"بين عالمين" عرض من إنتاج "مدرسة الأمل للرقص المعاصر" في الناصرة، وإخــراج وتصميــم حركــة الراقصَين أيمــن صفيــّة ولينــا دياب. قُدّم للمرّة الأولى على خشبة "مسرح محمود درويش" في تاريخ 29 آذار (مارس) 2019، أمام جمهور غفير، وشاركت فيه إحدى عشرة راقصة من طالبات المدرسة، وربّما في هذا العدد رمزيّة لا يمكن إغفالها.
وفي ما يتعلّق بموضوع العرض، فقد ورد على لسان الجمعيّة المنتجة للعرض، في المنشور المتعلّق به، ما يأتي: "... عملنــا يتطــرّق إلــى مســائل اجتماعيّة تواجــه النســاء اليــوم، وكيــف يمكّنهــنّ وجــود الجــرأة للتحلّـي بثقــة وقــوّة أكبــر، وبحرّيّــة تفكيــر فــي مجتمعهــنّ، أو آلــة ضــدّ الاســتغلال والإســاءة؛ هــذا يعــزّز الثقــة بقدرتهــنّ علــى اســتعادة الســيطرة علــى حياتهــنّ، وتطويــر هُويّاتهــنّ، وامتلاك أصواتهــنّ؛ مــن أجــل تحقيــق ذاتهــنّ، ومن ثَمّ تحقيــق التغييــر الاجتماعــيّ...".
لغة اقتحاميّة
تميّز العرض بلغة فنّيّة جميلة راقية، معاصرة اقتحاميّة صادمة، بلا تساهلات أو تسهيلات، وعبر سيرورة عمل جماعيّ مضنية، كان الخوض بعمق في أغوار الذات الفرديّة وتفكيكها؛ بوصفها ذوات متعدّدة متلاطمة، تعتاش على الأسئلة الصعبة، والتشكيك المرعب، والقلق الوجوديّ الّذي يرقى بالذات الإنسانيّة إلى أسمى أعماقها.
وحده الجسد كان حاضرًا، لا بوصفه ظاهرة شكليّة، أو موضوعًا جنسانيًّا، أو أداة تعبيريّة، أو مقولة صوتيّة، بل بوصفه هو اللغة فحسب، وبوصف اللغة هي الإنسان عينه بوصفه آخر؛ الجسد/ اللغة الّتي تُلصق خطوط الفصل داخلها، وترسم حدودها على نحوٍ سافر، ثمّ تعود لتقتلع هذه الحدود وتُزيلها في مسار تحرّريّ مؤلم. والجسد في حضوره الأنثويّ الخالص، حيث المخاض هو النفق المعتم الوحيد، الّذي يؤدّي إلى الضوء في نهاياته غير المؤكّدة؛ فنشاهد هذا في لغة الحركة، كما في لغة السكون، وفي لغة الكلام الصريحة، ولو تسلّطت عليها التأتأة والتقطّعات والخوف والإحجام، كما في الصوت الغرائزيّ الحيوانيّ ما قبل اللغويّ، الّذي يُفصح عن وجداننا بصدق، يُلغي وجود الجمهور المشاهد، وينظر إليه كما لو كان مرآة للذات في أكثر لحظاتها حميميّة، وفي أكثر ممارساتها سرّيّة.
كينونات مستقلّة
نجح أيمن صفيّة ولينا دياب، ومعهما الأحد عشر كوكبًا، في عدم الوقوع في فخّ الجرأة أو المشاكسة؛ فكانت اللغة الفنّيّة للجسد، لا بوصفه أداة، بل بوصفه مقولة إنسانيّة فردانيّة، محض إنسانيّة ومحض فرديّة، كانت هي البوصلة، وهي سيّدة المشهد المسرحيّ الراقص بامتياز، ونجحوا جميعًا مع مصمّم الملابس توفيق سعيد، في استحضار الجسد على نحو يليق بالأنثى، واستحضار "الذكورة" عبر البدلات السوداء، الّتي تحوّلت إلى حالة مشهديّة تشكّل جزءًا مهمًّا من لغة الرقص، وما سكتت عنها، على نحو صارخ.
لا وجود للحركات الجماعيّة المتماثلة والمتزامنة في العرض، لا وجود للجماعة بوصفها قطيعًا مطيعًا يحاكي بعضه بعضًا، ويجترّ سلوكيّات بعضه بعضًا، بل نحن هنا أمام عرض راقص، تتمزّق فيه العيون أثناء المشاهدة، حيث إنّ كلّ واحدة وواحدة من الراقصات كينونة مستقلّة، تخوض مسارها الشخصيّ وأوجاعها الذاتيّة بمعزل عن الأخريات، لكنّ خطًّا واحدًا لا يصنع دلالة، بل يحتاج إلى مزيد من الخطوط لتمنحه تعبيرًا، وهنا تتواشج السرديّات الشخصيّة والمسارات والصراعات، في نسيج متآلف على نحو بارع وذكيّ.
