المحو التامّ إن تطلّب الأمر ذلك.

 

صناعة الذوق العامّ

بهذا المعنى الجديد للواقع المُصطنَع، لم يعُدْ مطلوبًا من الإنسان أن يكون متلقّيًا عقلانيًّا، أو كائنًا محلّلًا متفلسفًا مفكّرًا متعمّقًا مفكِّكًا، بل يكفي أن يندفع خلف الإرادة الجماعيّة الانفعاليّة، الّتي تُصمَّم مساراتها وحسابات الربح والخسارة منها، في كواليس الفضائيّات ووسائل الميديا الأخرى ذاتها، حيث تُنشَأ المعايير والمقاييس والمرجعيّات المثاليّة أو النسبيّة، حسب مقتضيات الصانعين وطموحاتهم الربحيّة؛ إنّهم يُنتجون صناعة "الذوق العامّ" و"الأخلاق العامّة" و"الحقيقة" و"نماذج القوّة" وغير ذلك، في مصافي تكرير سلعهم الإخباريّة أو الفنّيّة ورموزها المتبدّلة بسرعة السوق والاستهلاك، ثمّ يروّجونها لا بوصفها صنعة من صنيعهم، ولا بوصفها مادّة مفروضة على الجمهور العريض، بل بوصفها تجسيدًا قائمًا بذاته للذوق العامّ الّذي يفرض نفسه على وسائل الإعلام، فلا يبقى لها سوى أن تقبله طائعة، تجاوبًا منها مع الذوق العامّ!

وإن كان هذا الكلام ينطبق على حياتنا، منذ التسعينات من القرن العشرين - زمن نشوء الفضائيّات - فإنّ الأمر قد تعقّد مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ومع ظهور شبكات التواصل الاجتماعيّ، بصفتها جهازًا تجسّسًا استطلاعيًّا، يدأب على مدار الساعة على جمع المعلومات وتنظيمها عن كلّ فرد فينا. ومع تطوّر أدوات تحليل المعلومات والبيانات؛ تصبح الفجوة بين "إرادتنا الحرّة" و"خياراتنا" و"رغباتنا" و"ممارساتنا"، وبين الجهد المبذول لصناعة وعينا وإعادة تركيب لاوعينا واختراقه، تصبح شبه معدومة.

 

تاريخ انتهاء الصلاحيّة

الأخطر في عمليّة الاصطناع المبيّنة أعلاه، ليس في ما تصمّمه هذه الوسائل التكنولوجيّة المستمرّة في التطوّر، من نماذج مختلَقة للإنسان وتكوينه الذهنيّ في الحاضر وفي المستقبل، بل في ما تستلبه وتُخفيه وتُحجّمه أو تُهمّشه، من بدائل أخرى موجودة في صُلب المكوّن الثقافيّ والفنّيّ والحياتيّ الأصلانيّ؛ وذلك لأسباب ذات صلة أيضًا بمقتضيات الربح وحسابات الخسارة ذاتها لا غير.

فالفضائيّات غير معنيّة بالخلود، ولا بهموم هاملت أو جلجامش الوجوديّة الأبديّة بطبعها وطبيعتها، لكنّها معنيّة بالربح وحده، بعيدًا عن حسابات القيمة والمعنى

