"كون لا زمن": أن يسكن الشعر في عمارات جميلة

Manny Martins

 

إذا كان الشعر هو الكلام المُصفّى، فإنّ الفلسفة صفو الكلام، ويُخيَّل إليّ أنّ مؤلّف كتاب "كون لا زمن"، وسام جبران، اختار صفو الكلام في وضع قصيده الشعريّ، وهي نصوص شعريّة فلسفيّة، قوامها تلك التوتّرات الوجوديّة مثل الأنا/ الذات، وأنا/ الإله، وأنا/ الكون، وأنا/ مَن سبقني، وأنا/ الجماعة، وأنا الحاضر/ الموروث، وأنا/ هي. نقاط تماس وجوديّة، هي اللحظة، وهي المكان الّذي يحصل فيه فعل الغوص في متاهة السؤال، والسرّ الّذي في آخر المتاهة.

 

نحو الباطنيّ

منذ البداية يُعلن الشاعر نواياه، ويأخذنا إلى ما هو أبعد من المألوف الشعريّ؛ إلى المغمور وإلى الباطنيّ في الوجود، أو إلى المعاني الأبعد لتجربتنا الوجوديّة؛ فيُؤنسن الله كي يستجوبه، ويبدأ معه رحلته الّتي يكرّسها إلى مساءلة الخالق، طارحًا أمامه مُعضلة في إثر مُعضلة.

أمّا في النصّ الثاني "كون لا زمن" - ومنه عنوان الكتاب – (ص 33)، فيصير الشاعر هو المتحدّث، مركز الكون والزمن، ومحورًا تدور حوله الأفلاك والمعاني كلّها. يفعل ذلك من خلال أصوات عديدة تتحاور في مساحة النصّ، باعتباره "ساحة المدينة"، وباعتبار اللغة حيّز الوجود المستقلّ عن عالمنا، وباعتبارها هذه التفاصيل اللانهائيّة في الوجود، الّذي يخلقه الشاعر بديلًا لوجودنا أو لذلك الوجود الحسّيّ المرئيّ.

 

توتّر الفلسفيّ والشعريّ

إنّه الفعل الشعريّ المؤسّس للفلسفيّ، المغاير النازع إلى الحفر والحفر، بعيدًا عن السطح. والحفر العميق يبتعد عن اللغة الشعريّة أحيانًا؛ قصد بلوغ الأرب، وهو خيار يعتمده الشاعر بوعي، وكما هو ظاهر من مثابرته على هذا الخيار؛ كأنّه يقول لنفسه ومن ثَمّ لنا: "المهمّ بلوغ المعنى"! وهنا يبدأ التوتّر بين الفلسفيّ والشعريّ؛ بين هذا "العميق" في المعنى وبين قُدرة الشاعر على بلوغه، دون أن يبدو النصّ ثقيلًا أو مستعصيًا.

 

 

يسير الشاعر على خيط رفيع، بين لغة شعريّة والحاجة الظاهرة لديه إلى بلوغ معنًى لم يبلغه أحد من قبل. يفعل ذلك من خلال تضمين نصّه بإشارات من اللاهوت المقدّس في كتب الديانات، يستحضرها لا ليُغلق باب التأويل كما يفعل المستشهدون بقصص الأنبياء، وما تركوه من إرث مدوّن؛ بل ليفتحه على مصراعيه، ليستأنف إيقاع المعلوم المُفترض ويكسره، ينقد ويدحض أو يستأنف بلُغة يصكّها هو، مقابل لغة يصكّها الإله؛ هذا مقابل هذا.

والشاعر مسترسل يقترح علينا نصّه هو، في مواجهة تبدأ ولا تنتهي. صوته حاضر وأصوات أخرى تقوّض الأساطير بخلق أخرى، والفرضيّات ببدائلها، مبارزة معلنة بين الذكاء الشعريّ وذكاء النصّ الدينيّ ونفاذه؛ إنّها محاولة الشاعر في أن يغسل عقله وعقولنا - أيضًا - من سطوة النصّ الموروث، ومن سنّة الاتّباع والنقل. لهذا؛ نراه يغنّي "مزاميره" هو على طريقته؛ معترضًا مزامير نعرفها من مواقع أخرى، ويستحضر آلهة ليُسائلها، ويجرّب سحب البساط من تحت أقدامها.

