بأسماء مستعارة: عن النساء والكتابة

Henriette Browne

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"الكتابة تُمثّل لغة نصّيّة عبر استخدام رسومات رمزيّة ‘حروف‘، ويمكن بها توثيق النطق، ونقل ’الفكر‘ والأحداث إلى رموز يمكن قراءتها حسب نموذج مخصّص لكلّ لغة. وبدأ الإنسان الكتابة عن طريق الرسم، ثمّ تطوّرت هذه الرموز إلى أحرف، لكي تختصر وقت الكتابة"، عرّف "ويكيبيديا" الكتابة.

في القرن الثامن عشر، برزت كاتبات استعرن أسماء مزوّرة ونشرن نصوصهنّ، قسم منهنّ حتّى اليوم لم نتعرّف على شخصيّاتهنّ الحقيقيّة، وبقين في الظلمة، وقسم منهنّ برزت أسماؤهنّ بعد موتهنّ، ومنهنّ مَنْ كشفن هويّاتهنّ الحقيقيّة، لكنّهن بقين يكتبن بنفس الأسماء المستعارة.

       

في العالم العربيّ: الرائدات

عام 1892، صدرت أوّل صحيفة باللغة العربيّة تهتمّ بقضايا المرأة، أسّستها هند نوفل في الإسكندريّة باسم "الفتاة"، هذه الصحيفة منحت منبرًا للكاتبات العربيّات ليكتبن، ولا سيّما عن المرأة. بين عامَي 1823 و1939، ومع بدء الحرب العالميّة الثانية، صدرت 24 مجلّة للمرأة في المشرق العربيّ، ابتداء من مصر إلى لبنان وسوريا وبغداد. برز اسما سيّدتين في تلك الحقبة عملتا في مجال الصحافة، ونشرتا مقالاتهما الّتي لم تتخصّص فقط في المرأة، بل في موضوعات شتّى، وباسميهما الحقيقيّين، وهما وردة اليازجي في لبنان وعائشة التيموريّة في مصر.

 

الصحيفة الأولى بالعربيّة الّتي اهتمّت بقضايا المرأة، لصاحبتها هند نوفل

 

أمّا أوّل رواية باسم "فتاة مصريّة"، الّتي نشرتها المصريّة زينب فوّاز، فكانت باسم مستعار، لكن في الطبعة الثانية استخدمت اسمها الحقيقيّ. وعام 1918، شجّع اتّحاد المرأة النساء على أن ينشرن بأسمائهنّ الحقيقيّة، مؤكّدات بذلك أنّ الإسلام لا يمنع النساء من الكتابة واستخدام أسمائهنّ الحقيقيّة، لكنّ الكثيرات استمررن بالنشر بأسماء مستعارة.  

ألِيس بطرس كانت المرأة الأولى الّتي نشرت قصّة قصيرة عام 1891 باسم "صائبة"؛ ففتحت للنساء المجال ليكتبن القصّة القصيرة والرواية.

في منتصف الخمسينات، نشطت الحركة النسويّة في العالم العربيّ، ونشر الكثير من الكاتبات الروايات والقصّة القصيرة والشعر. وعلى الرغم من التطوّر الحضاريّ والعولمة والهبّة النسائيّة والثورة الصناعيّة، إلّا أنّ كاتبات العالم العربيّ استمررن بالكتابة بأسماء مستعارة في هذه الفترة.

في القرن الثامن عشر، برزت كاتبات استعرن أسماء مزوّرة ونشرن نصوصهنّ، قسم منهنّ حتّى اليوم لم نتعرّف على شخصيّاتهنّ الحقيقيّة، وبقين في الظلمة، وقسم منهنّ برزت أسماؤهنّ بعد موتهنّ، ومنهنّ مَنْ كشفن هويّاتهنّ الحقيقيّة

فقد كتبت مي زيادة بعدد من الأسماء المستعارة، نذكر منها "عائدة" و"إيزيس كوبيا"، وكانت أوّل امرأة تكتب في جريدة "الأهرام"، أمّا الثانية فكانت "بنت الشاطئ"، وهي الكاتبة المصريّة عائشة عبد الرحمن، الّتي لم تعتد أسرتها المحافظة انخراط النساء في الثقافة، واختارت هذا الاسم في إشارة إلى طفولتها في بلدة دمياط على شاطئ النيل.             

