«رأيت رام الله»... تقديم إدوارد سعيد لمريد

إدوارد سعيد

 

عام 1997، صدرت الطبعة الأولى من كتاب «رأيت رام الله»، للشاعر الفلسطينيّ مريد البرغوثي، بعد ثلاثين عامًا من المنفى والتغرّب عن مسقط رأسه دير غسّانة، بالقرب من رام الله.

كتب المفكّر والناقد الفلسطينيّ إدوارد سعيد مقدّمة للطبعة الإنجليزيّة من الكتاب عام 2000، بترجمة من أهداف سويف، وقد أصبحت هذه المقدّمة جزءًا من الكتاب في طبعاته المختلفة بعدّة لغات.

تُعيد فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة نشر مقدّمة سعيد للكتاب، بعد رحيل البرغوثي في الرابع عشر من شباط (فبراير) 2021.

 

 

  غلاف الكتاب

 

***

هذا النصّ المحكم، المشحون بغنائيّة مكثّفة، الّذي يروي قصّة العودة بعد سنوات النفي الطويلة إلى رام الله في الضفّة الغربيّة في أيلول 1996، هو واحد من أرفع أشكال كتابة التجربة الوجوديّة للشتات الفلسطينيّ الّتي نمتلكها، الآن. إنّه كتاب مريد البرغوثي الشاعر الفلسطينيّ المرموق، والمتزوّج كما يخبرنا في مواضع شتّى من الكتاب، من رضوى عاشور الروائيّة والأكاديميّة المصريّة الممتازة؛ إذ كانا طالبين يدرسان اللغة الإنجليزيّة وآدابها في جامعة القاهرة في الستّينيّات، وخلال زواجهما اضطرّا للافتراق طوال سبعة عشر عامًا، هو مستشار في مكتب منظّمة التحرير الفلسطينيّة في بودابست، وهي مع ابنهما تميم في القاهرة، حيث تعمل أستاذةً في قسم اللغة الإنجليزيّة في جامعة عين شمس. والأسباب السياسيّة لهذا الافتراق يشير إليها كتاب «رأيت رام الله»، كما يشير أيضًا إلى ظروف نفي الشاعر من الضفّة الغربيّة عام 1966 وظروف عودته إليها بعد ثلاثين سنة.

عند صدور «رأيت رام الله» العام 1997 واستقباله بحفاوة عظيمة وواسعة شملت العالم العربيّ كلّه، نال الكتاب جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبيّ الّتي تمنحها الجامعة الأميركيّة بالقاهرة.

وأجمل ما تشتمل عليه الجائزة حقًّا هذه الترجمة الأنيقة المثيرة للإعجاب إلى اللغة الإنجليزيّة الّتي قامت بها أهداف سويف، وهي ذاتها روائيّة وناقدة مصريّة مهمّة تكتب رواياتها بالإنجليزيّة (في عين الشمس وخارطة الحبّ)؛ لهذا فهو حدثٌ أدبيٌّ مهمّ أن تجتمع هاتان الموهبتان داخل غلاف واحد، وإنّه ليسعدني أن يُتاح لي أن أقول بعض الكلمات كمقدّمة لهذا العمل. أمّا وقد قمت بنفسي برحلة مشابهة إلى القدس (بعد غياب 45 سنة)، فإنّني أعرف تمامًا هذا المزيج من المشاعر حيث تختلط السعادة بالأسف، والحزن والدهشة والسخط والأحاسيس الأخرى الّتي تصاحب مثل هذه العودة.

إنّ رواية مريد البرغوثي كانت ممكنة بسبب ما يُطْلَق عليه بشكل مضلّل عمليّة السلام (هذه التسمية الخاطئة بشكل مخيف) بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة بقيادة ياسر عرفات ودولة إسرائيل.

إنّ عظمة وقوّة وطزاجة كتاب مريد البرغوثي تكمن في أنّه يُسَجّل بشكل دقيق موجع هذا المزيج العاطفيّ كاملًا، وفي قدرته على أن يمنح وضوحًا وصفاءً لدوّامة من الأحاسيس والأفكار الّتي تسيطر على المرء في مثل هذه الحالات. إنّ فلسطين، على كلّ حال، ليست مكانًا عاديًّا، إنّها متوغّلة بعمق في كلّ التواريخ المعروفة وفي تراث الديانات التوحيديّة، شهدت غزاةً وحضاراتٍ من كلّ صنف ولون تأتي وتزول، وتَعَرَّضَتْ في القرن العشرين لصراع ممضّ بين سكّانها الأصليّين العرب الّذين اقْتُلِعوا وتشتّت معظمهم في عام 1948، وحركةٍ سياسيّة وافدة لليهود الصهاينة (ذوي الأصول الأوروبّيّة في الغالب) الّذين أقاموا دولة يهوديّة في فلسطين، وفي عام 1967 احتلّوا الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وما زالوا عمليًّا يسيطرون عليها إلى يومنا هذا. إنّ كلّ فلسطينيّ يجد نفسه، اليوم، أمام موقف شديد الغرابة، فهو يدرك أنّ فلسطين كانت موجودة ذات يوم، لكنّه يراها وقد اتّخذت اسمًا جديدًا وشعبًا وهويّة جديدة تُنْكِر فلسطين جملةً وتفصيلًا. بالتالي فإنّ العودة إلى الوطن، في ظلّ هذا الوضع، أمر غير عاديّ، إن لم نقل إنّه مفعم بالأسى والوطأة.

