الرقص على جثث البقرات المذبوحة

من العرض المسرحيّ "الكباريه"

 

عرض "الكباريه"، جديد مسرح "خشبة" في حيفا، خلطة جهنّميّة من الفرجة والبهرجة والرقص والغناء وذبح عددٍ غير مسبوق من البقرات المقدّسة. مشروع فنّيّ من الطراز الأوّل، لا يهادن ولا يمكن مشاهدته بأيّ حياد.

 

في عرض "الكباريه" الجديد لمسرح "خشبة" في حيفا، يجري نكْح وذبْح والتهام قطيع كامل من البقرات المقدّسة، من دون الالتزام بهذا الترتيب بالضرورة. عرض صادم ووقح وقاسٍ وخشن، لا مكان فيه للحياد أو للحلول الوسطى: كباريه راقص خليع، يسخّر البذاءة بكلّ مفرداتها وحالاتها من دون تردّد أو عمل حسابات ربح وخسارة. بعد مشاهدة العرض سيطر عليّ هاجس مظفّر النوّاب؛ هو الذي قال: "اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية... بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس... أروني موقفًا أكثر بذاءة ممّا نحن فيه".

فرج سليمان وهندري إندراوس

الكباريه خلطة جهنميّة بمجرّد توفّر المعطيات الأولى: فضاء يحاكي المطعم أو المقهى (أو مطعم ومقهى حقيقيّان)؛ طاولات وكراسٍ وطعام وكحول، وعرض ليليّ يعتمد على فقرات متتالية، تراوح بين الترفيه الخالص وبين الساتيرا السياسيّة اللاذعة. في هذا السياق، عمل طاقم "خشبة" على تجهيز عرض يحوي عناصر الكباريه الأساسيّة من دون نقصان، وقد يكونون أضافوا إليه طاقم النادلين والنادلات والمضيفين والمضيفات المبهرَجين والمتبرّجين، الذين شارك اثنان منهما في العرض أحيانًا (مضاء مغربي وسميرة قادري) بخفّة ظلّ ورشاقة. إنّه إذًا عرض "By the book"، مع أنّ مضامين "الكتاب" حقل من الألغام.

البابا بغتصبني

مجدّدًا، يثبت بشّار مرقص أنّه مخرج مجدّد وخاصّ ونادر، لا في حرفيّة العمل وتفاصيله شبه المتكاملة فحسب، بل في القرارات المضمونيّة والأسلوبيّة التي سارت على خطّ رفيع جدًّا، يفصل بينها والغوغائيّة تارة، وبين المبتذَل المنفِّر تارة أخرى. مراوحة فنّيّة بهلوانيّة تبقي المشاهد على أعصابه طيلة العرض: ماذا الآن؟ وهل ثمّة مزيد من الجنون و"التطرّف"؟ تعرف أنّ المشهد القادم سيفاجئك ويصدمك، وقد يدفعك للتململ والتبرّم ومراقبة وجوه من حولك كي تأخذ تصريحًا بالضحك. هذه لحظات المسرح الرائعة، التي تحرج المشاهدين وتضعهم في خانة اليِكّ: نحن شركاء في هذا الشيء، ومجرّد الضحك الآن في "مشهد ذوي الشهيد" سيجعلنا متآمرين منسلخين عن القضيّة.

تعلو البقرات المقدّسة المنصّة وتذبحنا الواحدة بعد الأخرى: الفتاة التي يغتصبها أبوها، والرجل الذي يطارد أخته ليقتلها لأنّها "انفتحت"، وأب وأمّ الشهيد اللذان يؤدّيان إرشادات سيناريو مكتوب سلفًا لكيفيّة التصرّف والحزن بعد مقتل ابنهما، والشهيد والشهيدة اللذان يغنّيان أغنية عن عبثيّة ولا جدوى مقتلهما أصلًا، مُدَمِّرَيْن الأسس المركزيّة الشعبيّة للقضيّة الفلسطينيّة، وغيرها. هذه مضامين عنّا اليوم، عن الراهن والأيّام القادمة (السوداء)، تستعين بالماضي للارتكاز على معطيات أوّليّة لتوضيح الفكرة لا أكثر.

أيمن نحّاس

ومن هذا المنظور، فهي تظلم الماضي (الحفيد الذي يوبّخ جدّه الميت على بقائه في أراضي 48 وقت النكبة، وعدم الهروب من هذا المكان "الخرا" إلى برلين)، وتجرّده من مركّباته وتعقيداته. لكنّ هذا ليس درسًا في التاريخ: إنّه عمل فُرْجَوِيّ، يختزل بقسوة أحيانًا (وهذا ما تفعله الكوميديا على وجه الخصوص)، ويطعن في الخاصرة. يطعن تاريخنا وذاكرتنا وراهننا ومستقبلنا، ولا حياد في ذلك: فإمّا أن تقضي ساعتين ونصف الساعة في مراوحة منهكة بين الضحك والألم، وإمّا أن تخرج مع الجدار الذي شيّدتَه بينك و"هذه المهزلة"، معتبرًا إيّاها مغامرة وطيشًا.