أمّا الحقوقيّة والأديبة مقبولة الشلق، فكانت أوّل امرأة سوريّة حازت على الإجازة في الحقوق، وكانت تنشر قصصها ومقالاتها باسم "فتاة قاسيون".

 

في أوروبّا أيضًا: الأخوات بروتني وأخريات

لو قارنّا بداية الكتابة للنساء العربيّات بالأوروبّيّات، لوجدنا أنّنا تأخّرنا عن الغرب بخمسين عامًا على الأقلّ؛ ففي الغرب بدأت النساء يكتبن بداية القرن الثامن عشر، لم يكن وضعهنّ يختلف عن النساء العربيّات، فنشرن بأسماء مستعارة.

البداية الشهيرة كانت في بريطانيا، في الحقبة الفكتوريّة تحديدًا، مع الأخوات برونتي، ثلاث أخوات مبدعات، كتبن روايات بقيت حتّى اللحظة من درر الأدب الإنجليزيّ، لكنّهنّ عشن في عزلة، وتوفّين في أعمار صغيرة نسبيًّا.

تربّت الأخوات في كنف والدهنّ باتريك برونتي، وقد كان راعيًا في الكنيسة الإنجليزيّة ومهووسًا بالكتابة والثقافة. نشأن بعد وفاة أمّهنّ المبكّرة مع خادم عجوز، في قرية بعيدة في شمال شرق إنجلترا، على الرغم من تربيتهنّ القاسية والدينيّة المتشدّدة، إلّا أنّ هذا لم يؤثّر في كتاباتهنّ المتحرّرة من أيّ ملمح دينيّ. عاشت الأخوات في عزلة تامّة عن المحيط؛ فلم يسمح لهنّ أبوهنّ المتشدّد بالخروج من المنزل، أو حتّى أكل اللحوم، فلجأن إلى الكتابة والقراءة.

 

الأخوات برونتي

 

شارلوت برونتي هي الأخت الكبرى الّتي توفّيت عن عمر يناهز 37 عامًا، بعد نشر روايتها "جين آير" (1847) الّتي نشرتها باسم مستعار: "كورير بيل". لم تكن النساء اعتدن في ذلك الوقت على الكتابة بأسمائهنّ الصريحة، ويمكن اعتبار هذه الرواية من أوائل الروايات المعاصرة؛ فهي تتحدّث عن حياة امرأة عاديّة بسيطة، لكنّها متمرّدة متحرّرة في التعبير عن مشاعرها، وفي عيش تلك المشاعر.

الأخت الثانية إميلي برونتي نشرت روايتها "مرتفعات وذرينغ" في العام ذاته، باسم مستعار أيضًا: "إيليس بيل"، وقد صدمت الرواية المشهد الثقافيّ في تلك الحقبة الفكتوريّة، وتحدّث النقّاد عنها طويلًا، حتّى أنّ أحدهم وصف كاتبها بأنّه "ذو مواهب غير عاديّة، لكنّه وغد ووحشيّ ومكتئب"؛ فهي تحكي عن العشق الجارف الّذي يصل إلى حدّ تدمير الحبيبين "كاثرين" و"هيثكليف"، وكذا تدمير المحيطين بهما. توفّيت إيميلي بعد سنة من ذلك، عن عمر 30 عامًا.

أمّا الشقيقة الصغرى آن برونتي، الّتي توفّيت عن عمر يناهز 29، فقد كتبت روايتين: "إغنيس غراي" (1947)، ورواية ثانية باسم "نزيل القاعة" (1848)، فيهما انتقدت وضع النساء داخل الأسرة المحافظة، وتُعَدّ من أولى الكاتبات النسويّات اللواتي تمرّدن على النظام الأبويّ، وكأختَيها فهي أيضًا كتبت مستعيرة اسم: "أكتون بيل".