في هذه المنظومة المتشكّلة عبر العقود الثلاثة الأخيرة تقريبًا، الفرح الفرديّ لم يعد مربحًا؛ السعادة الوجدانيّة التأمّليّة الشخصيّة والصامتة، لا يمكن ترجمتها إلى أرقام تتجاوز المنزلة الواحدة. المطلوب إذن، تجييش المشاعر، استنفارها فاستثمارها لإمكانيّة ترجمتها إلى أرقام تتجاوز المنازل السبع، وتحقّق الأرباح المرجوّة. بالتالي، لا يجوز الفرح إلّا بوصفه كمًّا، ولا يجوز - حسب المخطّطات الربحيّة التجاريّة - إخراج الدول ذات التعداد السكّانيّ الكبير من المسابقات التلفزيونيّة مبكّرًا. الجمهور الدافع للأموال ليس أكثر حظًّا من المشاركين في أداء الأدوار المنوطة بهم، داخل مدار الابتذال هذا، المشاركون يمثّلون عاملًا إجرائيًّا ورقمًا أو سلعة يُكتب عليها تاريخ انتهاء صلاحيّتها لحظة إنتاجها مباشرة؛ فالفضائيّات غير معنيّة بالخلود، ولا بهموم هاملت أو جلجامش الوجوديّة الأبديّة بطبعها وطبيعتها، لكنّها معنيّة بالربح وحده، بعيدًا عن حسابات القيمة والمعنى. والربح بطبيعته ليس سهمًا ينطلق كي يُصيب، بل عجلة تدور وتلتهم، تلتهم حتّى ذاتها إذا تَناسَب هذا مع حساباتها؛ فليس نوع "الفائز" ما يُحدَّد سلفًا حسب نوع المشاعر الّتي يمكن تجييشها في زمن مُعطًى فحسب، بل نوع البرنامج نفسه أيضًا. تاريخ انتهاء الصلاحيّة ليس مختومًا على الفائزين مسبقًا فقط، بل على البرامج ذاتها ضمن عمليّة تعاقبيّة شرطها الأوّل أن تمحو ذاتها ممهّدةً لعمليّة الربح القادمة.

 

إنسان فوق واقعيّ/ إعلام فوق فضائيّ

كما قُلنا، لا يكون اصطناع الواقع ممكنًا إلّا من خلال اصطناع الإنسان نفسه، ولهذا الأمر دلالة تتجاوز مجرّد اشتراط حضور الإنسان داخل المعادلة الربحيّة، بوصفه كائنًا جماعيًّا يتصرّف بمنطق القطيع المتماثل المُنفعل، بل من المهمّ بمكان أن يتّجه حضوره نحو تشكيله، بوصفه كائنًا إجرائيًّا، محض إجرائيّ، وليس من الواقع بشيء ما دام جُرِّد من أيّ إحاطة بالخيال؛ إنّه إذن إنسان فوق واقعيّ، يُنتَج ضمن توليفات تخضع لنماذج التجارة وأُمثولات الاستهلاك الربحيّ الخالص. حين تعبث الفضائيّات، وشبكات التواصل الاجتماعيّ، وتطبيقات الشراء والبيع وغيرها، تعبث في اصطناعها نموذج الإنسان فوق الواقعيّ الّذي لا أرض له؛ فإنّها تتحوّل هي ذاتها إلى وسائل وفضائيّات "فوق فضائيّة - Hyperspace"، لا جوّ لها ولا أفق؛ صور مدار ابتذال، لا غير.

عالمنا اليوم نموذج ينتقل، مع الفضائيّات ورديفاتها من وسائل التكنولوجيا، إلى فضاء لم يَعُد الواقع مجاله ولا الحقيقة كذلك مبتغاه، وهو غير معنيّ بأيّ من المرجعيّات القائمة إلّا بمقدار ما تخدم تصفيته وتدميره المنهجيّ لكلّ نُظُم المرجعيّات، من خلال تحويل الواقع وإنسانه إلى مجرّد رموز رقميّة، قابلة لأن تندرج في جميع المنظومات، والبرمجة الحاسوبيّة، والعوالم الافتراضيّة، حين يصبح "الواقع هناك" لا "الواقع هنا" هو الواقع الوحيد الممكن، ويكون بالتالي تغيير الواقع والإنسان ممكنًا ضمن تعديلات حسابيّة وجبريّة وإلكترونيّة، بسيطة كانت أو معقّدة، لا غير.

