الروائي والتجربة: تمثّل الزمان والمكان [2/ 2]

لوحة تيلي ماكديرموت

غالبًا ما اعترض روائيّون يكتبون الرواية التاريخيّة على ما أذهب إليه، وهم لا يوافقونني الرأي، ويستشهدون بأعمال أدبيّة تاريخيّة كتبها أصحابها عن عوالم متخيّلة؛ مثل 'رسالة الغفران' و'الكوميديا الإلهيّة' وروايات تاريخيّة عديدة حقّقت نجاحًا كبيرًا. وكان من المعترضين الروائيّ إبراهيم نصر الله، فقد كتب مقالًا عنوانه 'خفّة الناقد التي لا تُحتمل'، أتى فيه على اعتراض نقّاد مثلي لهم الموقف نفسه من الكتابة عن عوالم متخيّلة زمانيًّا ومكانيًّا.

عن أمكنتهم وأزمنتهم يكتبون

وما كنت لأذهب إلى ما أذهب إليه لولا قراءتي عددًا من الروايات التي تجري أحداثها في بيئة غير بيئة الكاتب، وزمان لم يكن شاهدًا عليه، وملاحظتي ورود أخطاء فيها تشير إلى أنّ الكاتب يكتب عن زمنه هو، لا عن الزمن الروائيّ المسترجع والمتخيّل أوّلًا. كما يبدو الكاتب في مثل هذه الروايات غير محيط إحاطة تامّة بالمكان الذي يكتب عنه، ما يوقعه في أخطاء عديدة في الكتابة عن المكان. هنا أتذكّر ما كتبه محمد يوسف نجم عن قصّة 'نداء المجهول' لتيمور، والذي أشرنا إليه في القسم الأوّل من المقالة.

سأورد عناوين روايات كتبها أصحابها عن أمكنة لم يزوروها أو زاروها زيارة عابرة، فبدت كأنّها لا صلة لها بالمكان، ولا صلة لها، تقريبًا، بالزمان الروائيّ. وسأتوقّف أمام قسم منها، مشيرًا إلى بعض الأخطاء التي وردت فيها: 'شبابيك زينب' لرشاد أبو شاور؛ 'مدينة الله' لحسن حميد؛ 'راكب الريح' ليحيى يخلف؛ 'زمن الخيول البيضاء' و'قناديل ملك الجليل' و'أعراس آمنة' لإبراهيم نصرالله؛ 'الشياح' لإسماعيل فهد إسماعيل؛ القسم الأوّل من 'برج اللقلق' لديمة السمّان، وغيرها كثير.

في كتابه، 'إضاءات على الأدب الإسرائيليّ الحديث' (2012)، يتوقّف صلاح حزين أمام القدس في الشعر العبريّ في المنفى، ويرى أنّ صورة القدس فيه كانت مستقاة من كتاب العهد القديم. ولم يلتفت الأدباء، لعدم رؤيتهم القدس، إلى التغيّرات التي ألمّت بالمدينة على أرض الواقع؛ ولذلك، حين زار هرتسل فلسطين وكتب عنها في روايته، 'أرض قديمة - جديدة' (1902)، فوجئ بأنّ البلاد، ومنها القدس، غير ما كانت صورتها في ذهنه، وكانت الصورة لديه، قبل الزيارة، تشكّلت من الكتب لا من الإقامة في المكان.

يافا هي الغائب الأساس

في رواية أنور حامد، 'يافا تعدّ قهوة الصباح' (2012)، يكتب الروائيّ عن يافا التي زارها مدّة أسبوعين، وحين يقرأ المرء الرواية يشعر بأنّ يافا هي الغائب الأساس عن النصّ الروائيّ. لقد حضرت عنبتا (شرق مدينة طولكرم، فلسطين) ولم تحضر يافا إلّا من خلال العنوان وصورة الغلاف. هنا يتذكّر المرء إميل حبيبي وما قاله عن كنفاني وعن رواياته: إذا ما أراد المرء أخذ صورة عن المدن الفلسطينيّة؛ حيفا وعكّا وحتّى يافا، فعليه أن يعود إلى نصوص إميل، فهو من يعرف المكان معرفة جيّدة.

حقًّا، ليس هناك بحر في عنبتا، وبالتالي، فإنّ صورة الغلاف ليست صورة عنبتا، وإنّما هي صورة يافا، لكن ما كتبه الروائيّ عن بنية المجتمع وشكل العلاقات الاجتماعيّة والأسريّة السائدة، يبدو لعنبتا لا ليافا.

