وجهك المليء بالعوالم الصغيرة | الشاعرة الفرنسيّة جينيفر جروسولاس

جينيفر جروسولاس

 

وُلدت جينيفر جروسولاس (Jennifer Grousselas)  في باريس عام 1986، وهي كاتبة مسرحيّة، ورسّامة، وشاعرة، إلى جانب عملها أستاذة في الأدب الفرنسيّ. نشرت حديثًا مجموعتها الأولى «من الأنفاس والصحوِ» (De souffles et d'éveils) (2021، دار النشر Unicité)، وقد ظهرت قصائدها في العديد من المجلّات والمختارات الأدبيّة في فرنسا، وتُرْجِم بعضها إلى اللغة الإسبانيّة.

في حديثها عن علاقتها بالشعر العربيّ، تقول: "اكتشفت، بطريقة كلاسيكيّة إلى حدٍّ ما، الشعر العربيّ المترجم إلى الفرنسيّة، من خلال أدونيس ثمّ محمود درويش. أحببت الكون الواسع الرمزيّ والصوفيّ لدى أوّلهما، الّذي قارنته بشكلٍ ما بالشاعر الفرنسيّ سانت جون بيرس، وتذوّقت الغنائيّة والنفَس الشعريّ والصورة لدى درويش، قبل أن أفهم بشكل أفضل الجزء الواقعيّ من شعره المندمج في مجموعة متنوّعة من أساليبه. وجدتُ أيضًا سعة وغزارة في الصور لدى بعض الشعراء العرب المعاصرين، فقد تفاجأت بالصدفة من خلال قراءاتي لـ «أنطولوجيا الشعر الفلسطينيّ» )من إصدار المركز الثقافيّ الفلسطينيّ الفرنسيّ في باريس، ترجمة محمّد الديراوي، وإشراف كاتب هذه الكلمات(، بكثافة الشعر في بعض القصائد، ورهاصته وعلاقته بالواقع، لدى شعراء مثل محمّد الديراوي، وفادي جودة، وبشير شلش، وآخرين".

"أحبّ المجاز في الكتابة، وأنحاز إلى الصورة والنفَس الشعريّ الطويل. وأسعى إلى توظيف الإيقاع، والموسيقى، وتحريك الأصوات، فهي أيضًا جزء من أسلوبي في الكتابة...".

وحول سؤالي عن مختبرها الشعريّ، وهو السؤال الأثير الّذي أطرحه دائمًا على كلّ شاعر فرنسيّ، ما دام حيًّا، حين أترجمه، حتّى لو كان كلامه هذا تنظيرًا عامًّا، إلّا أنّه يساعد قارئ العربيّة على فهم عالم الشاعر عند قراءة قصائده المترجمة، فتقول الشاعرة الفرنسيّة حول ذلك: "أحبّ المجاز في الكتابة، وأنحاز إلى الصورة والنفَس الشعريّ الطويل. وأسعى إلى توظيف الإيقاع، والموسيقى، وتحريك الأصوات، فهي أيضًا جزء من أسلوبي في الكتابة. كنت أكتب أحيانًا بالصوت، وأعمل على تسجيله، وأحسّنه، حتّى تبدو القصيدة مثاليّة لأذنيّ. أحتاج إلى إعادة التواصل مع تقليد شعر الأجداد الشفويّ؛ إذ تحتفظ الكلمة بشيء من التعويذة السحريّة، حيث الكلمة هي الأغنية. أنا أحبّ الترميز أيضًا، والمعاني المزدوجة في الكلمة، حتّى عندما يمكن قراءتها بمعنيين متناقضين! وأسعى في شعري إلى إثارة حسّيّة في اللغة؛ من خلال معنًى يُظْهِر نفسه ويختبئ. من الضروريّ أيضًا أن تفاجئني الكلمات وأحيانًا تتجاوزني قليلًا، وألّا تُعْطى معنًى مرّة واحدة وإلى الأبد، فلا بدّ من حركة في المعنى، وتحفيز له، وقليل من الصلابة فيه قدر الإمكان، بحيث من المستحيل تحديده بشكل كامل وثابت".

ولإعطاء مثال حول بعض الكلمات ذات المعاني المتناقضة الّتي توظّفها في شعرها: في القصيدة الأولى، توظّف الشاعرة عبارة "Point de fuit" الّتي تعني’لا تهرب‘، وقد تعني أيضًا معنًى آخر مخالفًا أو مناقضًا، وهو ’نقطة التلاشي‘، أو ’نقطة الفرار‘ في لغة الهندسة، وهي النقطة تنتهي إليها جميع الخطوط المتوازية في الحسابات البصريّة.

