غزّة... من المملكة المستقلّة إلى تشي جيفارا

أحد شواطئ غزّة عام 1942

 

«المملكة الغزّيّة»

منذ القدم كانت مدينة غزّة مدينة بحريّة بامتياز، تعاقبت عليها الحضارات، وجلب إليها البحر تجّارًا وقراصنة وحضارات وسكّانًا. هذه المدينة - وبحكم موقعها بوّابة لآسيا نحو أفريقيا والعكس – كان لها دور أساسيّ في التجارة منذ القدم. حملت المدينة عديد الأسماء، مثل «سيّدة البخور»، و«المحروسة»، و«غزّة هاشم» الّتي ارتبطت بأهمّيّتها وبشهرتها. ثمّ كان لها مكانة مهمّة في الفلسفة والشعر والعلوم في العهود المسيحيّة المختلفة، وتقويم مسيحيّ خاصّ بها، وعملة خاصّة بها للتجارة بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربيّة ومصر، بحيث تُحَوَّل بعد ذلك لتُسْتَبْدَل بها عملة يونانيّة لاستكمال التبادل التجاريّ، الّذي كانت غزّة فيه المركز الأساسيّ في المشرق.

استمرّت أهمّيّة غزّة ووصلت إلى ذروتها في العهد المملوكيّ، حين سُمِّيَت المدينة «المملكة الغزّيّة»، وقد تراجعت مكانتها في العهد العثمانيّ، فأصبحت تتبع «متصرفيّة القدس» العثمانيّة...

 

استمرّت أهمّيّة غزّة ووصلت إلى ذروتها في العهد المملوكيّ، حين سُمِّيَت المدينة «المملكة الغزّيّة»، وقد تراجعت مكانتها في العهد العثمانيّ، فأصبحت تتبع «متصرفيّة القدس» العثمانيّة، وكانت مكانتها تتغيّر حسب السياقات وعلاقة الحكّام العثمانيّين بها ونظرتهم إليها.

ومع نهاية الحقبة العثمانيّة، كانت مدينة غزّة ولواؤها يحتويان على ممثّليّات وقنصليّات أجنبيّة، وتجّار وجاليات مختلفة، واستمرّت هذه الحال في الفترة البريطانيّة لكن بدرجة أقلّ؛ لأنّ الإدارة الاستعماريّة البريطانيّة عمدت إلى تقييد حركة التنقّل، وأغلقت الحدود بعد أن كانت مفتوحة.

 

بهارات الهنود والأفغان

أدخلت الشرائح الاجتماعيّة والحرفيّة المتنوّعة طائفيًّا وعرقيًّا، حِرَفًا ونشاطات اقتصاديّة وتجاريّة، وكان لهذا الحضور العالميّ من الهنود والأفغان دور في تجارة البهارات، وأثّر توفّرها في ذائقة المطبخ الغزّيّ المليء بالبهارات والتوابل؛ وأدّى الأرمن فيها دورًا بنقل التصوير والطبابة، وانتعشت طرق الزوايا الصوفيّة، وأشكال الإسلام الشعبيّ الّذي نقله وأثّر فيه المغاربة. وقد سكنها أتراك، وأكراد، وهنود، وغجر، ومغاربة، ومصريّون، وألبان، وشيشان، وأرمن، وأفغان، وفُرْس. إضافة إلى إرساليّات مسيحيّة غربيّة. عمل أبناء هذه الجاليات بالتجارة أو بمهن مثل الطبّ والتمريض والعدل، أو الهندسة، أو الصيدلة، أو بالرقص كالغجر. وحضنت المدينة علاقات صهر ونسب بين بعضهم والسكّان الغزّيّين.

 

دمار مسجد غّزة الكبير خلال الحرب العالميّة الأولى، 1917 | NZ History

 

وفي نهاية الفترة العثمانيّة انتشرت في المدينة أنماط ثقافيّة جديدة، كعرض المسرحيّات وبروز الصالونات الأدبيّة ومجالس الموسيقى، وفتحت الجمعيّات الأدبيّة والثقافيّة الفلسطينيّة فروعًا لها مثل «النادي الأدبيّ»، وفروعًا لنوادٍ أدبيّة مثل «المنتدى الأدبيّ» في يافا.

