كان عالم النفس النمساويّ سيجموند فرويد (1856 - 1939) أوّل مَنْ صاغ مفهوم اللاشعور، وتحدّث عن تجلّياته في العلاقة العلاجيّة بين المُعالِج والمُنتفع في حالتين؛ أُطْلِق على الأولى مصطلح ’التحويل‘، وهي عمليّة نفسيّة لاشعوريّة يوجّه فيها المُنتفع المشاعر أو الرغبات المتعلّقة بشخصيّة مهمّة في حياته – مثل أحد الوالدين – نحو المعالج النفسيّ. أمّا الحالة الثانية فهي التحويل المضادّ، وهي الحالة اللاشعوريّة الّتي يرى فيها المعالج في المتعالج صورة الأب أو الأمّ أو الحبيب؛ ممّا قد يُنْتِج صراعات داخليّة لاشعوريّة، تتطلّب من المعالج أن يطوّر مستوًى معيّنًا من الموضوعيّة، وعدم التصرّف بطريقة لاعقلانيّة أو ذاتيّة أمام غضب المتعالج أو حبّه. لكن يبقى السؤال: هل العلاقة بأحد الوالدين هي المجال الوحيد الّذي يحدث فيه التحويل والتحويل المُضادّ؟ وماذا تعني الحياديّة والموضوعيّة في ظلّ وجود ديناميكيّات القوّة؟
الطبقة في غرفة العلاج
في كتاب «ضدّ أوديب والرأسماليّة» (1972)، ينتقد كُلٌّ من دولوز وغاتاري التحليل النفسيّ الفرويديّ؛ إذ يعتقدان أنّه حصر مفهوم اللاشعور في إطار ضيّق لا تتعدّى حدوده العلاقة بالوالدين أو أحدهما، في حين أنّه بناء لا يتوقّف عن التشكّل والاشتباك مع الحيّز العامّ، والتأثّر من جميع السياقات الحياتيّة؛ إذ يقول دولوز في إحدى مقابلاته: "المرء يهذي عن العالم وليس عن عائلته الصغيرة، يهذي عن التاريخ والجغرافيا، عن القبائل، والصحراوات والشعوب". ويضيف بشيء من البلاغة: "إنّ اللاشعور ليس مسرحًا يلعب فيه هاملت وأوديب دوريهما بلا نهاية، بل مصنع، إنّه إنتاج".
ينتقد كُلٌّ من دولوز وغاتاري التحليل النفسيّ الفرويديّ؛ إذ يعتقدان أنّه حصر مفهوم اللاشعور في إطار ضيّق لا تتعدّى حدوده العلاقة بالوالدين، في حين أنّه بناء لا يتوقّف عن التشكّل...
يظهر هذا في المسلسل التركيّ «Ethos»، الصادر عام 2020، الّذي يعرض التنوّع الثقافيّ والاجتماعيّ والطبقيّ في تركيا، وانعكاساته داخل غرف العلاج النفسيّ؛ إذ يتناول عمليّة التحويل المضادّ بشكل مميّز فيه المعالِجة ’بيري‘ لم ترَ في المتعالجة ’مريم‘ صورة لأيّ من الأب، والأمّ، والحبيب؛ بل كانت مريم في عينَي بيري انعكاسًا لطبقة اجتماعيّة ثقافيّة كاملة، وهنا بدا التحويل المضادّ تعبيرًا عن صراع طبقيّ وثقافيّ، بين العلمانيّين والمتديّنين، بين أصحاب المال والنفوذ الّذين يعيشون في فيلّات تطلّ على البحر، وبين الآخرين الّذين يعيشون في العشوائيّات. كما يوحي إلينا المخرج بإشارات ذكيّة أنّ المعالجة بيري لم تَعُدْ تريد أن تقاوم مشاعرها المتناقضة تجاه مريم، ولم تَعُدْ قادرة على اتّباع القوانين الجامدة في الطبّ والعلاج النفسيّ، الّتي تُلزمها أن تكون دائمًا محايدة، عقلانيّة، موضوعيّة؛ إذ تسمح لهذا السيل من المشاعر أن يتسرّب، وتسمح لنفسها أن تتغيّر وتتأثّر؛ ممّا ينعكس إيجابًا عليها وعلى المتعالجة مريم، رغمًا عن العلاج النفسيّ بصيغته التقليديّة.