تقنيّة تضادّ المعاني في بعض المفردات أو العبارات، هي نفي دائم لاستقرار المعنى في القصيدة، فلا بقاء لمعنًى واحد بشكل مطلق، بما يمكن تسميته ’Instabilité du sens‘ )عدم استقراريّة المعنى(، وهذا يثري القصيدة من جانب، ويجعل قراءتها وترجمتها صعبة من جانب آخر.

وحول الشعر المكتوب بالفرنسيّة حاليًّا، تقول: "أفضّل الشعراء الفرنكفونيّين بشكل عامّ، من أفريقيا، ومناطق الكريول، وهي جزر الأنتيل Les Antilles مثل هايتي، وجوادلوب، ومارتينيك، وغيرها؛ ففي قصائدهم تسري حيويّة وطاقة، وحسّيّة عالية، وصور صادمة وجريئة.

 

من الدوخة

D’un vertige

 

ضع الحمّى الرطبة

على جبينك

وابذل جهدًا

إنّ كلّ ولادة

معرّضة لتقلّبات الزمن

 

ضع وسائد طويلةً صلبةً

بين ذراعيك

فلا رخاء

قادر على الوصول تمامًا

إلى جذور شجرتك.

 

اجمع ألمك

وضعه في مكانٍ ما

فكّر أنّ كلّ إحساسٍ حيّ

لا يمكن حذفه

 

وجهكَ أمام السياج

المليء بالعوالم الصغيرة

ذات الثغرات المُقْفَلَة.

 

دون اجتيازه، دون تمزيقه

دون أن تدور إلى الخلف

من أجل أن تتقدّم

عليك أوّلًا أن ترجع إلى الوراء.

 

وجه بعيد عن سياج كلّ العوالم الصغيرة

ارمِ نظرةً أكثر اتّساعًا وأكثر عمقًا

 

وقرّر، حارس المدى

التحديق في نسيج عوالم أكبر

 

واختر الخيط الطويل

المرتعش المحبوك بشوكة الفجر الّذي ما زال يقطر

حليبًا للشرب.

 

بفضل الفراغ

تتشكّل النجوم الساخنة بين الأوراق الخضراء الفضّيّة

الّتي زارتها الشمس تحت شجرتنا

 

إنّه على قماش ناعم

 في الليل

يمكن أن تقفزَ لمضاعفة الأفق

في الفراغ الّذي كان عناقه حديثًا

يمكن أن تنتصر

 

هناك مهرب... أو ليس هناك.

فهمتَ نفسك للتوّ

فلتسقط مفاهيمك القديمة

 

في حالة دوخة

تستطيع الوقوف على قدميك

وتستطيع إضاعتهما

انظر إذن

إلى كلّ ما يمكن رؤيته

 

 

البنّاؤون

Les bâtisseurs

 

"فتحٌ وفتحٌ مضادّ،

وزمانٌ قديم، يسلّم هذا الزمان الجديد

مفاتيح أبوابنا"

محمود درويش

 

كان هناك سلسلةٌ من الأيّام

من الرقّة المُقْتَحِمة الّتي تقيّد أفكارنا

 

التكاسل الشره

الّذي يقبض على كلّ شيء

 

يضغط بإبهامه العريض

نقاطَ الألم لدينا حتّى نزيل الظلّ المبهم

لموجة كدماتٍ على أجسادنا عند الراحة

 

الكسل غير الضارّ، المقدّس، تقريبًا

تولّى مكانه وتوّج نفسه

بهدوء

 

لكن في الليل حلمنا

ثمّ كان هناك صباح،

حيث استيقظ أحدنا

 

واحدٌ منّا روى

حلمه

 

(في الليل كنّا نحلم أحلامًا حزينة في الغالب الأعمّ)

حدث هذا في صباح

لسيرة حلمٍ جميل

صباحٌ، دون حفلةٍ ما، ذات صباح

كأيّ صباحٍ، فلماذا حدث

صباحًا أنّنا لاحظنا

مياهًا قذرةً ومبنًى أعور

كثير الخدوش؟

 

نحن نعلم أنّنا لن نرى الوقت

حيث نَمَتْ غابات من الأيدي، بجميع أنواعها

لجعل الموسيقيّين يشفون الأقدام المصابة بعد الرقص

نكتب أغنيتنا، نقطف الكرمة، نعصرها، نحضّر وجبتنا...

وقتٌ كهذا نعرف أنّنا لن نراه

 

لكنّنا سنفعل

الحلم سيصنعنا في ما بعد

لاحقًا سيصنعنا الحلم

لأنّ لدينا أيادي مربّعة

وبنّائين

 

وسنرى أيدينا معًا

سقّالة على الحجر البارد سيكون لدينا

أيدٍ قويّة، أيدٍ مصابة

أيدٍ كأخواتنا السياميّة

 

فإنّنا نحتاج إلى أيدٍ كثيرة

لصنع كاتدرائيّة واحدة

بدون آلهة!

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.