 

«حيّ الرمال»... فاتحة التحضّر الحديث

تغيّرت معالم المدينة الساحليّة مع بداية الحرب العالميّة الأولى؛ فقد كان قرار العثمانيّين بتحويل المدينة خطًّا حربيًّا لصدّ الهجوم البريطانيّ على فلسطين من الجهة الجنوبيّة ذا أثر بالغ؛ فقد حُصِدَت الأرواح، ونزح آلاف الغزّيّين إلى مدن فلسطينيّة أخرى، وانضمّوا إلى آلاف أخرى كانوا قد هجروا المدينة في «عام الجراد» 1915، وخلال عام 1916. علاوة على هذا، شهدت المدينة في تلك الفترة تهدّم أجزاء كبيرة منها، بفعل القصف البريطانيّ للبلدة القديمة؛ وهذا ما يفسّر أنّ مدينة غزّة اليوم لم يَعُد بها مدينة قديمة كمدن فلسطينيّة أخرى، فخسرت المدينة كثيرًا من معالمها الأثريّة التاريخيّة.

عاشت المدينة خلال الحضور الاستعماريّ البريطانيّ تغيّرات حضريّة عديدة، منها عودة عدد من المهجَّرين، وتوسّع حدود المدينة الحضريّة، وقيام نهضة معماريّة كبيرة، خاصّةً على مستوى إقامة المدينة الجديدة، وقد كان «حيّ الرمال» فاتحة تطوّرها الحضريّ، وهذا يعود لتخطيط حضريّ قاده رئيس البلديّة الحسيني، الّذي أجرى عمليّة تحديث للمدينة عبر فتح شوارع قديمة وتوسيعها، وتمديد الكهرباء والمياه، وترقيم الشوارع.

وللإشارة هنا، تُعَدّ مدينة غزّة من أوائل المدن الفلسطينيّة الّتي سُنَّ بها قانون ترقيم للشوارع منذ 1927، وجرى تطبيقه تدريجيًّا، وكذلك تسوير البيوت، وتشجير متنزّه وإنشاؤه، وهو واحد من أكبر متنزّهات فلسطين وما زال قائمًا، ثمّ إنشاء حدائق صغيرة أخرى، والعمل على تطوير شبكتها التحتيّة مع بدء دخول الكهرباء وتمديد المياه، وخلق مؤسّسات صحّيّة، وجرت تغيّرات فراغيّة وحيّزيّة وهندسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة.

كان «حيّ الرمال» فاتحة تطوّرها الحضريّ، وهذا يعود لتخطيط حضريّ قاده رئيس البلديّة الحسيني، الّذي أجرى عمليّة تحديث للمدينة عبر فتح شوارع قديمة وتوسيعها...

وترافق هذا مع تطوّر حركة القطارات وتوسّعها، ووجود مطار صغير، وشبكة طرق خارجيّة أقامتها الإدارة الاستعماريّة لربط مدينة غزّة بمدن أخرى، جاءت ضمن خططها الحضريّة للاستثمار في الطرق الحيّزيّة، الّتي تخدم فكرة سيطرتها.

 

أخوّة مع يافا

منذ القدم اشتهر ميناء مدينة غزّة، وفي فترات لاحقة كان الميناء يُسْتَخْدَم لنقل الحجّاج، ولرسو المراكب الصغيرة، ولتحميل سفن الشحن. وبقي التحميل على مقربة من الشاطئ، حيث تُفَرَّغ الحمولات أو العكس عن طريق قوارب صغيرة «فلوكات»، أو عن طريق القوارب الصغيرة «الحسكات»، بالتعبير المحلّيّ، كما يُسَمّيها سكّان المدن الساحليّة الفلسطينيّة. خلال الفترة البريطانيّة وضعت الإدارة الاستعماريّة خطّة لتطوير المرفأ لكنّها لم تُنفَّذ. أمّا نشاطه التجاريّ، فقد كان الميناء مشهورًا بتصديره منتوجات عديدة، ولا سيّما تصدير الشعير لصناعة البيرة إلى بريطانيا، أو لتصدير الصابون الغزّيّ، أو لتسويق تجارة المناطق الجبليّة مثل تجارة مدينة نابلس؛ لتمرّ بضاعتها إلى العالم عبر غزّة.

ربّما يمكننا القول إنّ تحديث المدينة على نطاق واسع، كما حدث مع المدن الساحليّة الأخرى في فلسطين كحيفا ويافا، لم يكتمل بسبب عدم تطوير مرفأ للمدينة؛ وهو ما أبقى على غزّة مدينة مبتورة بميناء صغير غير مؤهَّل. ورغم ادّعاء سلطات الاستعمار تجهيز مخطّطات حضريّة للمدينة، من ضمنها إقامة مرفأ جديد، إلّا أنّها لم تنفّذ خططها، وبقيت حركة الملاحة فيها خجولة، والبنى التحتيّة المرتبطة بالملاحة غائبة تمامًا.