"... نحن أصحاب الشركات، نحن مَنْ نضغط على الأزرار الّتي توجّه استخداماتك لأزرار هذا الجهاز أو ذاك، الملازم لوجودك، الّذي بات سيّدك الفعليّ"

صانعو البرامج التلفزيونيّة في الفضائيّات لا يرون الإنسان بوصفه إنسانًا إراديًّا، بل بوصفه طاقة استهلاكيّة فحسب، ويتحوّل التعامل مع الإنسان، لا بوصفه جماعة وقطيعًا رقميًّا، بل كذلك ترجمته إلى أجهزة إلكترونيّة يُتحكَّم بها عن بُعد مستتر، مع إبقاء "الشعور" بالتحكّم موجودًا عند الإنسان نفسه من غير أن يملكه فعلًا؛ امتلاك استيهاميّ فحسب، يقول لسان حاله بجهارة فاضحة: "أنت، أيّها الإنسان، مَنْ يضغط على أزرار شاشتك الصغيرة أو هاتفك الجوّال، ولا أحد غيرك يملك الفعل أو القرار، لكنّنا نحن أصحاب الشركات [وهنا يختفي الصوت المُجاهر فجأة]، نحن مَنْ نضغط على الأزرار الّتي توجّه استخداماتك لأزرار هذا الجهاز أو ذاك، الملازم لوجودك، الّذي بات سيّدك الفعليّ". هذا مجرّد مثال على تعاون أصحاب الشركات [الهواتف الجوّالة والفضائيّات]، في عمليّة تغذية ربحيّة متبادلة وَقودها الوحيد وغير المكلِف يكمن في القدرة على استثمار المشاعر الّتي تشكّل - إحصائيًّا - القاسم المشترك الأكبر لجماعة بعينها.

هنا، لا مكان للواقع أن يقع ويتحقّق؛ إذ أصبح للنموذج "الموديل" وظيفة حيويّة في نظام الموت [نظام الجيفة والتحلّل كما سبق أن ذكرنا]؛ وبكلمات أخرى، هو نظام انبعاث مسبَق لا يترك لواقعة الموت ذاتها أيّ مجال لكي تقع؛ فالفوق واقعيّ ليس الخياليّ، بل هو تحديدًا في منأًى عنه، مُعيدًا عجلة الإنتاج ضمن مدار ابتذال تكراريّ، يصطنع فيه نماذج ممجوجة قوالبيّة، مصحوبة بولادات مُصطنَعة للفوارق بينها.

 

تقويض مساحة الفنّ

فكرة الفضائيّات تقوم بطبيعتها على تقويض المساحة الّتي شغلتها فكرة الفنّ في الحياة الإنسانيّة عبر الزمن؛ المقصود بالفنّ هنا ما هو في أسمى نماذجه الكلاسيكيّة التاريخيّة الّتي عرفها، والّتي لم تشكّل عبر الزمن الطويل مادّته ورصيده ومخزونه فحسب، بل جوهر معناه وماهيّته كذلك. والحديث ليس بالضرورة عن الفنون الّتي أدّت دورًا وظيفيًّا شعبيًّا في حياة الجماعات البشريّة، عبر الحضارات والطقوس والمناسبات والشعائر وغيرها، بل الفنون الّتي عُنيت بسؤال الفنّ ذاته وانشغلت بجماليّاتها، من غير أن يتنافى ذلك مع تقاطعاتها ذات البعد الاجتماعيّ أو الطقوسيّ، وبلا أن يتناقض ذلك مع قدرتها على التواصل مع جمهور بعينه، حتّى لو بدأت نخبويّة أو ظلّت كذلك.

إنّهم يعيدون إنتاج لاوعينا على مدار الساعة، يدأبون على هندسة لاوعينا بوصفه "الآخر الكبير" متواشِجًا ومتعالقًا مع "الآخر الصغير" حسب جاك لاكان. هكذا هو الأمر، كما أنّه يمكن صناعة عرَض – Symptom طبّيّ ما، وهنا الحديث عن العقل تحديدًا.

نعم، لهذه الأنواع من الفنون والثقافات هامش ضيّق، يكاد يتلاشى في مساحات الفضائيّات الواسعة، لأسباب تكمن في طبيعة هذه الفنون ومنطلقاتها، الّتي لا تتجاور بالضرورة مع مسار أجندة الفضائيّات وطبائع برامجها ومنطلقاتها، ولا تخدم بالضرورة أسباب بقاء هذه المصانع الإعلاميّة الضخمة ذات الكلفة العالية.