إنّ رواية مريد البرغوثي كانت ممكنة بسبب ما يُطْلَق عليه بشكل مضلّل عمليّة السلام (هذه التسمية الخاطئة بشكل مخيف) بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة بقيادة ياسر عرفات ودولة إسرائيل. فهذه الترتيبات الّتي بدأت في أيلول عام 1993 ولا تزال مستمرّة دون حلّ حتّى لحظة كتابة هذه السطور (أوائل آب 2000)، والّتي تمّت بوساطة أميركيّة، لم تؤدّ إلى سيادة فلسطينيّة حقيقيّة على غزّة والضفّة الغربيّة، ولا إلى سلام ومصالحة بين اليهود والعرب، لكنّها سمحت بعودة بعض الفلسطينيّين من أهالي المناطق المحتلّة عام 1967 إلى منازلهم. وهذه هي الحقيقة السارّة الّتي انبثق منها مشهد الوقوف على الحدود الّذي يفتتح به مريد كتابه «رأيت رام الله».

وكما يكتشف البرغوثي بسرعة، تكمن المفارقة في أنّه بالرغم من وجود ضبّاط فلسطينيّين على جسر نهر الأردنّ الفاصل بين المملكة الهاشميّة وفلسطين، فإنّ الجنود والمجنّدات الإسرائيليّين ما زالوا هم الّذين يمسكون بزمام الأمور. وكما يلاحظ بقوّة: "الآخرون هم أسياد المكان". وإن كان هو من أهالي الضفّة وبوسعه أن يقوم بهذه الزيارة، فهو يروي ببلاغة كيف أنّ بقيّة الفلسطينيّين (حوالى 3,5 مليون نسمة) هم لاجئون من مناطق 1948، وبالتالي لا يمكنهم العودة في ظلّ الوضع الراهن.

إنّه لأمر حتميّ أن يكون في كتاب البرغوثي قدرٌ من السياسة، لكنّه لا يقدّمها لنا في أيّ لحظة من قبيل التجريد أو الدوافع الأيديولوجيّة. كلّ ما هو سياسيّ في الكتاب ناجم عن الأوضاع المعيشيّة الحقيقيّة في حياة الفلسطينيّين المحاطة بقيود تتعلّق بالإقامة والرحيل...

إنّه لأمر حتميّ أن يكون في كتاب البرغوثي قدرٌ من السياسة، لكنّه لا يقدّمها لنا في أيّ لحظة من قبيل التجريد أو الدوافع الأيديولوجيّة. كلّ ما هو سياسيّ في الكتاب ناجم عن الأوضاع المعيشيّة الحقيقيّة في حياة الفلسطينيّين المحاطة بقيود تتعلّق بالإقامة والرحيل؛ فبالنسبة لمعظم شعوب الأرض الّذين هم مواطنون لديهم جوازات سفر وبوسعهم السفر بحرّيّة دون تفكير في هويّتهم طوال الوقت، فإنّ مسألة السفر والإقامة تُعَدّ أمرًا مفروغًا منه، بينما هي أمر مشحون بتوتّر عظيم لدى الفلسطينيّين الّذين لا دولة لهم، والّذين، وإن امتلك كثيرٌ منهم جوازات سفر كملايين اللاجئين المنتشرين في كافّة أرجاء العالم العربيّ وأوروبّا وأستراليا والأميركيّتين الشماليّة والجنوبيّة، فإنّهم يحملون وِزْرَ كونهم مقتَلَعين وبالتالي غرباء.

