أزمة المدارس الخالدة | بقلم إبراهيم طوقان

إبراهيم طوقان (1905 - 1941)

 

المصدر: الجامعة الإسلاميّة - جريدة يوميّة سياسيّة.

موعد النشر: الجمعة، 19 تشرين الأوّل 1940.

موقع النشر: جرايد.

 

 

بقلم الأستاذ إبراهيم طوقان

 

تعريف هذه الأزمة

في مثل هذه الأيّام من كلّ سنة، تقوم مشكلة تشغل مدن فلسطين وقراها، طيلة أيّام الخريف، وهي تتلخّص في ازدياد عدد البنين والبنات الّذين يتحتّم عليهم دخول المدارس لبلوغهم السنّ القانونيّة؛ لتعلّم مبادئ القراءة والكتابة. فإذا أقبلوا على المدارس ليسجّلوا فيها أسماءهم، سُدّت في وجوه كثير منهم بداعي ضيقها عن استيعاب هذا العدد الكبير من الطلّاب. وتتحدّث الجرائد المحلّيّة في الموضوع كثيرًا، وتمرّ الأيّام، فتسكن الحركة وينطوي الحديث. على أنّ الباحث يجب ألّا يغفل لسؤال عن سبب هذا السكوت، وهل هو ناشئ عن التوصّل أخيرًا إلى طريقة مرضية في حلّ الأزمة؟ كلّا، ولكن السبب في السكوت هو اليأس من الوصول إلى نتيجة، ورجوع أولياء الطلّاب إلى أنفسهم في تدبير أبنائهم في أعمال بسيطة، أو إهمالهم لرحمة القضاء والقدر!

إذن، فأزمة المدارس "خالدة" لا تفنى، بل ننتظر أن تكون في مطلع كلّ عام مدرسيّ أشدّ ممّا كانت عليه في عام سابق.

 

أسباب الأزمة

أسباب هذه الأزمة عديدة، وأهمّها فيما أعتقد ثلاثة رئيسيّة:

1. انتباه عامّ في البلاد إلى ضرورة التعليم، ونظر الآباء إليه كفرض مقدّس عليهم نحو أبنائهم.

2. تقصير الحكومة في معاضدة واسعة النطاق للقضاء على أزمة المدارس قضاء مبرمًا.

3. فقدان الجرأة الكافية عند مديري المدارس ومفتّشي الألوية في بسط الحالة للحكومة مفصّلة بمالها وأسبابها، وقصورهم في تقديم اقتراحات عمليّة تضمن حلّ الأزمة، مع الإلحاح المستمرّ في تصوير الحالة وضرورة الوصول إلى نتيجة مرضية فيها.

 

 

وهنالك سبب لا يقلّ وجاهة عن الأسباب المتقدّمة، غير أنّه عالميّ، وهو ازدياد النسل ومعالجته بالتحديد، لم يزل موضوع البحث في كلّ قطر. هذا ولا نظنّ الحكومة ولا أهل فلسطين راغبين في الالتجاء إلى تحديد النسل في أزمة المدارس، بل، على العكس؛ فالبلاد هنا في حاجة إلى الاستكثار من النسل لحفظ التوازن بين سكّان فلسطين العرب وبين سيل الهجرة المتدفّق على البلاد. نقول ذلك بالرغم من اختلال هذا التوازن الظاهر في ناحية الطفولة هنا، والرجولة المستكملة هناك...

 

اقتراح عمليّ

ندع المداعبة القاسية جانبًا ونتقدّم بالاقتراح العمليّ الآن:

مديرو المدارس والمفتّشون هم أدرى الناس بهذه الأزمة، وأكثرهم شعورًا بوطأتها، وإذا تحدّث أولياء الطلّاب بسوء، أو أعربوا عن نقمة، فإنّما يتناولون المديرين والمفتّشين بحديثهم ونقمتهم.

نقول ذلك عن علم، ونظنّهم لا يجهلونه؛ فأصبح ضروريًّا، والحالة هذه، أن يكونوا هم أشدّ الناس اهتمامًا بالأمر وتفكيرًا بالوصول إلى طرق حلّه، وإذا فكّروا، فقد تحتّم عليهم أنّ --- [يشاركوا – اقتراح المحرّر] الناس في عرض أفكارهم على --- [المحرّر: الحكومة]، وجرأتهم هذه يستمدّونها من --- [النهج - اقتراح المحرّر] الصريح الّذي لا يُدفع، --- [ويستندون – اقتراح المحرّر] فيها إلى اختبارهم الشخصيّ الّذي لا يقبل الجدل؛ فيضعون تقاريرهم مشتملة على حقائق مجرّدة، أساسها الوقائع وأركانها الأرقام، ثمّ يتضامنون كتلة واحدة في وضع اقتراحات عمليّة يقدّمونها للحكومة، مطالبين بتنفيذها.

 

الحكومة والأزمة

الحكومة تنظر إلى هذه الأزمة نظرها إلى سواها من الأزمات الّتي تعالج بالبحث على صفحات الجرائد؛ فهي لسوء الحظّ تنظر إليها "مبالغًا فيها"، وإن كانت لا تنكرها إنكارًا كلّيًّا. وتكون النتيجة كما قالت جريدة القبس الدمشقيّة عنوانًا لإحدى افتتاحياتها:

"نحن نكتب ونحن نقرأ...".

 

 

وفلسطين، كغيرها من الأقطار الواقعة تحت عبء الانتداب، مبتلاة بسوء ظنّ حكوماتها في كلّ مَنْ يطلب حقّه جهارًا، وترى في مطاليبه غلوًّا، وفي مشاكله تهويلًا! ولسنا في مقام البحث عن سوء ظنّ الحكومة وحسنه، ولكنّه الواقع الّذي يجب الاعتراف به ههنا؛ فنوجد محيطًا أدنى إلى التفاهم، ونتوجّه إلى ناحية وطنيّة نتوقّع أن تكون مسموعة الكلمة عند الحكومة، بالنظر لمراكزها العالية فيها، لعلّ هذه الناحية تشارك هؤلاء المأزومين شعورهم إلى أبعد مدى!

 

نظرة في ميزانيّة الحكومة

صدر العدد (451) من الجريدة الرسميّة، وفيه "مشروع قانون اعتماد الميزانيّة لسنة 1934 – 35"؛ فوجدنا هذه الميزانيّة تشتمل على ثلاثين بابًا اخترنا من بينها ما يلي للمقارنة:

دائرة البوليس 520468 ج. ف.

قوّة حدود شرق الأردنّ 176262 ج. ف.

الدفاع 168500

والمجموع 875230

أو ما يزيد على 22 في الماية من الميزانيّة البالغ قدرها 3,914,278 جنيهًا فلسطينيًّا، ونصيب المعارف من هذه الميزانيّة الضخمة لا يزيد على 206108 جنيهات فلسطينيّة؛ أي نحو 5 ونصف في الماية منها.

والمطّلع على هذه الأرقام يرى الفرق الشاسع في النسبة المئويّة بين المخصّصات المذكورة، فيحكم رأسًا بإفلاس الانتداب الّذي بذل الجهود خمس عشرة سنة طوالًا لترقية البلاد والسير بها في معارج المدنيّة، ثمّ بقاء هذه البلاد حتّى اليوم وهي إلى السجون أحوج منها إلى المدارس، وإلى البوليس أحوج منها إلى الشباب المتعلّم!

ولعلّ هذا هو أعجب ما تنطوي عليه ميزانيّة حكومة فلسطين من المنطق، وأبلغ ما تتضمّنه من المعاني.

 

نابلس - إبراهيم عبد الفتّاح طوقان

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.