في نموذج الفنّان الكلاسيكيّ - والكلاسيكيّ هنا هو مَنْ يملك مقوّمات البقاء عبر الزمن والجغرافيا - نجد سِيَرًا ذاتيّة تتشارك جميعها في التحصيل المعرفيّ والعلميّ والتدريبيّ الشاقّ والطويل والحثيث للفنّان الفرد، قبل الشروع بالظهور والعرض والتواصل، قاسم مشترك جليّ بين جميع السرديّات الشخصيّة للفنّانين الكلاسيكيّين، قوامه الانشغال المتفاني بالفنّ بما هو فنّ، والبحث عن الحقيقة الشخصيّة والبصمة الذاتيّة للوجود وفيه، إبداعيًّا وفنّيًّا، حيث المسرح - أو منابر النشر والتواصل - بمنزلة وسيلة أصحاب الرسالات لا هدفهم، وبمنزلة الأداة التواصليّة للفنّ لا مبتغاه ومعناه، فيصل هذا الانشغال الصوفيّ المنهمك في أسئلة الفنّ والجمال إلى حدّ نكران الذات، في نموذج الفنّان التاريخيّ الكلاسيكيّ، الّذي يصنع أعماله الفنّيّة بلا الشعور بالحاجة إلى أن يَمْهَر أعماله بتوقيعه [أندريه روبليوف ورسّامو الأيقونات الروس في القرون الوسطى حتّى عصر النهضة، على سبيل المثال لا الحصر]، وفي نموذج الفنّان الّذي ينغمس في إبداعه، ناسيًا متناسيًا أو منكرًا حاجته بالنشر والترويج إلى ذاته وذاتيّته والشهرة وتداعياتها [فرانز كافكا مثالًا] إلخ.

 

منطق الإخفاء مقابل منطق التظاهر

الفارق الأوّل بين مقولة الفضائيّات ومقولة الفنّ، نفسه الفارق بين الحقيقة والكذب. الفنّ الأصيل والعميق الّذي يخاطب وجدان الإنسان العاقل عبر الجغرافيا والزمن، يُعنى بالإخفاء بوصفه جماليّة التظاهر بعدم امتلاك ما نملكه فعلًا، بينما تتبنّى الفضائيّات منهج التظاهر "لا الإخفاء"؛ إذ تتظاهر بامتلاك ما لا تملك.

لا يكون الإخفاء إلّا في معادلة الحضور، أمّا التظاهر فلا يكون إلّا في معادلة الغياب. الحضور ليس مجرّد مرجعيّة للإخفاء، بل هو شرطه الجليّ، كذلك أمر الغياب بالنسبة إلى التظاهر؛ في منطق الإخفاء، وفي الفنّ الإنسانيّ الجميل، يأتي الإخفاء لكي يستحضر الأشياء والأفكار ضمن لعبة جماليّة خالدة [انظر مثال الشبح في مسرحيّة هاملت]، أمّا في منطق التظاهر، فإنّك تستحضر الأشياء والأفكار لكي تُغيّبها [راجع أدب الاستشراق].

نجد القائمين على منظومة صناعة الأيقونات، ولهم معارضون كثر، وتحت ستار الشعاع الإلهيّ الّذي ينبعث من تجسيدات هذه الأيقونات، نجدهم يعملون بجدّ، هم أنفسهم وليس غيرهم، على موت الله واختفائه في ظهوره وتجلّيه الإلهيّ المفترض.