في غرفة العلاج الإسرائيليّة
يكتب يورام يوفيل، أحد أشهر الأطبّاء والمحلّلين النفسيّين الإسرائيليّين، عن حالة علاجيّة يُطْلَق عليها اسم ’عدوّ في الغرفة‘، يتحدّث فيها عن نجاحه في خلق علاقة وسيرورة علاجيّة ناجحة مع أمين خوري، وهو اسم مستعار لشابّ فلسطينيّ قدّم نفسه طالبًا عربيًّا يعاني من مشاكل ذات علاقة بالتمييز والظلم من قِبَل زملائه الإسرائيليّين، إلّا أنّ يوفيل أصرّ على أنّ مشكلة أمين لا علاقة لها بكونه الطالب العربيّ الوحيد في صفّ إسرائيليّ، بل لأنّه يعاني من مشكلة اجتماعيّة في غاية الجدّيّة.
يأتي كتاب «التحليل النفسيّ تحت الاحتلال» (...) ليعبّر عن نجاحات حصدها معالجون نفسيّون فلسطينيّون استطاعوا لمس الاستعمار الاستيطانيّ كعمليّة نفسيّة في البنى النفسيّة...
بدأ يوفيل بمحاولات النبش عن المشكلة الحقيقيّة والتوصّل إلى جذورها، وفي خضمّ ذلك، يقول إنّه وجد نفسه بغير إرادة أمام مواجهات عديدة مع أمين، الّذي لم ينفكّ عن محاولات استفزازه الّتي تتجلّى بأساليب عدّة مثل الوصول المبكّر للموعد، وعدم الحديث عن مواضيع وشؤون ذات طابع شخصيّ، وبدلًا من ذلك الحديث عن الفلسطينيّين والإسرائيليّين. كان أمين يتحدّث إلى يوفيل بصيغة الجمع؛ فيقول له "أنتم اليهود"؛ الأمر الّذي جعل يوفيل يتّخذ قرارًا بتحويل أمين إلى محلّل نفسيّ آخر؛ ليرى دموع أمين للمرّة الأولى منذ أن بدآ مسيرتهما العلاجيّة. بعد هذه المواجهة، يبدأ أمين بالكشف عن أسراره الشخصيّة، والاعتراف بحقيقة كونه ابنًا متبنًّى، وأنّه يعتقد أنّ أمّه الّتي تركته كانت يهوديّة؛ ممّا يجعل علاقته باليهود جدليّة.
يرى يوفيل هذا البوح بوصفه تقدّمًا ملحوظًا في السيرورة العلاجيّة، وفي العلاقة بينه وبين أمين؛ فقد نجح في أن يجعل أمينًا يتحدّث عن حياته الشخصيّة، والكشف عن مكنوناته، بعيدًا عن التفكير الجمعيّ السياسيّ؛ إذ يحاول العلاج النفسيّ الإسرائيليّ بناء علاقة بين المحلّل النفسيّ والمنتفع بمعزل عن واقع الاحتلال، فيرى أنّ كراهيّة أمين ليوفيل ليست كراهيّة بين عربيّ ويهوديّ، بل هي كراهيّة تخبّئ وراءها قضايا عالقة في بنية أمين النفسيّة.