الجسد مفصحًا عن ذاته
كان التعرّي بارزًا في العرض دون أن يحدث بالفعل، كان راقيًا وعميقًا؛ تعرية العقل الذكوريّ، المتسلّط والكاتم للأنفاس، كان بارزًا في إضاءة معاذ الجُعبة، وملابس توفيق سعيد، وفي موسيقى كلٍّ من Ori Lichtik, Avi Yona وغيرهما، وتعرية العقل الأنثويّ، الرافض والثائر على الخطاب الاستلابيّ، كان يتّخذ لنفسه مسارات مدهشة ومؤثّرة، عبر أجساد الراقصات الّتي لا تتناسب جميعها – بالضرورة - ومعايير الجمال الشائع، أو مقاييس الجسد الراقص الكلاسيكيّ؛ فكانت على تنوّعها وخروجها في ذاتها عن قواعد المألوف، أكثر حياة وإقناعًا وصدقًا في التعبير.
في "بين عالمين" مقاربات اجتماعيّة وجنسانيّة ونفسيّة ووجوديّة، لا تزال ضمن الممنوع في الخطاب الفنّيّ العربيّ؛ مقاربات تشبه موسيقى التانغو ذاتها (and Kurt Weill Resina)، المفعمة بالشغف والشبق، والرغبات والخيانات، والحبّ والجفاء، والتماثل والتنافر بين الأجناس والأعضاء، والأجساد والنفوس، والّتي تُشير بكلّ أصابع الجسد وخلاياه، إلى التكوين المركّب للإنسان، وجماليّة نقصانه وتناقضاته.
الجسد، كلّ الجسد، أفصح عن ذاته في هذا العرض، بلحمه وصوته، بدفئه وبروده، بأصابعه الصارخة تحت الضوء الحارق، أو تلك المستترة تحت جوارب السواد، بالشعر الهائج والعيون الفاغرة... بالجسد الكامل الواحد المتعدّد بكلّ انفعالاته وسكونه؛ بكلّ هذا برع العرض في قول مقولته وبثّ جماله وسحره.
في الفيزياء الحديثة، عدد كبير من العلماء يتحدّثون عن وجود أحد عشر كونًا؛ تمامًا كعدد أوتار العود الحديث، وكعدد الكواكب في حلم يوسف الشهير. هذا العدد اللازوجيّ/ المُثنّى والجمع في صيغة المفرد، ولهذا دلالات غير قليلة، في صميم مقولة هذا العرض المتمرّد على العلاقات "الزوجيّة"، في سياقها الاجتماعيّ الذكوريّ، والمتجاوز لمفهوم الهويّة/ هويّة الجسد، وهويّة الإنسان الفرد، في تعريفاتها التقليديّة المربّعة والمغلقة.
عمل صعب
"بين عالمين" عمل صعب، ولغة تعدّدت فيها اللغات، ومؤلَّف تنوّع فيه المؤلّفون، وهو بالتالي عسير على عمليّة النقد المعمّق والتفصيليّ من المشاهدة الأولى، لكنّه مقنع ومؤثّر وصادم وجميل في المشاهدة الأولى، وهو مفاجئ لمن يعرف عروض هذه المدرسة السابقة الرائعة جميعها، لكن ثمّة قفزة نوعيّة حدثت في هذا العرض، ربّما يمكن أن تكون مبشّرًا لمفترق طرق جديد في تاريخ الرقص المعاصر الفلسطينيّ؛ فنحن هنا أمام تصميم/ تأليف (Composition) متماسك وشائق ومُحكَم الصناعة، وأمام أداء فرديّ وجماعيّ بارع؛ فكلّ راقصة وراقصة على المسرح، شكّلت عالمًا خاصًّا مميّزًا يستحقّ المشاهدة والإصغاء على حدة، كما تناسجت هذه العوالم على نحو متشابك في ما بينها، ومع بقيّة مركّبات العرض الفنّيّة على نحو ممتع.
في "بين عالمين" إحدى عشرة بداية مبشّرة، اختارت التحدّي والطريق الصعب، تحت مظلّة "مدرسة الأمل للرقص المعاصر"، بإدارة السيّدة وداد عطالله، الّتي لم تتعب منذ ثلاثين عامًا على شقّ الشِّعاب الصخريّة، إلى أن انبثقت منها هذه السوسنات العطرة.
"بين عالمين" عرض رفع سقف توقّعاتنا من العروض القادمة كثيرًا، وما عاد ممكنًا قبول ما هو أقلّ منه، وهذا ما يجعله بداية لمسار شاقّ، وتحدٍّ مفتوح ومشرَّع على المستقبل.
..........
* راقصات/ طالبات شاركن في العرض: جونا مزّاوي، مرح عزّام، سما ضوّ، ندين مرشي، جويل حدّاد، لين داوود، رند بقلي، أسيل كسابري، يارا حدّاد، لنا سمعان، نوار عفيفي.
مؤلّف موسيقيّ وشاعر. درس التأليف الموسيقيّ في عدد من العواصم العالميّة، مثل موسكو وبرلين، كما درس علم الدماغ في برلين وفلسطين. له المئات من المؤلّفات الموسيقيّة، وهو حاصل على 40 جائزة عالميّة ومنحة إبداعيّة في الموسيقى والبحث العلميّ والشعر. صدر له عدد من المؤلّفات البحثيّة والأدبيّة والأسطوانات الموسيقيّة. أسّس عام 2013 "أكاديميّة جبران للموسيقى والفنون" في الناصرة.