مع ذلك، يبقى التظاهر أقلّ خطورة من التصنّع، كما هو في حالة المرض. على سبيل المثال، في الإخفاء أو التظاهر، نحن نلعب مع الواقع ولا نصيبه بأذًى من حيث المبدأ، أمّا في حالة التصنّع فنحن نخلق أعراضًا حقيقيّة لمرض غير موجود؛ فالمريض في هذه الحالة ليس مريضًا بالمعنى التقليديّ، وليس سليمًا بالمعنى المعتاد نفسه. لا يمكن النقد التقليديّ في هذه الحالة أن يسعف الكائن الجديد الّذي يخلق "أعراض أمراضه" بنفسه. أليس جديرًا هنا تطوير علم جديد يحقّق أغراض التعامل النقديّ مع هذا النوع من الإعلام الجديد؛ "علم نفس إعلاميّ - Psychomedia"؟ سيختلف "علم النفس الإعلاميّ" عن "علم النفس الجسديّ"، في أنّه لا يتوقّف عند بوّابات اللاوعي، بوصفه حقيقة ليست أقلّ حقيقيّة من الجسد نفسه، بل بوصف اللاوعي خاضعًا للصناعة ذاتها: صناعة الاصطناع؛ إنّهم يعيدون إنتاج لاوعينا على مدار الساعة، يدأبون على هندسة لاوعينا بوصفه "الآخر الكبير" متواشِجًا ومتعالقًا مع "الآخر الصغير" حسب جاك لاكان. هكذا هو الأمر، كما أنّه يمكن صناعة عرَض – Symptom طبّيّ ما، وهنا الحديث عن العقل تحديدًا.

 

إماتة الإله عبر الاصطناع الأيقونيّ

ربّما يكون المثل الأكبر الّذي تَستنبط منه المُصطنَعات مُصطنَعاتها، المثل اللاهوتيّ المتجلّي في المُصطنَعات الأيقونيّة الّتي تمثّل "الظهور الإلهيّ - Epiphaneia". في فكرة الدنْح هذه، كما وردت تسميتها عند السريان والكلدان والموارنة، نجد القائمين على منظومة صناعة الأيقونات، ولهم معارضون كثر، وتحت ستار الشعاع الإلهيّ الّذي ينبعث من تجسيدات هذه الأيقونات، نجدهم يعملون بجدّ، هم أنفسهم وليس غيرهم، على موت الله واختفائه في ظهوره وتجلّيه الإلهيّ المفترض عبر الانفتاح السماويّ الأيقونيّ، عالِمين تمام العلم أنّ التجسيدات الأيقونيّة لا تمثّل شيئًا، لكنّ لعبتهم الكبرى تحصّنت دومًا داخل هذه اللعب المُصطنَعة ذاتها، وفي انعدام قيمتها. طالما اختبأ العقل السياسيّ الذكيّ خلف وهج هذه الأيقونات وترسيخ فكرة تلاشي الله بتناسب طرديّ مع فكرة ظهور السلطة؛ لقد عملوا جاهدين على ألّا يخلعوا القناع عن هذه التصويرات والتجسيدات المُصطنَعة، لأنّها تخفي وراءها حقيقة واحدة ووحيدة: غياب مطبق للإله، ولا حقيقة.

هكذا كان، وهكذا لا يزال منطق السلطة ومنطق القوّة يراهن على موت الفكرة، من خلال تحويلها إلى مُصطنَعات "مقدّسة"؛ إذ يموت واقع الفكرة بواسطة نموذجها بالذات، تمامًا كما يموت المكان الواقعيّ الحيّ في تجسيداته الخرائطيّة المُصطنَعة.

 

مبادلات ضمن دائرة وهميّة مغلقة

القوّة المدمّرة للواقع/ الحقيقة الّتي تُولِّد هذه المُصطنَعات، تجد نفسها فجأة على مسافة من هذه المُصطنَعات نفسها، بوصفها قوّة جدليّة؛ فعلى هذه المُصطنَعات أن تتحوّل إلى رمز يسبر عمق المعنى ويؤدّي إليه، بل يتبادل معه الوظيفة والمكان. لكن مَنْ يؤدّي هنا دور الضامن لهذا التبادل؟ إن كان الضامن في الحالة اللاهوتيّة الله نفسه؛ ففي برامج المسابقات التلفزيونيّة الفضائيّة يكون الضامن هو الفنّ. من هنا، وإن صحّت المقارنة، فكما هو مستحيل استحضار الله عينه إلّا من خلال النماذج الأيقونيّة المُصطنَعة، فإنّه من المستحيل كذلك أن يكون لهذه المنظومة الاصطناعيّة مرجعيّة في الواقع الحيّ؛ فتفقد بذلك وزنها الواقعيّ وتتحوّل إلى مُصطنَع هائل عاجز عن أيّ مبادلة مع الواقع، فتنحصر مبادلاتها مع نفسها داخل دائرة وهميّة افتراضيّة مغلقة، تخاطب فيها ذاتَها فحسب.