 

احتفال دينيّ في غزّة عام 1943

 

إضافة إلى أنّ المدينة بصفتها مدينة ساحليّة لم تتطوّر، وقد يكون من اللافت أنّ النشاط البحريّ، وفي طليعته الصيد البحريّ، محدود تمامًا لمدينة بحريّة. وفي هذا الخصوص اعتمدت مدينة غزّة على ميناء يافا القريب، وعلى ميناء حيفا بشكل أقلّ، كما اعتمدت على يافا في كثير من المجالات؛ إذ كان لدى البلديّتين علاقات مميّزة، وثمّة علاقة تصاهر ونسب وحركة للتجّار بينهما. وقد اعتادت غزّة أن تطلب المساعدة من بلديّة يافا في كثير من المجالات، ونقل خبرات يافا إليها، مثل تزويدها ببضائع، وشراء معدّات، واستقدام مهندسين، وممرّضات، وقابلات قانونيّات، إلخ. وكذلك جذب مدينة يافا للمتنزّهين والمصطافين من غزّة، والذهاب لحضور الحفلات الموسيقيّة للفنّانين العرب مثل أمّ كلثوم وأسمهان ومحمّد عبد الوهّاب.

وانتشرت في غزّة أسواق السمك والنشاط البحريّ، لكنّه بقي محدودًا في تلك الفترة التاريخيّة؛ وربّما هذا يعود للضرائب الّتي فرضتها سلطات الاستعمار البريطانيّ، وهذا خلق حياة مدينيّة مرتبطة بالميناء القديم، وعائلات تمتهن الصيد عبر تناقل بين الأجيال، الّتي ستنضمّ إليها لاحقًا عائلات لاجئة من حيفا ويافا ومناطق جنوب الساحل الفلسطينيّ.

 

مطار وقطار

في نهاية الفترة العثمانيّة، أُنْشِئ في منطقة غزّة مطار صغير، أقيم في منطقة العريش، سُمِّيَ «مطار العريش»، و«مطار ابن العثمانيّ»، ثمّ أقيم في مدينة غزّة مطار حمل اسمها عام 1927، بالقرب من «تلّ المنطار»، وكان مطارًا لنقل البريد والأفراد وبعض البضائع، نشطت فيه شركات ملاحة جوّيّة، ونظّمت رحلات منه وإلى تركيا وسوريا والعراق ولبنان وأوروبّا.

بقي «مطار غزّة» مطارًا مهمًّا في فلسطين، إلى حين إقامة «مطار اللدّ» الّذي حلّ محلّه عام 1937، واستمرّ العمل فيه مطارًا عسكريًّا للقوّات البريطانيّة إلى حين خروجها من المدينة. كان لهذا المطار دور في الإبقاء على مدينة غزّة مدينةً تمرّ عبرها الملاحة الجوّيّة في المنطقة...

بقي «مطار غزّة» مطارًا مهمًّا في فلسطين، إلى حين إقامة «مطار اللدّ» الّذي حلّ محلّه عام 1937، واستمرّ العمل فيه مطارًا عسكريًّا للقوّات البريطانيّة إلى حين خروجها من المدينة. كان لهذا المطار دور في الإبقاء على مدينة غزّة مدينةً تمرّ عبرها الملاحة الجوّيّة في المنطقة، وسمح لمجموعات كبيرة من السكّان السياحة وتسهيل الانتقال لطلبة غزّة الدارسين في بيروت.

وقد كان للمدينة محطّة قطارات كانت وسيلة تَنَقُّل أساسيّة من غزّة – حيفا، وبالعكس، لكن مع دخول السيّارات قلّ استخدام القطارات. استمرّت هذه القطارات في العمل حتّى بعد 1948، وكانت تنقل آلاف المسافرين من مدينة غزّة وإليها، وخاصّة إلى مصر، حيث كانت المئات تدرس فيها وتمرّ عبرها يوميًّا.

 

راقصات «الجناكي»

كانت مدينة غزّة من أوائل المدن الفلسطينيّة الّتي انتشرت فيها دور السينما، فبعد مدن القدس ويافا وحيفا تلتها غزّة، فكانت التجربة الأولى لإنشاء سينما هوائيّة غير ناطقة عام 1927، عُرِضَت فيها أفلام صامتة، ثمّ تبعتها تجربة ثانية لإقامة سينما حملت اسم «السينما الخضراء». وبدءًا من 1939 أُنْشِئَت «سينما السامر» الّتي بدأت دارَ عرض صيفيّة، ثمّ تطوّرت إلى سينما ثابتة عام 1945. انتعشت السينمات في الفترة الناصريّة، وحتّى الثمانينات وُجِدَ في المدينة سبع سينمات، ما زالت اثنتان قائمتين.