استطاعت الأخوات برونتي هزّ المشهد الروائيّ الإنجليزيّ أواسط القرن الثامن عشر، بروايات شجاعة ومختلفة غيّرت تاريخ الرواية الأوروبّيّة، كما هززن ركود المجتمع الفكتوريّ المحافظ بسيرة حياة خارجة عن أسر المألوف آنذاك، وكأنّهنّ يؤكّدن أنّ الأدب الجيّد مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحرّيّة.

استطاعت الأخوات برونتي هزّ المشهد الروائيّ الإنجليزيّ أواسط القرن الثامن عشر، بروايات شجاعة ومختلفة غيّرت تاريخ الرواية الأوروبّيّة، كما هززن ركود المجتمع الفكتوريّ المحافظ

أمّا الروائيّة الإنجليزيّة ماري آن إيفانس - الّتي تُعَدّ من أشهر الكتّاب والأدباء في العصر الفكتوريّ -  فدخلت عالم الأدب باسم "جورج إليوت". اختارت إيفانس اسمًا ذكوريًّا لتُؤخذ أعمالها على محمل الجدّ، ولتبعد نفسها وأعمالها الأدبيّة عن الأحكام الّتي تُطلَق اعتمادًا على جنس المؤلِّف. وبعد أن نشرت روايتها "آدم بيد" (1859)، ونالت الرواية إعجاب النقّاد، وأُمطرت ومؤلّفها "جورج إليوت" بالمدح والثناء، كشفت إيفانس عن هويّتها الحقيقيّة، لكنّها استمرّت بعد ذلك بنشر أعمالها الأدبيّة تحت اسمها المستعار.

كتبت الروائيّة الفرنسيّة أمانتين أورو لوسيل دوبين أعمالها الروائيّة باسم "جورج ساند". أمانتين دوبين ابنة العائلة الفرنسيّة الأرستقراطيّة، كتبت إلى جانب الروايات عددًا من المقالات النقديّة والسياسيّة، وكانت ناشطة في مجال الحركات النسائيّة، وعلى الرغم من استمرارها في نشر أعمالها الأدبيّة باسمها المستعار، إلّا أنّ هويّتها النسائيّة كانت ظاهرة ومعروفة للقرّاء. أمانتين دوبين ابنة الثورة الفرنسيّة، كانت تمثّل لكتّاب عصرها الثورة والتجديد والاستبشار.

 

بعيدًا عن أوطانهنّ

عودةً إلى الكاتبات العربيّات، فإنّه يمكن ملاحظة أنّ اللواتي يعشن خارج العالم العربيّ استطعن التطرّق إلى موضوعات محرّمة، ولا سيّما الجنس منها والدين والسياسة، بينما ظلّت أغلب الكاتبات اللواتي يعشن في العالم العربيّ يرمزن إلى الموضوع، وهذا يعود إلى الفرق الكبير بين متّسع الحرّيّة الّذي تكتب به النساء القاطنات في العالم العربيّ وذلك الّذي لدى الأديبات العربيّات المغتربات.

أستطيع ذكر الكاتبة اللبنانيّة حنان الشيخ - المقيمة في لندن - وجرأتها في أن تتحدّث عن المثليّة الجنسيّة بين النساء، وسلوى النعيمي السوريّة المقيمة في فرنسا، الّتي أثارت روايتها "برهان العسل" (2007) جدلًا كبيرًا بسبب بطلتها أمينة المكتبة، الّتي تطبّق ما قرأته في الكتب عن التحرّر الجنسيّ، وتمارسه لتكتشف ملذّاته. وسلوى بكر المصريّة الّتي عاشت مع زوجها في قبرص، وأصدرت روايات عدّة أهمّها "العربة الذهبيّة لا تصعد إلى السماء" (1991)، وهي رواية تتحدّث عن سجن النساء، كتبتها نتيجة تجربتها في سجنها عام 1989، بعد إضراب عمّال الحديد والصلب. وميرال طحاوي المصريّة الأصل، المقيمة في أريزونا، في روايتها الأولى "الخباء" (1996)، كشفت النقاب عن حياة البدو، وبطلتها فاطمة طفلة بدويّة تريد التحرّر. وهدى بركات اللبنانيّة الأصل، المقيمة في باريس، هي مثال آخر؛ ففي روايتها الأولى "حجر الضحك" (1995)، كانت الأولى في كتابتها عن بطلها، وهو رجل مثليّ.