كادر ممتاز

أنجزت مجدلة خوري وهيثم حدّاد عملًا ضخمًا من تصميم الملابس والأزياء في العرض، أجزم أنّه كان محصّلة لعمليّة بحث واستقصاء غير سهلة بالمرّة؛ فمن الصعب جدًّا أن تحافظ على خصوصيّة كلّ شخصيّة على الخشبة (وثمّة الكثير منها، تأتي وتروح)، في حين أنّ كلّ هذه الشخصيّات تعيش عالمًا واحدًا مشتركًا: التنافر العجائبيّ (Grotesque)، الذي يفرض نمطًا معيّنًا ثابتًا من بلورة الشخصيّات وتصميمها، مع ضرورة الحفاظ على موتيف خاصّ في كلّ شخصيّة. هذه عمليّة تأثيث متناهية الدقّة، حسّاسة وحاسمة في مثل هذه الأعمال، وخوري وحدّاد أنجزا عملًا ممتازًا من الدرجة الأولى، قد يجوز التفكير في كثافته التي فاضت عن حدّها في بعض المرّات، حين جرى تجاوز الخطّ الدقيق الفاصل بين اللونيّات الجميلة والبهرجة الزائدة.

طاقم الممثّلين ممتاز؛ طاقم استجاب بطواعيّة وخفّة وليونة لرؤيا بشّار مرقص الثاقبة، وحوّلوا أنفسهم، وبقدرات عالية ومتميّزة، إلى بيادق مأسورة ومسيَّرة في العمل، من دون أن يفقدوا الإرادات الشخصيّة لكلّ دور وشخصيّة، طاقم أعطى كلّ ما يملك من أجل العمل، "دلق أمعاءَه" على الخشبة كما قال مسرحيّ زميل، وهذا أمر غير مفروغ منه بتاتًا، ولا سيّما أنّ الأمر يبدو كلعبة تمثيليّة خاسرة سلفًا: "كوميديا أخطاء" منفلتة ستوقع عددًا لا يُحصى من الضحايا والخسائر (على الخشبة وبين الجمهور). وفي الوقت ذاته، استطاع طاقم الممثّلين أن يطعّموا حضورهم بالحياة الضاجّة (أكثر من اللازم أحيانًا!) والملوّنة، والأهمّ، التي تستند إلى الأفعال والرغبات والدوافع الخشبيّة. وعلى الرغم من أنّ العرض نفسه يقوم على مشاهد متتالية (Numbers) ليس من المفروض أن تقوم على أيّ رابط دراميّ، إلّا أنّ أداء الممثّلين وحضورهم الطاغي جعل من المقاطع المتتالية فسيفساء متناثرة يمكن بسهولة جمع قطعها وترتيبها لنرى فيها صورتنا المترابطة.

شادن قنبورة

أيمن نحّاس تجلّى في حضور آسر ومميّز، وأداء استعراضيّ بارع (Virtuoso)، غناءً وتمثيلًا؛ هنري إندراوس ممتاز كالعادة، وشادن قنبورة تثبّت نفسها يومًا بعد يوم ممثّلةً قديرة ومفاجئة وشجاعة ومجرّبة وكاملة الحسن على الخشبة. سماء واكيم (في طلّتها المسرحيّة الطويلة الأولى، لي على الأقلّ) فرضت حضورًا واثقًا وتحكّمًا بجسدها وصوتها، ونجحت في إشاعة جوّ مرتبك من الجنون المحفوف بالأيروسيّة الناعمة. زد على ذلك ضمّ زيوار بهلول، الفنّان الموسيقيّ، إلى العمل مقدّمًا للفقرات الفنّيّة ومديرًا للعرض، خطوة حقّقت تنويعًا لافتًا، وخلق حضوره إلى جانب فرج سليمان ثنائيًّا غريبًا كان من الممكن استخلاص المزيد منه.

ولا مكان للمرء أن يبالغ مطلقًا في توصيف قدرات فرج سليمان على إنجاز مثل هذا المشروع التلحينيّ الضخم، متنقّلًا بين مزاجات أغانٍ من النقيض إلى النقيض، ومحافظًا على العنصر الكلاميّ في الأغاني التي وضع ألحانها، وهو مميّز مهمّ في هذا الجانر، حين يختلط الغناء بالحديث أو الصراخ أو الشكوى أو الوعظ. ولذلك، شكّلت موسيقى سليمان دورًا حاسمًا وأساسيًّا في تدعيم العمود الفقريّ للعرض كلّه.