 

خلق من جديد

والشاعر إذ يجتهد، يُضطرّ إلى نحت لغته ومفرداته، كأنّه يقول: "أنا بحاجة إلى لغة أخرى ومفردات جديدة؛ كي أبني عالمي البديل، وأطرح أفكاري غير العاديّة مقابل العاديّ، في الأسطورة الموروثة والمدوّنة الدينيّة اللاهوتيّة"، وكأنّه محارب إغريقيّ يحمل عدّته ويعود إلى البدايات؛ ليسير المسار كلّه من جديد، حاملًا بُشراه هو لا بُشرى اللاهوت المتعدّد الطبقات والآلهة. وبُشراه جملة من الأسئلة المفتوحة، ومحاولات التعريف المُضنية للمعاني والأشياء، وهو ما يبدو جليًّا في نهاية الكتاب (151-154)؛ كأنّه أراد أن يختتم جُملة أفكاره الّتي في النصوص بـ "كشّاف مصطلحات"؛ لنستدلّ به على مقاصده حين يحكي عن الإله، والوطن والمنفى والأرض، واللغة، والكون، والليل، وما إلى ذلك من معانٍ كرّت وفرّت في النصوص، كأنّه يحاول أن يقبض عليها في حدود جديدة، غير الّتي عرفناه لها؛ فالإله مثلًا "سلّة ثقيلة للأسئلة العالقة"، والضوء مثلًا "حرف أفلتَ من قبضة اللغة"، واللغة "غريب يحنّ إلى منفاه". سلسلة من تعريفات مغايرة لألفاظ ومعانيها، تكشف رغبة الشاعر في أداء مهمّة الخلق من جديد، بدءًا من الألفاظ، في البدء كانت الكلمة الّتي رأى أن يصقلها من جديد؛ لتتناسب ورسالته الشعريّة الفلسفيّة.

إنّ الشاعر بوصفه خالقًا للأشياء من جديد، أو بوصفه متأمّلًا فيها، لا يأخذها مفروغة منها أو خالصة ونهائيّة؛ ومن هنا فإنّ استئنافه على المعنى القريب يأخذ منحًى صوفيًّا، يتجسّد في السؤال المفتوح، القادر على توليد الأسئلة كلّما بدت الأمور واضحة؛ كأنّه يريد أن يقول لنا، إنّه مهما كان المعنى واضحًا والصورة واضحة، فثمّة إمكانيّة أخرى لم نرَها، أو ثمّة جهة لم نذهب فيها.

 

كتابة موسيقيّة

لا يُمكن هذا أن يحصل، لولا تلك المعرفة الّتي يحملها الشاعر معه إلينا؛ معرفة في اللغة، وفي التاريخ، وفي الكون، وفي التفاصيل أيًّا كانت، وفي الفلسفة أمّ المعارف كلّها، وفي الموسيقى أيضًا؛ فوسام جبران، وهو يكتب، يؤلّف الموسيقى؛ فالتأليف الموسيقيّ بيّن في نصوصه، وهو ما ترك أثرًا في بُنية النصّ، فهي عنده مرصّعة - إذا صحّ التعبير - مبنيّة على التقطيع، قائمة على الحوار المتعدّد الشركاء؛ حوار يحصل كما تحصل المقطوعة الموسيقيّة، بإيقاع يتشابه أو برِتم يختلف، وفق مقتضيات موسيقيّة باطنيّة، يسترها الكلام ويكشفها في آن.

والقصيدة عند وسام متفاوتة الشكل في معمارها، وأبعادها الأسلوبيّة، وجُملها، وكثافتها، وهي موشّاة - إذا صحّ التعبير - أو مرصّعة، أو هي متوتّرة مرّة ومنسابة مرّات، كما في "كون لا زمن 1،2،3،4" (ص 31 -67 )، أو كما في "رسائل إلى غريب" (خمس رسائل) (ص 79 - 91). وحاصل الأمر، فإنّ البناء المعماريّ لقصيدة وسام لافتٌ بوجه خاصّ، في ضوء ما اعتدناه من قصيدة تحمل رتمًا واحدًا، وجُملًا متساوقة، وإيقاعًا واحدًا.

المعمار القصيديّ هنا أكثر توتّرًا وتعدّدًا وتنويعًا، وهي ليست مسألة شكليّة بل مضمونيّة، تتّصل بمواضيع القصائد والثيمات، الّتي يأتي عليها الشاعر الّذي يبدو فنّانًا في اختيار الأشكال المعماريّة، يجتهد في إعداد التصاميم؛ قاصدًا أن يسكن الشعرُ في عمارات جميلة مدهشة، وأنا أذهب إلى أنّ "الفكرة العظيمة تحتاج إلى عمارة شعريّة عظيمة".