من ذهن الروائيّ والكتب

حسن حميد، كاتب فلسطينيّ يقيم في دمشق، قرأت له ثلاث روايات؛ 'جسر لبنات يعقوب'، و'نهر بقمصان الشتاء'، و'مدينة الله'، والثالثة أحدثها، وقد صدرت عام 2009. والروايات الثلاث تجري أحداثها في بيئة غير بيئة الكاتب المكانيّة، وفي زمن لم يكن الكاتب، غالبًا، شاهدًا عليه.

تجري أحداث 'مدينة الله' في مدينة القدس التي قرأ عنها حسن حميد دون أن يقيم فيها، بل ودون أن يزورها. حين يفرغ القارئ الذي يعرف القدس من قراءة الرواية، يتساءل إن كان قرأ، حقًّا، رواية عن القدس. أين هم متسوّلو المدينة؟ وأين هم سكّيروها؟ وحين يقارن القارئ ما قرأ بقصص خليل السواحري وتوفيق فيّاض وكتابات محمود شقير، يفاجأ، حقًّا، بما كتب حميد، تمامًا كما يفاجأ بصورة الآخر في الرواية.

أبرز حميد لليهوديّ في روايته صورة المجنّدة الشيطانة الساديّة. ليس المطلوب من حميد، طبعًا، أن يبرز لليهود صورة واحدة إيجابيّة، فهم عدوّ، لكنّ الصورة كما بدت في الرواية غير مقنعة، بل إنّ صورة الفلسطينيّ في الرواية بدت، أيضًا، طيّبة وايجابيّة فوق المعتاد. كانت القدس في رواية 'مدينة الله' خارجة من الكتب ومن ذهن الروائيّ، لا من الواقع.

أين يقع المسجد الحرام؟!

تختلف رواية ليلى الأطرش، 'ترانيم الغواية' (2014)، عن رواية حميد، وتبدو أكثر إقناعًا. عاشت ليلى الأطرش في بلدة بيت ساحور القريبة من القدس، وتردّدت قبل عام 1967 عليها، وبعد هزيمة حزيران زارت القدس زيارات عابرة، بلغت، أحيانًا، مدّة شهرين، بقصد أن تكتب عنها، تمامًا كما فعل الطاهر وطّار حين كتب عن مدينة قسنطينة. وقد أنجزت الكاتبة الرواية عن أزمنة ثلاثة شهدتها المدينة ولم تشهدها الكاتبة.

اختارت ليلى لروايتها شخصيّة امرأة عجوز عاصرت الأزمنة الثلاثة، وكانت تعاني من الألزهايمر، ومعروف أنّ من يعاني من هذا المرض يظلّ يتذكّر الطفولة. وهكذا تتذكّر العجوز الحكمين العثمانيّ والإنجليزيّ، وتكون الراوية شاهدًا على زمن الاحتلال. وتبدو صورة القدس هنا أكثر إقناعًا، ومع ذلك، ثمّة هنّات في الرواية سببها عدم الإقامة في المكان بما يكفي لتشرب تفاصيله، وثمّة هنّات في التواريخ، حيث تسقط الكاتبة أفكارها وزمنًا آخر على زمن سابق.

في رواية 'ترانيم الغواية' يكتب الخوري ورقة في آذار 1931، 'من أوراق الخوري متري حدّاد، آذار 1931'، ويأتي فيها على الحرب العالميّة الثانية. كيف حصل هذا؟ لنقرأ: 'لهذا تصارع العالم في حربين كونيّتين ولم يكتمل النصف الأوّل من القرن العشرين...' (ص 244).

وفي مكان سابق، في فصل عنوانه 'باب الهوى'، يرد التالي: 'بعت داري الواقعة في حارة... وملاحقها، من خلف بطريركيّة الأرمن إلى باب الحبس، عند بداية الزقاق المؤدّي إلى المسجد الحرام، مع حوش وحاكورة بشجرتي مشمش وسفرجل، إلى المرأة الخنزيرة الهالكة سيفورا بنت...' (ص 220). والطريف أنّ الروائيّة توحي لنا بأنّ ما ورد آنفًا وثائق كتبها الشخوص، وأنّها حصلت عليها. فهل كان أبناء القدس لا يعرفون مدينتهم؟ وهل كان كاتب الورقة الذي كتب عن بيع بيته في حالة سكر وذهول فنسي أنّ المسجد الحرام يقع في مكّة لا في القدس؟!