التقيّؤ بين النقاط!

إلى جانب ذلك، اختار مرقص والطاقم أن ينهوا الكباريه المنفلت "المعتوه" بمشهدين جاءا في النهاية تقريبًا، مشهدا "الشهادة"، وكانا مشهدين جديّين ومربكين وواجمين، وأعتقد أنّ هذا كان غلطة في الحبك والتقطيع: يجب أن يخرج المرء من الكباريه وهو يضحك وفي قمّة انفعاله وحماسه، وأن يغرق فيما بعد، وحده، بكآبة المياه الآسنة التي طفت أثناء العرض. أعتقد أنّ الطاقم شعر بالحاجة إلى "قفلة" (Closure) دراميّة وجدّيّة بعض الشيء بسبب موضوع المشهدين، وربّما انطلاقًا من الرغبة بإنهاء هذا العرض بمقولة جدّيّة؛ وهذا خطأ في نظري قد يكون نابعًا من رغبة الطاقم في إثبات "جدّيّة" العمل وبقائه - على الرغم من كلّ شيء - في هوامش الحيّز الآمن. هذا تفصيل مهمّ جدًّا لأنّ آخر ربع ساعة في العرض هي التي تحسم شعورك النهائيّ تجاهه، بالإضافة إلى إمكانيّة تقصير العرض والتنازل عن مقاطع أقلّ متانة فيه.

سماء واكيم

لقد راوح العرض كلّه بين خيارات مهنيّة وفنّيّة، يجدر التفكير بها مليًّا، وهي لا تنسحب على هذا الكباريه فحسب، بل يمكن طرحها في سياق تعاملنا مع الجانرات المعاصرة والكلاسيكيّة على حدّ سواء: هل يمكن إنتاج مسرحيّة لشكسبير اليوم، في 2018، من دون عَصْرَنَة النصّ والإخراج والتمثيل؟ وسؤال لا يقلّ صعوبة: هل يمكن أصلًا إنتاج "الكباريه" أو "الملك لير" أمام جمهور يكاد لا يملك أيّ ثقافة بصريّة ومسرحيّة من هذين الجانرين؟ أعتقد أنّ مرقص نزع نحو الخيار الذي بدا له صحيحًا، وهو استحضار الكباريه بحذافيره وبَهْرَجَتِه الأصليّة الأوروبّيّة، انطلاقًا من أنّ الجمهور لا يعرف أصلًا هذا الجانر، ويجب تأجيل "تهذيب" هذا الجانر أو عَصْرَنَتِهِ أو التنويع عليه في سياقنا الحاليّ، إلى ما بعد. هذا خيار شرعيّ، وكأيّ خيار: له إيجابيّاته وسلبيّاته.

بدأنا بمظفّر النوّاب وننهي بمقولته: "أنا يقتلني نصف الدفء ونصف الموقف"، وعرض "الكباريه" فيه الموقف كلّه، بكلّ تفاصيله المؤلمة، وبكلّ البرد الموجود في نصف الدفء.

....................

"الكباريه" ■ نصّ لبشّار مرقص وطاقم المشروع ■ إخراج: بشّار مرقص ■ تمثيل: زيوار بهلول، سماء واكيم، شادن قنبورة، فرج سليمان، هنري إندراوس، أيمن نحّاس ■ تأليف موسيقيّ: فرج سليمان ■ سينوغرافيا: مجدلة خوري ■ تصميم ملابس: مجدلة خوري وهيثم حدّاد ■ مكياج: حنان دراوشة ■ تصميم حركة: سماء واكيم ■ تصميم إضاءة وتقنيّات: مودي قبلاوي.

 

 

علاء حليحل

 

من مواليد قرية الجش في الجليل، ومقيم في عكّا. كاتب أدبيّ ومسرحيّ وصحافيّ ومترجم، حاصل على البكالوريوس في الاتصال الجماهيريّ والفنون الجميلة من جامعة حيفا، وخرّيج مدرسة كتابة السيناريو في تل أبيب. يعمل منذ سنوات طويلة في الصحافة المكتوبة والإذاعيّة وصحافة الإنترنت، وأسّس موقّع 'قدّيتا'. من كتبه: 'أورُفوار عكّا' (رواية،  2014)؛ 'كارلا بروني عشيقتي السرّيّة' (مجموعة قصصيّة، 2012 و2016). له عدّة مسرحيّات وسيناريوهات سينمائيّة. حائز على جوائز عديدة، أبرزها: جائزة غسّان كنفاني للقصّة القصيرة، جائزة فلسطين الدوليّة عام 2013؛ جائزة 'بيروت 39' عام 2010؛ جائزة عبد المحسن القطّان ثلاث مرّات.