إنّ مشهديّة البرامج التلفزيونيّة الفضائيّة، بدءًا من التقارير الإخباريّة، ووصولًا إلى المسابقات الغنائيّة وغيرها، لا تنحصر في أنّها - أي المشهديّة - لا تعكس حقيقة عميقة ما، ولا في أنّها تشوّه حقيقة ما، ولا في أنّها تحجب حقيقة ما، بل هي هنا الآن مُصطنِعةً وجودها الخالص بنفسها، من غير علاقة بأيّ حقيقة كانت

هكذا هي الحال مع الفنّ؛ فالفنّ معنيّ لا بالاصطناع بل بالتمثيل [راجع أرسطو]؛ إذ يقوم مبدأ التمثيل على معادلة ما بين الرمز أو الصورة أو المشهد بوصفها قيمة، هذا من جهة، وبين الواقع من جهة ثانية، بينما ينفي الاصطناعُ الرمزَ باعتباره قيمة نفيًا جذريًّا، بل يعتبر المعادلة بين الرمز والواقع وهمًا في أساسه. من هنا، فإنّ مشهديّة البرامج التلفزيونيّة الفضائيّة، بدءًا من التقارير الإخباريّة، ووصولًا إلى المسابقات الغنائيّة وغيرها، لا تنحصر في أنّها - أي المشهديّة - لا تعكس حقيقة عميقة ما، ولا في أنّها تشوّه حقيقة ما، ولا في أنّها تحجب حقيقة ما، بل هي هنا الآن مُصطنِعةً وجودها الخالص بنفسها، من غير علاقة بأيّ حقيقة كانت.

 

"مسابقة الملكة إليزابيث للموسيقى" مثالًا

الفارق الضمنيّ التالي بين ما يمكن أن نسمّيه "مشروعًا فنّيًّا ثقافيًّا/ سياسيًّا مؤسِّسًا"، شرطه التعاقب المتنامي، الّذي يوثّق ذاته بذاته ولذاته، والمراكمة النوعيّة، وبين ما تقدّمه لنا الفضائيّات من مشاريع برامج شرطها - كما ذكرنا - التعاقب المتلاشي، الّذي يمحو ذاته بذاته ولذاته، والمراكمة الكمّيّة في آن معًا. ولنعطِ هنا مثالًا عينيًّا للقارئ، وربّما من باب إثارة النظر والتثقيف فقط:

لو تناولنا في المثال مسابَقة موسيقيّة نموذجيّة عالميّة ومرموقة، مثل "مسابقة الملكة إليزابيث للموسيقى - Queen Elisabeth Music Competition"، الّتي تجري في العاصمة البلجيكيّة بروكسل منذ عام 1937 للكمان، ومنذ عام 1938 للبيانو، وعام 1953 للتأليف الموسيقيّ، وعام 1988 للغناء. وفيها يشارك أفضل الموسيقيّين في العالم، بعد أن يمرّوا في متتالية تصفية قاسية، من قِبَل لجنة أكاديميّة رفيعة المستوى، في كلّ مجال تخصّص وآخر، إلى أن يصل البعض القليل إلى التصفيات النهائيّة، الّتي يُعرف عنها التنافس بين عازفين مرموقين، يصعب للإنسان العاديّ، وحتّى للموسيقيّ العاديّ، أن يميّز الفوارق المجهريّة الدقيقة بينهم، وهي فوارق تتجاوز كثيرًا مستويات الأداء أو التأليف التقنيّة (والأداء أو التأليف في أعلى المستويات عندهم جميعًا)، بل في فلسفة الأداء والتأليف، وحجم الموهبة الّتي تتعدّى التقنيّة الحرفيّة بدرجات. المهمّ في مثل هذه المسابقات أنّها أسّست وتؤسّس ثقافة أداء وتأليف وإبداع رفيعة، وأسّست وتؤسّس باستمرار وتجدُّد معايير مهنيّة وأكاديميّة عميقة، لا تتناقض مع الموهبة الطبيعيّة الفطريّة عند الأفراد، بل تتعزّز بها وتعزّزها في علاقة تبادليّة ديناميّة متحوّلة، وهي أيضًا أسهمت في حسم الفارق بين الهواية والاحتراف، بل أكثر: بين الحرفيّة التقنيّة والموهبة الرفيعة الّتي تتجاوز امتلاك التقنيّات وأدوات الحرفة، ودعمت بالمال والعلاقات وغيرهما أجيالًا من العازفين والمؤلّفين، الّذين باتوا يشكّلون رافعة من روافع الثقافة الموسيقيّة العالميّة في تاريخ الموسيقى الحديث؛ فلو أخذنا مثالًا عازف البيانو الأوكرانيّ إميل جليلز Emil Grigoryevich Gilels، وهو الفائز الأوّل عام 1938 بالجائزة الأولى؛ فقد ظلّ عطاؤه وتطوّره مستمرَّين حتّى مماته عام 1985، وتشكّل تسجيلاته مصدر إلهام وتعليم، وهي نُصب أعين عازفي البيانو في كلّ العالم وأكاديميّاته حتّى يومنا هذا، وهذا مؤشّر صريح على عمق القيمة النوعيّة للمشاركين في هذه المسابقات، وتحوّلهم إلى كلاسيكيّات فنّيّة جماليّة ثقافيّة إنسانيّة بامتياز.

المهمّ في مثل هذه المسابقات أنّها أسّست وتؤسّس ثقافة أداء وتأليف وإبداع رفيعة، وأسّست وتؤسّس باستمرار وتجدُّد معايير مهنيّة وأكاديميّة عميقة، لا تتناقض مع الموهبة الطبيعيّة الفطريّة عند الأفراد

"إليزابيث كوين" من الأمثلة الكثيرة، وهي المسابقة الّتي حصل فيها عازف البيانو اللبنانيّ عبد الرحمن باشا على "جائزة العزف" الأولى عام 1978؛ ولهذا اخترتها للقارئ العربيّ من بين أمثلة كثيرة أخرى، كمسابقات تشايكوفسكي وفِنيافسكي وأويستراخ، وشوبان وباغانيني وروبنشتاين، إلخ...

 

إبقاء القيمة خارج معادلات الربح والخسارة

من المُجحف بمكان مقارنة المسابقات "الفنّيّة" الّتي نشاهدها على شاشات الفضائيّات، وشرطها الأساسيّ السطحيّة، مع هذا النوع الرفيع من المشاريع الثقافيّة المحفّزة للتعمّق. لكنّنا لا نقارن هنا في سبيل وضع طرفي المقارنة داخل حقل معرفيّ واحد، وهذا غير ممكن على كلّ حال، بل في سبيل فهم أوّليّ وسريع لحجم الهوّة الّتي تفتعلها الفضائيّات، حين تؤسّس لعصر الاصطناع وتُجهِز على أيّ فرصة سانحة وممكنة للوعي والذوق الرفيع، لكي ينكشفا على الشرائح العريضة من الناس ويؤثّرا فيها؛ فلا وقت للفضائيّات كي تؤسّس ببطء مثابر وطويل المدى، لجمهور نوعيّ قد يكبر يومًا ويصبح طاقة ربحيّة لها.