حالة أمجد
في حين اعتبر يورام يوفيل تحييد العلاقة السياسيّة بينه وبين أمين نجاحًا يُحْتَذى به، واستطاع أن يجد جذورًا شخصيّة لمشكلته، يأتي كتاب «التحليل النفسيّ تحت الاحتلال» (2023) للارا وإسطيفان شيهي؛ ليعبّر عن نجاحات حصدها معالجون نفسيّون فلسطينيّون استطاعوا لمس الاستعمار الاستيطانيّ كعمليّة نفسيّة في البنى النفسيّة لمتعالجيهم، ويقدّمان مجموعة من النظريّات العلاجيّة الّتي يمكن فيها الانخراط بشكل نقديّ، و’قراءة‘ مجموعة الظروف السياسيّة المعقّدة الّتي تحدّد حياة الفلسطينيّين الّذين يعيشون في ظلّها. من هذه التجارب قصّة المعالِجة النفسيّة يعاد غنادري، الّتي شاركت تجربتها مع حالة تُدْعى ’أمجد‘، وهو اسم مستعار لشابّ في أوائل الثلاثينات من عمره، يعمل في شركة نسيج إسرائيليّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، يعيش مع أطفاله الثلاثة وزوجته في قرية ضُمَّت رسميًّا بالقرب من قلنديا؛ خوفًا من فقدان ’بطاقة الهويّة‘ الخاصّة به، الّتي سمحت له بالعيش والعمل في القدس.
زار أمجد العيادة، حيث كان يعاني من إحساس بوجود ورم أو كرة في حلقه كلّما شعر بالغضب. وقد خضع أمجد للعديد من الفحوصات الطبّيّة لتشخيص ما يشعر به، وقد تبيّن من كلّ الاستشارات الطبّيّة أنّ حلقه ’طبيعيّ‘. بعد مرور عام من التواصل مع الأطبّاء، اقترح أحدهم على أمجد أن يطلب المساعدة من عيادة نفسيّة، فبدأ بزيارة يعاد الّتي كانت - مثل جميع المعالجين الفلسطينيّين العاملين في المؤسّسات الإسرائيليّة - تعمل معها مشرفة إسرائيليّة كانت مصرّة على أنّ قلق أمجد لن يُحَلّ إلّا بالعلاج الدوائيّ، دون الاهتمام بالحقائق والشروط المادّيّة لعالمه بصفته فلسطينيًّا.
في جلسات لاحقة، عملت يعاد مع أمجد لكشف كلّ اللحظات الّتي شعر فيها بالاختناق وسردها، وتبيّن أنّ جميعها متعلّقة بحالته السياسيّة فلسطينيًّا، الّتي تضطرّه إلى مواجهة ’حاجز قلنديا‘ يوميًّا، وأمور أخرى لها علاقة بالهويّة والإقامة. أصبح أمجد يتحدّث عن غضبه أكثر تجاه الحاجز، مستنكرًا وصفه بـ ’المعبر‘ قائلًا: "لماذا يسمّونه معبرًا؟ هذه نقطة تفتيش، نقطة تفتيش!". بعد فترة وجيزة من بدئه بالكشف عن غضبه، ذكّرته يعاد بأنّهم لم يتحدّثوا عن الكرة في حلقه لبعض الوقت، واستفسرت عن مكانها، وما إذا كانت لا تزال موجودة، فقال لها: "أحيانًا أشعر بأنّ ثمّة كراهيّة في حلقي، وليس كرة"، فسألته عمّن يكره؛ ليجيب بأنّه يكره نفسه.
عملت يعاد مع أمجد لكشف كلّ اللحظات الّتي شعرها فيها بالاختناق وسردها، وتبيّن أنّ جميعها متعلّقة بحالته السياسيّة فلسطينيًّا، الّتي تضطرّه إلى مواجهة ’حاجز قلنديا‘ يوميًّا...