إنّ هذا الواقع جعل نصّ البرغوثي حافلًا بالهموم، من نوع أين يمكنه أو لا يمكنه أن يقيم؟ وكم يمكنه البقاء؟ ومتى عليه أن يغادر؟ والأقسى من ذلك كلّه ماذا يمكن أن يحدث في غيابه؟ يموت شقيقه منيف موتًا قاسيًا وغير ضروريّ في فرنسا، لأنّ أحدًا لا يستطيع أو لا يرغب في تقديم المساعدة. وتحوم في أجواء الكتاب طوال الوقت شخصيّات ثقافيّة مرموقة كالروائيّ غسّان كنفاني، ورسّام الكاريكاتير ناجي العلي، اللّذَين ماتا اغتيالًا، ما يذّكرنا بأنّ الفلسطينيّ مهما كان موهوبًا أو مرموقًا، يظلّ عرضة للموت المفاجئ والاختفاء الّذي لا يمكن تفسيره. من هنا، هذه النغمة الموجعة الحزينة في هذا الكتاب، تفرّده وأصالته المفعمة بالصدق، والّتي لا تخطئها العين، هو نسيجه الشعريّ الّذي يؤكّد قوّة الحياة.

إنّ كتابة البرغوثي، وبشكل مدهش حقًّا، كتابة تخلو من المرارة، فهو لا يُلْقي خُطَبًا تحريضيّة رنّانة ضدّ الإسرائيليّين لما فعلوه، ولا يحطّ من شأن القيادة الفلسطينيّة جرّاء الترتيبات الفاضحة الّتي وافقت عليها وقبلتها على الأرض. إنّه على حقّ طبعًا عندما يلاحظ أكثر من مرّة أنّ المستوطنات تلطّخ وتشوّه المشهد الطبيعيّ الفلسطينيّ ذا الانسياب اللطيف والجبليّ في الغالب. لكن هذا هو كلّ ما يفعله بالإضافة إلى ملاحظته لحقائق تزعج صانعي السلام المفترَضين أن يتعاملوا معها.

إنّها ليست قليلة أبدًا هذه المفارقة، عندما ينقّب البرغوثي عن جذور اشتقاق اسم عائلته (رغم أنّي لا أمتلك معلومات ثابتة حول هذا الأمر فإنّني أعتقد أنّ عائلة البرغوثي هي أكبر عائلة في فلسطين على الإطلاق، ويصل عدد أفرادها إلى 25 ألف نسمة).

إنّ التميّز الأساسيّ لكتاب «رأيت رام الله» هو في كونه سجلًّا للخسارة في ذروة العودة ولمّ الشمل، ومقاومة البرغوثي المستمرّة لأسباب خساراته وتفنيدها، وهي الّتي تضفي على شِعْرِه معناه العميق ومادّيّته الملموسة...

إنّه لا يتهرّب من حقيقة أنّ اسمهم يبدو مشتقًا من «البرغوث»، وهذه التفصيلة الناجمة عن التواضع تمنح السرد بُعْدًا أكثر إنسانيّة وشجنًا وعذوبة.

إنّ التميّز الأساسيّ لكتاب «رأيت رام الله» هو في كونه سجلًّا للخسارة في ذروة العودة ولمّ الشمل، ومقاومة البرغوثي المستمرّة لأسباب خساراته وتفنيدها، وهي الّتي تضفي على شِعْرِه معناه العميق ومادّيّته الملموسة، وعلى روايته كثافتها وتماسكها.

"الاحتلال"، يقول البرغوثي، "خلق أجيالًا عليها أن تحبّ حبيبًا مجهولًا، نائيًا، عسيرًا، محاطًا بالحرّاس وبالأسوار وبالرؤوس النوويّة وبالرعب الأملس"! لهذا فهو في قصائده كما في نثره يسعى إلى تحطيم الحوائط، إلى تجنّب الحرّاس، من أجل الوصول إلى فلسطين الّتي تخصّه، والّتي يجدها في رام الله، رام الله الّتي كانت يومًا ضاحية خضراء هادئة لمدينة القدس وأصبحت في السنوات الأخيرة مركزًا للحياة المدنيّة الفلسطينيّة، تتمتّع باستقلاليّة نسبيّة ومقدار معقول من النشاط الثقافيّ وعدد من السكّان مطّرد النموّ. في هذه المدينة الّتي يعيد اكتشافها وتصويرها بحيويّة، يلتقي البرغوثي الشاعر المشرّد بذاته مجدّدًا، فقط ليرمي نفسه مرّة أخرى في أشكال جديدة من الغربة:

"يكفي أن يواجه المرء تجربة الاقتلاع الأولى حتّى يصبح مقتلَعًا من هنا إلى الأبديّة"!

وهكذا، فبالرغم من الفرح ولحظات النشوة التي يحملها هذا النصّ، فإنّه في جوهره يستحضر المنفى لا العودة. وهذه النغمة الشخصيّة هي بالضبط ما حافظت عليه الترجمة الممتازة الّتي تقدّمها أهداف سويف لقرّاء اللغة الإنجليزيّة.

هذا كتاب يجسّد لنا التجربة الفلسطينيّة بشكل يُؤَنْسِنُها ويعطيها، بأسلوبه الجديد، معنًى جديدًا.

إدوارد سعيد

نيويورك، آب (أغسطس) 2000