أدّى وجود سينمات في المدينة إلى خلق ممارسات اجتماعيّة منفتحة خاصّة في أوساط الموظّفين وشرائح الشباب والطبقة المتوسّطة، وكانت غزّة من المدن الساحليّة الّتي كانت فيها حياة لهو وممارسات ثقافيّة كالرقص، ومن هذه الممارسات الحفلات الغنائيّة الّتي يتخلّلها وجود راقصات محترفات في الأعراس أو في الحفلات الخاصّة، وكان يُطْلَق عليهنّ اسم «جناكي» أو «النوريّات»، كما هي الحال في المدن الكبيرة في المشرق، وبقي هذا النمط حاضرًا حتّى نهايات الثمانينات مع تصاعد الخطاب الدينيّ في القطاع والمؤسّسات الراعية له.

 

تشي جيفارا في غزّة عام 1959

 

سياحة الشواطئ

وكالكثير من المدن الساحليّة الفلسطينيّة، كان السكّان يستجمّون على شواطئ المدينة وتخومها، وكان بعض العائلات يقضي العطل والإجازات على الشاطئ، ويمارسون طقوسًا معيّنة مرتبطة بأنواع من المأكولات البحريّة وغيرها، ويمارسون ألعابًا محلّيّة، ويقضون السهر والسمر.

وفي الثلاثينات شرعت البلديّة في تنظيم الاصطياف كشروط التخييم، وتحديد الأماكن المخصّصة للصيّادين، وتحديد أنواع الملابس، وتحديد نوعيّة الألعاب والبيع وكراسيّ الاستراحة، والسلوك والضوضاء، إلخ... وارتياد المقاهي والفنادق واللوكندات الّتي كانت تعجّ بالروّاد لقضاء أوقات الفراغ، ولعقد اللقاءات، ولعب النرد، والاستماع إلى الأغاني ونشرات الأخبار الّتي كانت تُبَثّ من الراديوهات، والّتي تلت أجهزة الفونغراف، إضافة إلى استضافة حكواتيّة ومنشدين، وكذلك ارتياد بعض السكّان بعض الحانات وأماكن بيع المشروبات الروحيّة، وكان في غزّة حتّى نهاية الأربعينات تسع خمّارات، وفنادق عدّة تُقَدَّم فيها الكحول.

عرفت المدينة تغيّرات على المستوى الاجتماعيّ، من خلال عصرنة الفضاءات المشتركة، وإنشاء مؤسّسات ثقافيّة، وإصدار بعض الصحف، وافتتاح نوادٍ رياضيّة واجتماعيّة. وتغيّرت في المدينة أنماط السكن والعيش لمجموعات جديدة، ونشأت فيها نواة لشريحة متوسّطة جديدة من الموظّفين في القطاعات الجديدة، الّتي بدأت تنافس بخجل المؤسّسات الاقتصاديّة العائليّة التقليديّة.

أصبحت غزّة مقصدًا لأهمّ الثوريّين والمفكّرين والكتّاب في حينها، مثل نهرو، وأنديرا غاندي، وتشي جيفارا. كما زارها لاحقًا سارتر وسيمون دوبوفوار، والكثير من الكتّاب والشعراء العرب والقادة...

بعد النكبة ستتغيّر مدينة غزّة بشكل جذريّ، فقد استقبلت عشرات الآلاف من اللاجئين في غضون ساعات، وتقلّص لواء غزّة، وفقدَ جُلّ أراضيه الزراعيّة. كانت الخمسينات نقطة تحوّل مهمّة حين أضحى اللواء الجنوبيّ مركز الصدارة، فنشأت «حكومة عموم فلسطين»، ووُلدت الحركات الوطنيّة الفلسطينيّة والتنظيمات الفلسطينيّة، ومع هذه التغيّرات السياسيّة، وخاصّة في الفترة الناصريّة، أصبحت غزّة مقصدًا لأهمّ الثوريّين والمفكّرين والكتّاب في حينها، مثل نهرو، وأنديرا غاندي، وتشي جيفارا. كما زارها لاحقًا سارتر وسيمون دوبوفوار، والكثير من الكتّاب والشعراء العرب والقادة.

 

 

تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطينيّ»، بالتعاون بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة والفنون» 2020.

 

 

 

أباهر السقّا

 

أكاديميّ فلسطينيّ، يحاضر في دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة بجامعة بيرزيت. حامل لشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة نانت- فرنسا، عمل محاضرًا في عدد من الجامعات الفرنسيّة ما بين 1998-2017. له العديد من الدراسات والمقالات في مجالات التعبيرات الاجتماعيّة الفنّيّة، والحركات الاجتماعيّة، والهويّة، والذاكرة، والوطنيّات، والسياسات الاجتماعيّة، والتاريخ الاجتماعيّ لمدينة غزة، والعلوم الاجتماعيّة وتأريخها.