بعد دقيقة صمت، تذكّر أمجد حادثة حصلت معه قبل عامين، حين اصطحب ابنته البالغة من العمر سبع سنوات في طريقه إلى العمل صباحًا لمقابلة صديقتها في القدس، وقد كانت سعيدة جدًّا وهي ترتدي ثوبًا جديدًا جميلًا، وتغنّي طوال الرحلة في السيّارة: "نطّاط، نطّاط، كرة نطّاطة، نطّاط، نطّاط، فوق الحائط". عندما وصلا إلى «حاجز قلنديا»، فوجئ أمجد برؤية الغاز المسيل للدموع، ومواجهة بين جيش الاستعمار الإسرائيليّ ومتظاهرين يرشقون الجنود الحجارة، فخاف على ابنته وحاول الرجوع، لكنّ سيّارته كانت عالقة وسط مئات السيّارات المحاصرة؛ لأنّ الجنود أغلقوا الحاجز، ومنعوا السيّارات من التحرّك. يتذكّر أمجد أنّ ابنته بدأت تبكي خلال هذا الوقت، وأنّه كان يحتضنها محاولًا تهدئتها واحتواء خوفها. في هذه الأثناء، أخبرت والدها أنّها في حاجة إلى استخدام الحمّام، فنزل من سيّارته ولوّح للجنديّ قائلًا له: "ابنتي في حاجة إلى حمّام"، فركض الجنود نحوه ورفعوا أسلحتهم، فعاد إلى سيّارته، وعانق ابنته، وبصوت مرتجف قال لها: "اعمليها هون بابا". في تلك اللحظة، تذكّر كيف توقّف صراخ ابنته وانتشرت رائحة البول في السيّارة. وبينما كان ينظر إلى بوّابة الحاجز، تذكّر الأغنية المبهجة لابنته في بداية اليوم "نطّاط، نطّاط فوق الحائط". وبعد ذلك شعر فورًا بأنّ كرة عالقة في حلقه، تقول يعاد كيف كان أمجد يذرف الدموع عندما أنهى وصف الحادث.
العلاج كمقاومة
إنّ هذه المقاربة بين ما يعتبره المحلّل النفسيّ الإسرائيليّ نجاحًا، وبين النجاح الفعليّ الّذي يحقّقه المحلّل النفسيّ الفلسطينيّ في رصد آثار الاستعمار في البنى النفسيّة، هي في حدّ ذاتها مدعاة إلى التأمّل في بروز العلاقة الاستعماريّة في العلاج النفسيّ، والحقل الأكاديميّ والبحثيّ. هي فرصة للتفكير مرّة أخرى في علم النفس الفرديّ التقليديّ، من حيث علاقته الّتي تأخذ شكل التواطؤ مع العلاج والتحليل النفسيّ الإسرائيليّ؛ فكلاهما يحاولان تحييد السياق السياسيّ عن السيرورة العلاجيّة، والعلاقة بين المعالِج والمتعالج.
تبيّن حالة أمجد كيف تتسلّل الحالة السياسيّة الاستعماريّة في فلسطين إلى غرفة العلاج النفسيّ، وكيف يجدر بالمعالِج النفسيّ أن يتواصل مع ثقافة المتعالج، ويحاول فهم خصوصيّته ضمن السياق الموجود، وليس معرفة أنماط السلوك العالميّة الّتي يتقاسمها الجنس البشريّ بأكمله. ذلك يتطلّب من المعالِج أن يتّسم بالصبر والتواضع والانفتاح لتعلّم خبرات ومناظير جديدة، تقوده إلى دراسة الدوافع، والتشكيك في النظريّات السائدة، وتفكيك الظروف الّتي تسيء إلى الناس وتجعلهم أشياء، أو أتباعًا للآخرين، ويؤكّد أنّهم فاعلون يقرّرون مصيرهم بأنفسهم، ويستكشف معهم أفضل السبل لوضع حدود للاستبداد. في حالة أمجد، يمكن النظر إلى تحدّي المعالِجة يعاد مشرفتها الإسرائيليّة، وقرار استمرار عمليّة التحليل النفسيّ، والبحث عن حقيقة ما يخفيه أمجد، بوصفه شكلًا من أشكال النضال والمقاومة.
مراجع:
[1] Deleuze, G., & Guattari, F. Capitalism and schizophrenia (Vol. New York City: Viking Press, 1977).
[2] Martín-Baró, I. Writings for a liberation psychology. (Harvard University Press, 1994)
[3] Sheehi, L., & Sheehi, S. Psychoanalysis under occupation: Practicing resistance in Palestine. (Routledge, 2021).
[4] Yovell, Y. (2003). Enemy in the consulting room: The impact of terrorism and armed struggle on the course of therapy of Palestinian Arabs with an Israeli Jewish analyst. Psychoanalysis and Psychotherapy, 20(2), 157-174.
.
باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.