 

نوال السعداوي

 

رغم ذلك، تبقى نوال السعداوي المقيمة في العالم العربيّ من أجرأ الكاتبات العربيّات؛ فقد نشرت في مصر كتبها وأبحاثها وروايتها، وتطرّقت إلى موضوع الجنس والختان، وحرّيّة المرأة والحرّيّات الشخصيّة، والسياسة؛ وهذا ما أودى بها في السجون المصريّة.

لا شكّ في أنّ القمع الأبويّ والاجتماعيّ والسياسيّ يحدّ من حرّيّة إبداع المرأة، وحرّيّتها في اختيار أبطالها وقصصها، وجرأتها في طرح موضوعات محرّمة؛ فإذا تجرّأت تُتّهم بالفساد الأخلاقيّ، والتحريض على الرذيلة والكفر أو الجنون، أو إذا نجحت تُتّهم بأنّها لم تكتب روايتها. مثال على ذلك الكاتبة الجزائريّة أحلام مستغانمي وثلاثيّتها: "ذاكرة الجسد"(1993)، و"فوضى الحواسّ" (1997)، و"عابر سرير" (2003)؛ إذ اتُّهمت من البعض بأنّ نزار قبّاني - صديقها المقرَّب آنذاك - قد كتبها.

الكاتبة السويّة كوليت خوري، اتُّهمت أيضًا بأنّ نزار قبّاني كتب روايتها، وحتّى في كتابها "أيّام معه" (1960)، ادّعى الكثيرون أنّه قصّة حبّها مع قبّاني.

ثمّة العديد من الكاتبات اللواتي انطلقن من عالمنا العربيّ، لكنّهنّ سرعان ما تركن أوطانهنّ؛ هربًا وبحثًا عن حرّيّة الكلمة والقلم، كغادة السمّان وأُخريات.

 

حتّى يومنا هذا

حتّى يومنا هذا، ما زال العديد من النساء الخليجيّات وغيرهنّ يمتنعن عن النشر بأسمائهنّ الصريحة، بسبب ممانعة الأهل، والنظرة الاجتماعيّة السائدة الّتي بموجبها لا يُسمح للفتاة التصريح باسمها، بدافع الخوف من كلام الأقرباء، ولا سيّما الأزواج.

لا شكّ في أنّ القمع الأبويّ والاجتماعيّ والسياسيّ يحدّ من حرّيّة إبداع المرأة، وحرّيّتها في اختيار أبطالها وقصصها، وجرأتها في طرح موضوعات محرّمة

أمّا بالنسبة إلى الكتابة السينمائيّة (كتابة السيناريو)، فتبقى النسبة العالميّة لكاتبات النصوص السينمائيّة قليلة جدًّا، لا تتجاوز 9٪ من كتّاب السيناريو؛ ما يثير السؤال: لماذا في عصرنا هذا، وثمّة متّسع من الحرّيّة للنساء لتكتب؟

قد يكون الجواب بسيطًا؛ وهو أنّ الكاتب بحاجة إلى تفرّغ كلّيّ، وخاصّة التفرّغ العاطفيّ والتفرّغ النفسيّ، ومتّسع من الحرّيّة والهدوء ليكتب. الكثير من النساء، ولأنّهنّ أمّهات، لا يجدن تلك المساحة الداخليّة لكي يكتبن؛ فالكتابة كالعشق، محتاجة إلى كثير من التفرّغ والعطاء.

 

 

سها عرّاف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافية فلسطينية. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدولي للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.