من هنا؛ فلن أخوض في مقارنات تفصيليّة تتعلّق بنوعيّة المشاركين هنا وهناك، وبخلفيّاتهم المعرفيّة والذهنيّة والتدريبيّة، ولن أخوض في مفاضلات بين جهابذة الموسيقى الجالسين في لجان تحكيم المسابقات المهنيّة المرموقة، وبين "نجوم الاصطناع" الجالسين في لجان تحكيم المسابقات الفضائيّة المصطنَعة، ولن أخوض أيضًا في الرؤى وفي الآثار الثقافيّة والفنّيّة بين هذين العالمين، وأترك هذا كلّه لذكاء القارئ وثقافته، فالهوّة أكبر من أيّ مقارنة ممكنة، وأصغر من أيّ موضوعيّة علميّة مقنعة. لكن ما يهمّنا في سياق هذه المقارنة، فهْم الفارق بين المنطلَق المعرفيّ الثقافيّ الفنّيّ وأثره في عمليّة إنتاج الإنسان، وبناء المؤسّسات اللاربحيّة القائمة على بنائه، وبين منطلَق المؤسّسات التجاريّة الربحيّة في عمليّة الإنتاج ذاتها، على أن يُحيَّد الإنسان العاديّ عن موقع الحَكَم في منظومة الثقافة الرفيعة، من خلال رفع مستوى المشاركين إلى أقصى حدود المهنيّة التخصّصيّة، وتُحيَّد أيضًا المشاركات النوعيّة من حسابات الربح والخسارة، لصالح القيمة الفنّيّة الخالصة، في حين يُحيَّد المتخصّصون من ذوي الخبرات والكفاءات العالية في منظومة الاصطناع، لصالح "الحُكم الشعبويّ"، وتبقى القيمة خارج معادلات الربح والخسارة وعلى حسابها.

المفارقة أنّ الجوائز الماليّة وما يرافقها من مِنَح أخرى وعطاءات، في المنظومة الثقافيّة الرفيعة [المسابقات المهنيّة]، تفوق بأضعاف ما يحصل عليه المشاركون في المنظومة التجاريّة؛ الربح في الأولى يُمنَح للقيمة الفنّيّة على حساب المموّلين، بينما في الثانية يصبّ في خزائن المنتجين من أصحاب هذه التجارة، على حساب القيمة الفنّيّة.

 

اصطناع الجنون بأدوات العقل

الآن، وبعد فتح هذه النافذة الصغيرة، للمقارنة وضبط معيار النظر إلى خطورة منظومة الفضائيّات، من خلال استحضار البدائل القائمة في الهامش إلى ذهن القارئ، نعود لنُكمل تحليلنا للنُّظُم الّتي تهتمّ بإنتاج ثقافة العوارض المَرَضيّة، بلا وجود لأيّ مرض في الأصل، وبقدر الحاجة الربحيّة يكون الإنتاج.

ما الّذي يمكن فعلُه أمام جحافل المُصطَنِعين؟ فضحهم؟ معاقبتهم؟ إصلاحهم؟ لكن وفق أيّ مبدأ؟ إنّنا نجلس أمام هذه الظاهرة مثل طبيب مطالَب بعلاج شخص لا هو مريض ولا هو سليم معافًى

عندما نتحدّث عن منتجين لعوارض مَرَضيّة فوق مَرَضيّة Hyper – Pathology، فإنّنا نتحدّث عن ظاهرة أكثر ما يميّزها هو الغموض، الغموض الّذي يغمر وجه الحقيقة.

ما الّذي يمكن فعلُه أمام جحافل المُصطَنِعين؟ فضحهم؟ معاقبتهم؟ إصلاحهم؟ لكن وفق أيّ مبدأ؟ إنّنا نجلس أمام هذه الظاهرة مثل طبيب مطالَب بعلاج شخص لا هو مريض ولا هو سليم معافًى. معيار التشخيص هنا أصبح غامضًا غموض العَرَض ذاته، وغموض الاصطناع ذاته أيضًا؛ إنّنا أمام "مجانين" يصطنعون الجنون بأدوات عقل ليس بعاقل ولا بمجنون.

 

 

د. وسام جبران

 

 

مؤلّف موسيقيّ وشاعر. درس التأليف الموسيقيّ في عدد من العواصم العالميّة، مثل موسكو وبرلين، كما درس علم الدماغ في برلين وفلسطين. له المئات من المؤلّفات الموسيقيّة، وهو حاصل على 40 جائزة عالميّة ومنحة إبداعيّة في الموسيقى والبحث العلميّ والشعر. صدر له عدد من المؤلّفات البحثيّة والأدبيّة والأسطوانات الموسيقيّة. أسّس عام 2013 "أكاديميّة جبران للموسيقى والفنون" في الناصرة.