وسام جبران في اشتغاله بالكلمات يواصل "الكتابة الموسيقيّة"، الكامنة في إيقاع زفاف المفردات بالفكرة؛ فشعره غنائيّات تستر لحنًا، وتكشف عن مقدرة فذّة في الدمج بين الفنّين. شعره هنا يستبطن عزفًا وألحانًا تتّصل بوجود الإنسان، وأسئلته الأزليّة عن المعنى. والفلسفة هنا حمل يزيد من غبطة المتلقّي، لكنّها تتطلّب منه جهدًا.

 

بوح ومكاشفة

إنّ الفلسفة - باعتبارها فضاء النصّ وموضوعه - ليست سهلة التلقّي؛ لأنّ المواضيع تستوجب مفرداتها و"لغتها"؛ لنعترف أنّها ليست سهلة في كلّ مواضع الكتاب، ولا هي يسيرة طيّعة، وهو ما يأخذنا إلى فرضيّات تتّصل بماهيّات الشعر؛ فهل هو ذاك الحوار الحميم مع الذات؟ أو هو ذاك الحوار مع المتلقّي أو الآخر؟ أو هل هو قول من الشاعر لنفسه؟ أو آخره الّذي فيه؟ أو هو قول علنيّ يقوله لكلّ معنيّ، وللّذين تلتقي دروبهم دربَه؟ في كلّ الحالات والحوارات؛ على الشعر أن يظلّ صلة حميمة مع الذات الشاعرة، ومع الذوات الأخرى كلّها، ولا شعر بغير بوح بالقدر الّذي تظهر فيه حقيقة الشاعر أو قضيّته، حتّى عندما يكون الأمر بشأن "كون لا زمن"، أو بشأن الإله السلطة، أو الموروث الجاثم فوق الصدر وفي العقل والنفس.

أمّا كشف هذه المواضع شعرًا، فبحاجة إلى مدًى كافٍ من البوح والمكاشفة؛ فالشعر لا يكون بكلام على الشفاه، بل بكلام من أبعد نقطة في الوعي، ومن خلال طرح أكثر الأسئلة حدّة وقطعًا حول الأساطير المؤسّسة للوجود.

 

رحلة صعبة... ذات مسرّة

الأهمّ من هذا وذاك في الشعر، أن يكون للشاعر مشروعه، ولا يقلّ أهمّيّة أن يكون للشاعر أبعاده الأخرى، وحضوره المتعدّد الأدوار في مساحات الثقافة، ليكتمل الشعر؛ فما قيمة شاعر يقضي عمره على باب قصيدة في مديح السلاطين، ولا يرى القهر في عيون الحرس أو الوافدين إلى القصر؟ أو بكلمات أخرى؛ سيكون الشاعر محدود الحضور، لو قضى عُمره يرتّب الكلمات رُزمًا وحزمًا ومصفوفات، في توصيف عينين جميلتين أو شجرة خلف شبّاكه.

وسام هو الشاعر الّذي يحتاج إلى الشعر أيضًا؛ كي يكون أكثر، وكي يحضر أكثر، وكي يتكثّف حضوره في قوله ومعناه؛ فهو في الشعر يكمّل وسام المربّي الموسيقيّ، الّذي يروح ويأتي في علم النفس، وفي الفلسفة، وفي المعارف الأخرى. وسام يمشي في كلّ هذه المواضع؛ كي يأتي من هناك بقصيدته الّتي تأخذ هيئات متعدّدة المعمار، وإن احتوت الوجود وأسئلته الأولى والأخيرة (ص 94 - 95)، وفي "رقميّات" (ص 211)، أو "شذرات" (ص 121).

في الكثير من مواضع هذا الكتاب، يعود وسام إلى اللاهوت السماويّ، والموروث الإنسانيّ، والميثولوجيّات، ومكامن الثقافات، يحاور أبطالًا من هناك، ويُساجلهم ضمن عمليّة بحث دائمة، في المعارج والمواضع العصيّة. هو يذهب إلى هناك بوعي تامّ؛ ليلمّ مادّته الشعريّة، عارفًا أنّ دربه قد يكون شاقًّا في الذهاب والإياب.

"كون لا زمن"، إنّها رحلة صعبة، لكنّها رحلة كلّها مسرّة.

 

 

مرزوق الحلبي

 

 

شاعر وناقد من فلسطين، يكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة. يعمل وينشط في الجانب الحقوقيّ والمجتمع المدنيّ. له مجموعة شعريّة بعنوان "في مديح الوقت".