حاجز حوّارة

هل اختلف ربعي المدهون في روايتيه، 'السيّدة من تل أبيب' (2009) و'مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة' (2015) عن حسن حميد وليلى الأطرش؟ تناول الناقد وليد أبو بكر رواية 'مصائر'، وبيّن أنّ كاتبها وقع في أخطاء عديدة في الكتابة عن المكان، ما يعني أنّ المدهون كتب عن القدس دون أن يتمثّلها تمثّلًا تامًّا. زار الكاتب المدهون القدس زيارتين عابرتين وكتب عنها، فوقع في أخطاء لم يسعفه مستشاروه في تداركها. في روايته 'السيّدة من تل أبيب'، يغدو حاجز حوّارة الذي يقع على مدخل مدينة نابلس، واقعًا على مدخل مدينة قلقيلية تارة، ويفصل بين رام الله والخليل، لا بين نابلس ورام الله، طورًا.

تقيم الفلسطينيّة القادمة من لندن في رام الله أربعة أيّام، وتقرّر السفر إلى الخليل لزيارتها وزيارة معارف فيها، وتقف على حاجز حوّارة، أو تخاف من الوقوف أمامه. وهكذا يقع الكاتب في أخطاء تخصّ المكان، ما كان ليقع فيها لو أنّه عاش فيه فترة طويلة، وهذا يعيدنا ثانية إلى رأي إميل حبيبي في رواية كنفاني، 'عائد إلى حيفا'.

قوّات إسرائيليّة أم عصابات صهيونيّة؟

وماذا عن ابراهيم نصر الله؟ في رواية 'زمن الخيول البيضاء' يرتدّ الزمن الروائيّ إلى ما قبل عام 1948، أي قبل أن يولد الكاتب بـ 6 سنوات. ويعالج الروائيّ أحداثًا جرت في أماكن سمع عنها، وقد يكون زارها زيارة عابرة سريعة، أو زار جزءًا منها. (وُلِدَ الكاتب في مخيّم الوحدات عام 1954).

سأدلّل على عدم تمثّل الكاتب البيئة التي كتب عنها من خلال مثالين فقط، يبرزان تأثير الزمن الكتابيّ في الزمن الروائيّ. يرد في الرواية في صفحات عديدة، تداول أهل فلسطين قبل عام 1948 عملة الدينار، تمامًا كما يرد في صفحات أخرى تداول عملة الجنيه. والجنيه هو العملة التي عرفها أهل فلسطين في حينه، ولم يتداولوا الدينار الذي تُدووِل وعُرِفَ عام 1951. والطريف أنّ الكتابة عن العملتين ترد، أحيانًا، في صفحتين متقابلتين.

من ناحية ثانية، فإنّ الصفحات الأخيرة من الرواية ترد فيها دوالّ: إسرائيل، والقوّات الإسرائيليّة، والجيش الإسرائيليّ؛ وهي دوالّ ما كانت تُستخدم في ذلك الوقت، إذ الدوالّ التي استُخدمت في حينه هي العصابات الصهيونيّة، واليهود، والعدوّ.

أطرف ما قرأته في رواية 'قناديل ملك الجليل'، أنّ ظاهر العمر احتفل لمناسبة مرور عام على زواجه، فهل كان أهل فلسطين والمنطقة، في ذلك الزمان، يحتفلون بهذه المناسبة؟

هل ما كتبته يقلّل من شأن الروايات المشار إليها؟ يُخيّل إليّ أنّ عيني هي عين السخط لا عين الرضا. ومع ذلك إنّ الكتابة تستحقّ أن تُقرأ.

 

اقرأ/ ي أيضًا - الروائي والتجربة: تمثّل الزمان والمكان [1/ 2]

 
د. عادل الأسطة

 

أستاذ جامعيّ من يافا ويقيم في نابلس. حصل على البكالوريوس والماجستير من الجامعة الأردنيّة، وعلى الدكتوراه من جامعة BAMBERG في ألمانيا عام 19911. يكتب زاوية أسبوعيّة في الأيّام  الفلسطينيّة، وحرّر في جريدة الشعب صفحات الثقافة. أصدر العديد من الكتب، أهمّها 'جداريّة محمود درويش وصلتها بأشعاره'، و'الصوت والصدى: مظفّر النوّاب وحضوره في الأرض المحتلّة'. يكتب القصّة القصيرة والرواية ويهتمّ بدراستهما، ويواصل متابعة الكتابة عن اليهود في الأدبيّات العربيّة، وقد أصدر كتابين في هذا الموضوع وعدّة دراسات. صدرت بعض كتبه في عمّان ودمشق والقاهرة، وشارك في عشرات المؤتمرات والندوات.